"بيان العشرين" كرة الثلج تتدحرج
بقلم : عماد أبو حطب
لم
يكن أحد من المتفائلين من الموقعين الفلسطينيين على البيان
الصادر يوم 27/9/1999 يعتقد بأن هذا البيان سيكون أشبه بالقنبلة
في الشارع الفلسطيني، "بيان العشرين" كما سمي الذي وقعه عشرون
شخصية سياسية وأكاديمية فلسطينية حمل بعنف على السلطة الفلسطينية
وكال لها من الصفات ما لم يقله "مالك في الخمر" داعياً للانتفاض
بوجه هذه السلطة ومقاومتها .
البيان حمل توقيع طائفة من الشخصيات من بسام الشكعة رئيس بلدية
نابلس الأسبق إلى وحيد الحمدلله رئيس بلدية عنبتا السابق إلى
تسعة من أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني وبعض ا لأكاديميين
الفلسطينيين في أراضي السلطة .
لغة
البيان اتسمت بالحدة والعنف حين دعا إلى الوقوف في وجه «الطغيان
والظلم والفساد»، متهماً السلطة باتباع سياسة رهيبة من الإفساد
والاستغلال والإذلال، بحق الشعب الفلسطيني، كما شكك بوطنية
السلطة حين قال «كان اتفاق أوسلو مقايضة للوطن بثراء بعض
الفاسدين المفسدين في السلطة الفلسطينية»، ولأول مرة في بيانات
تصدر في المناطق الخاضعة للسلطة وتحمل تواقيع أشخاص وليس أحزاباً
يتم اتهام رئيس السلطة بأنه المشرع الرئيسي للفساد بالقول:«والتي
شرّع رئيسها الأبواب ليعيث الانتهازيون في الشارع الفلسطيني
الفساد».
هذه
اللغة جاءت أشبه بالمناشير الثورية أو النداءات التي تسبق
الثورات وتحض على العصيان المدني وقلب السلطة .
السلطة الفلسطينية، من جانبها، لم تقف موقف المتفرج بل ردت بعنف
وبشكل سريع وفور صدور البيان، حيث اعتقلت أربعة من الموقعين
عليه، وفرضت الإقامة ا لجبرية بحق اثنين آخرين، وطالبت ا لمجلس
التشريعي برفع الحصانة عن أعضائه التسعة الموقعين على البيان
لتقديمهم لمحكمة أمن الدولة واصفة البيان بأنه «مسلسل مرعب من
الدجل والكذب والتضليل»، بل قام الأمين العام لمجلس الوزراء
الفلسطيني احمد عبد الرحمن برد الصاع صاعين حين وصف الموقعين على
البيان بأنهم «فئة ضلت الطريق الوطني إلى حد الانحراف عن رؤية
الواقع على حقيقته وتقف بعيداً عن الصف ا لوطني وتعمل على تيئيس
الشعب ولا تحركها إلا الوساوس والهواجس الذاتية» .
ولم
يلبث المجلس التشريعي الفلسطيني أن أدلى بدلوه حين انعقد يوم
1/12 وخرج ببيان إنذار ندد فيه باعضائه التسعة الموقعين على
البيان المذكور، ووصف، في ختام اجتماع طارئ عقده في غزة، بيان
العشرين بأنه «دعوة إلى الفتنة والاقتتال الفلسطيني»، كما دعا
الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات إلى اطلاق سراح المعتقلين من
الموقعين على البيان ووصف موقف المجلس بأنه خطوات تطويقية لما
حصل خاصة أنه لم يرفع الحصانة عن هؤلاء الأعضاء واكتفى بتوجيه
انذار إليهم.
ولكن
الامور لم تقف عند هذا الحد حيث حصل تطور خطير حين تعرض معاوية
المصري عضو المجلس التشريعي وأحد الموقعين على البيان لمحاولة
اغتيال أمام منزله في مدينة نابلس .
إن
هذا البيان ألقى حجراً في المياه الآسنة ولم تلبث الدوائر ان
اتسعت حين اصدر أكثر من مئتي شخصية سياسية ونقابية وأكاديمية
فلسطينية في الأراضي الفلسطينية بياناً مؤيداً ضمنياً لبيان
العشرين0 كما قام أكثر من ستين نقابياً وسياسياً في الأردن
بإصدار بيان نددوا فيه بسياسات السلطة القمعية وأعلنوا التضامن
مع "بيان العشرين" .
في
الجانب الآخر نزل آلاف الفلسطينيين إلى شوارع مدينة رام الله
للدفاع عن السلطة هاتفين بحياة رئيسها ومنددين بموقعي البيان .
«الوطن ينادينا» هكذا عنون بيان العشرين، وبهذه الجملة هاجمه
الآخرون متهمين الموقعين عليه بأنهم أداة بيد أطراف خارجية تريد
زعزعة الجبهة الداخلية الفلسطينية على أبواب مفاوضات الحل
النهائي ورابطين توقيت نزول البيان مع حملة السلطة اللبنانية ضد
مخيمات الفلسطينية في لبنان وحملة الصحافة السورية ضد السلطة
الفلسطينية وأدائها التفاوضي .
لكن
لماذا كل هذا الفعل ورد القوي والعنيف؟ ولماذا تنفجر الساحة فجأة
ودون سابق انذار حول أمور الفساد التي باتت حديث الساحة
الفلسطينية منذ تشكيل السلطة قبل خمسة أعوام حتى الآن.
قبل
كل شيء لا بد من التسليم بأن الوضع المعيشي في مناطق السلطة
الفلسطينية بات لا يحتمل للمواطن الفلسطيني الذي حلم وانتظر
«المن والسلوى» من جانب السلطة فإذا به يزداد فقراً وجوعاً إلى
درجة بات فيه 36% من سكان قطاع غزة يعيشون تحت خط الفقر وبنسبة
أقل في الضفة الغربية .
هذا
الوضع المعاشي المزري يقابل بثراء فاحش فاق حد المنطق والمعقول
لكثير من رموز السلطة الفلسطينية ولمحدثي النعمة التي ضاقت
بتصرفاتهم وببذخهم مدن الضفة والذين أسسوا الشركات واحتكروا جميع
المشاريع التي طرحتها السلطة لهم ولعائلاتهم وبالتنسيق مع
الشركات الاحتكارية الإسرائيلية والأجنبية، والغريب أن هذا الأمر
ليس بسر على أحد في الشارع أو في قمة السلطة حيث يتم التداول
علناً بأسماء هذه الشركات وأعضاء مجلس إداراتها وصلاتهم العائلية
بصناع القرار الفلسطيني وببعض الرموز في السلطة،وزكمت رائحة
الفساد أنف الجميع لدرجة صدور تقارير دولية حوله ثم تسليمها
للسلطة الفلسطينية من قبل ا لدول المانحة .
ولقد
نوقشت هذه الأمور جميعها داخل المجلس التشريعي الفلسطيني، وتمت
تسمية الأمور بمسمياتها وطرحت أسماء الفاسدين علناًَ، وطالب
المجلس حينذاك بمحاسبتهم واستبدالهم، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث،
فقد قبل الرئيس الفلسطيني استقالة مجلس الوزراء في ذلك الوقت
لكنه أعاد توزيع جميع الوزراء المتهمين بالفساد بل وسع هذا
المجلس وكأن شيئاً لم يكن .
وفي
الوقت الذي يتخبط فيه المواطن الفلسطيني بحثاً عن لقمة العيش نرى
أن السلطة في واد والشعب في واد آخر زادت من موازنات الأجهزة
الأمنية ووصلت إلى 36% من موازنة السلطة وبما يتجاوز موازنات
وزارات الشؤون الاجتماعية والتعليم العالي والصحة التي لا تتجاوز
موازناتها مجتمعة 31% من موازنة السلطة حسب "بيان العشرين" .
هذا
الواقع المأساوي لم يكن خافياً على أحد، وليس جديداً على الساحة
الفلسطينية فهو أشبه بقصة "إبريق الزيت" التي لا يمل أحد من
الحديث عنها والتندر بها للتخفيف من واقعه المأزوم .
والغريب فعلاً أن الحقبة الماضية شهدت صدور العديد من البيانات
الأكثر حدة وشمولية حول الوضع السياسي والفساد المستشري في
السلطة ولكنها لم تلق مثل هذه الضجة أو ردة الفعل من السلطة،
فلماذا كل هذا الآن؟
هذا
السؤال طرحه الجميع على موقعي البيان والسلطة وكأنه أريد لحادثة
البيان أن تضخم وتصل إلى ما وصلت إليه، موقعو البيان يقولون إن
الأمور باتت لا تطاق وأن على المعارضة أن تبادر للنزول إلى
الشارع خاصة بعد التململ الواضح في الشارع الفلسطيني الذي توجته
مؤخراً مظاهرات الجوع كما سميت وقد جرت في خان يونس وغزة، أما
السلطة فترد بأن الموقعين على البيان لم يراعوا الوضع الفلسطيني
وهم يتلقون أوامرهم من دمشق، ومن ثم الأمر أكثر من بيان بل هو
مشروع لزعزعة الوضع الفلسطيني الداخلي .
أي
مراقب للوضع لمس جزءاً من الحقيقة هنا وهناك، ولكن هذه الحقيقة
المجتزأة لدى الطرفين لا تبرز اطلاقاً رد فعل السلطة العنيف تجاه
الموقعين على البيان .
ولا
يخفى على أحد أن بعض الموقعين على البيان ناشطون في معارضة
السلطة واتفاق أوسلو، بل هم من الداعين للإطاحة بالسلطة وهم
منضوون في معارضة منظمة مركزها الأساسي دمشق. وهم لا يخفون هذا،
بل يعلنونه جهاراً وأهم هذه الرموز بسام الشكعة أحد المؤسسين
لتجمع دمشق المعارض للسلطة وكذلك ياسر أبو صفية القريب من "فتح
الانتفاضة" ومعاوية المصري وعبد الستار حسن المحسوبان على
الاتجاه الإسلامي وأحمد قطامش العضو القيادي في الجبهة الشعبية
لتحرير فلسطين .
هذه
الشخصيات المعارضية لها الحق في أن تبحث عن دور لها في إطار
الحركة السياسية الفلسطينية ما دامت لم تلجأ إلى العنف ضد السلطة
والاقتتال الداخلي. وهي تجد الفرصة مناسبة لها للتحرك الآن بسبب
حالة الفقر والتململ المتزايد في الشارع الفلسطيني وبسبب الاحباط
المتواصل من فشل اتفاقات أوسلو أو عملية السلام في إنجاز خطوات
كبيرة على الأرض تفتح الطريق أمام الاستقلال والحرية وتفتح الأمل
بعد مشرق لسكان الأراضي المحتلة .
كما
أن السلطة الفلسطينية وخلال خمسة أعوام من الإمساك بمقاليد
الأمور لم تستطع أن تؤسس لبناء مجتمع مدني ديمقراطي يضع اللبنات
القوية لبناء دولة ديمقراطية، وبدلاً من هذا كله فإن إدارة
السلطة لمناطقها تمت على نحو سيء مما ساهم في إثراء العديد من
رموز هذه السلطة، وترافق استشراء الفساد مع حملات قمع متواصلة
بحق كل من يعارض هذه السلطة من قوى سياسية أو شخصيات، حتى
الصحافة لم تسلم من هذا القمع .
وهكذا لم ير المواطن الفلسطيني في ممارسات السلطة إلا استنساخاً
لتجربة المقاومة في لبنان، بل هي نقل لدولة الفاكهاني من بيروت
إلى الضفة وغزة، ولكن على أرض مساحتها أكبر وعلى شعب تعداده
أكثر.
وسط
هذه الأجواء تتحرك المعارضة ذات الأطياف المختلفة من الدعوة إلى
حوار مع السلطة واقتسام الكعكة كالجبهتين الديمقراطية والشعبية
وصولاً للقوى الداعية للإطاحة بالسلطة كحركة "حماس" وطيلة
السنوات الماضية كانت العلاقة مع السلطة والمعارضة ضمن "مد وجزر"
لكنها بقيت محكومة بقوانين وأعراف متفق عليها ضمنياً وأهمها عدم
إثارة الشارع الفلسطيني ضد رئيس السلطة تحديداً وإبقاء المعارضة
ضمن الإطار السياسي، وبالمقابل امسكت السلطة بمقاليد الأمور عبر
ضرب أي محاولات لممارسة النشاط العسكري والمعادي لإسرائيل.
"بيان العشرين" خرق هذا التفاهم الضمني حين اتهم رئيس السلطة
مباشرة بالفساد وحين نقل المعارضة من المعارضة السياسية إلى
محاولة ركوب موجة ا لحنق والغضب الفلسطيني من تردي الوضع
المعيشي، وهو الأمر الذي أقلق السلطة بشكل واضح وجعلها ترد على
البيان بحملة قمعية سريعة وبرد فعل غير محسوب .
ومن
الأمور اللافتة للانتباه عدم مشاركة المعارضة المنظمة في التوقيع
على البيان برموزها الأساسية وكأنها نأت بنفسها عن هذا البيان
رغم إعلاناتها المتكررة بأنها ضد الفساد واتفاقات أوسلو .
رد
فعل السلطة الفلسطينية جاء غاضباً ومرتجلاً وضمن هياج وانفعال
واضحين لم تلبث ان دفعت السلطة ثمن ذلك سريعاً حين اتسعت دائرة
التأييد لـ "بيان العشرين" داخل الشارع الفلسطيني والجامعات
والمثقفين داخل أراضي السلطة وفي مناطق الشتات وظهور حملات
التنديد بممارسات السلطة القمعية والدعوات للإفراج عن المعتقلين
من الموقعين على البيان .
البيان ورد الفعل عليه باتا أشبه بكرة الثلح التي تدحرجت والتي
ستجرف بطريقها الأخضر واليابس إذا لم تبادر السلطة الفلسطينية
إلى استخلاص الدروس مما حدث، فالمواطن الفلسطيني مقتنع بأنه في
هذا الظرف ا لسياسي وعلى أبواب مفاوضات الحل النهائي مطالب
بالوحدة والتراص وتكامل الجهود ولكنه في الوقت ذاته غير مستعد
للسكوت عن أخطار قاتلة تتزايد على المستوى السياسي والإداري
والاقتصادي ولا يدفع ثمنهاإلا من حياته ولقمة عيشه.
لقد
باتت السلطة الفلسطينية مطالبة الآن، على نحو جاد، بالوقوف أمام
حالة الفساد وسوء الإدارة الممارسة داخل مؤسساتها وفي الوقت ذاته
مد يد الحوار مع المعارضة الفلسطينية من أجل تصليب الوضع الداخلي
أمام الاستحقاقات القادمة .
وإذا
كانت السلطة على حق في خوفها من المحاولات الخارجية للتدخل في
الشأن الفلسطيني فإن هذا الخوف يجب أن يدفعها إلى تغليب منطق
العقل والحوار على منطق القمع والفساد .
كما
أن المعارضة ذات الحق في إيصال صوتها إلى الشارع الفلسطيني من
أجل تصويب أداء السلطة السياسي والإداري مطالبة في الوقت ذاته
باللجوء إلى لغة العقل والحوار وعدم الانجرار إلى لعبة خطرة
مدمرة أساسها التناحر والعداء والسماح للأطراف الخارجية بأن تصفي
حساباتها مع السلطة الفلسطينية عبر نشاط هذه المعارضة دون أن
تدري .
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في ألمانيا |