مواجهة...
من استطاع منكم ان يشهر قلماً في
وجهي فليفعل
بقلم الاسير: محمد عبدالفتاح
فرحان
أبدأ هذه المواجهة -إن صحّت
التسمية- محاولاً تسليط الضوء على جزء من جسد المد المتنامي، هذا
الجزء هو السجناء، هذه الكوكبة المغيبة، رغم كل الشعارات
المتتالية، رغم كثرة المتشدقين، وكثرة المتسلقين، وكثرة المجيدين
لفن الخطابة، ما يزيد المرارة في نفسي هو قلة الأفعال، ولا أبالغ
إن قلت انعدامها، حتى الأقلام التي تتبنى أولئك القابعين خلف
القضبان كأنها مكسرة، تعيش أشكالاً من التغييب المتعمد، فليس
هناك أي دور لإبراز معاناتنا العربية ومعاناة القابعين في زنازين
التحقيق والغرف الانفرادية، التي يقضون فيها سنين من العذابات
المتواصلة، وكأننا بُترنا من هذا الجسد، لتغيب ذكرانا وصورنا،
ليغيب فكرنا ودورنا، لتغيب كتاباتنا وإنجازاتنا وأعمالنا، تمر
السنوات تلو السنوات والطريق للحرية واضح وضوح الشمس في رابعة
النهار، إلاّ أن هذه الجموع الناعقة لا تعي إلاّ لغة المماطلة
والتلاعب بالألفاظ، لا!!لا...يا سادة المنصات والكلمات الرنانة،
والشاشات البراقة،" والكميرات" اللامعة...والملابس المزركشة
وربطات العنق، سنصرخ في كل المحافل، حتى وإن أغلقتم آذانكم،
سنصرخ فيكم، سنزلزل عروشكم، لن تهنأوا بالراحة والسكينة، لن
تنعموا فوق أسِرتكم الناعمة، سنقتحم عليكم كل القاعات، ستجدوننا
بين ثيابكم وطعامكم، في أكوابكم مع المياه، حتى وإن تعكرت، سنعبث
بفكركم، سنحوم في أحلامكم، لن تستطيعوا الفرار، لأننا قدركم.
سجون ومعتقلات وآلاف مؤلفة من
السجناء، رجال ونساء وشيوخ وأطفال، أعقمت نساء شعبنا من أن تلد
رجلاً يأخذ بيده زمام المبادرة، من يلون وجه التاريخ، من يعيد
الفرحة إلى وجوه آلاف الأمهات، من يمسح دموع الأطفال المنهمرة
على عتبات السجون، في أقفاص التفتيش وأماكن الانتظار، أتجرعتم
الهوان حتى أصبح كل شيء عندكم مقبولاً ومستساغاً، أكثر من عقد من
الزمان مرّ وأنتم تتشدقون وتكذبون على المنصات دون فائدة
تُرجى،دون محاولة حقيقية، حتى ما هادنتم عليه يكاد ينقضي وقد
تفرغتم للكراسي الجديدة والمكاتب الفاخرة.
من استطاع منكم أن يشهر قلماً في
وجهي أو حتى سيفاً فليفعل، وليكتب ما شاء ليواجهني، لكن عليه أن
يتزود بالحقائق بالتواريخ بالأعمال، لكن أرجوكم ابتعدوا عن
الشعارات، فقد مللتها كما ملّت أجساد السجناء هذا الفراش العفن
وكثرة المداهمات والبوابات المغلقة، ونظرات السجانين، والحقوق
المسلوبة، وحرية الكلمة والتعبير، مللنا القيود وحريتنا
المربوطة، بأيدٍ لم تولد.
مللنا الصور الجامدة، وهذه
الجدران الباردة ،والحرارة القاتلة، والشتاء القارس، وهذه
النوافذ المثقلة بأنواع الحديد، مللنا رؤية الأسلاك الشائكة،
مللنا جراحنا النازفة، تنقلاتنا بين الأبنية والسجون، والقيود
التي طالما أدمت الأيدي والأرجل، وكثيراً ما ضربت في الرأس
لتكسره، ليس العظم فقط، وإنما كسر الإرادة وزعزعة الفكر، والعبث
في ميزان الذاكرة، وخلق الأورام والآلام والجراح التي لا تزول.
مللنا الانتظار، وزمان سجننا
يطول بلا نهاية، أو حتى تباشير، حاولوا رفع الأقنعة عن كلماتكم
لنراكم أو ليراكم المتفرجون على حقيقتكم كما نعلمها، بأنكم
عاجزون مقعدون لا تتمتعون إلاّ بالتلاعب بالكلمات والقلوب
والخواطر والدموع المترقرقة من عيون الأمهات.
حاولوا أن تنبشوا في جدران
الغرفة لتعوا حقيقة السجون وقسوتها، لتعرفوا حجم المعاناة التي
يعيشها المعتقلون وذووهم.
بعدها حاولوا أن ترفعوا الغشاوة
عن العيون...
لا يسعني في نهاية رسالتي التي
إن شئت أن أسهب فيها ما انتهت، لذا أضع جداراً بيني وبينكم، هذا
الجدار هو هذه السجون المثقلة بكثرة الأعمال بعيداً عن الأسلاك
والحديد فهي تحمل أشواقاً حارقة وأشجاناً ملتاعة، وأحاسيس جيّاشة
وأوجاعاً وآلاماًً وأحزاناً وكثيراً من الأشياء الأخرى.
بقلم الاسير
محمد عبدالفتاح فرحان
سجن هداريم
20/9/2005 م
|