غياب
الرئيس عرفات
بقلم
: أنور حمام
من
المؤكد أن الرئيس ياسر عرفات –أبو عمار – الختيار، هو آخر القادة
التاريخيين،الذين أنتجتهم مرحلة مقاومة الاستعمار الحديث،
وبغيابه ستطوى صفحة لمسيرة قادة عظام صنعوا حالة فذه من المقاومة
والبأس وعبقرية الوجود، مليئة بالشرف والرجولة واقتناص اللحظات
الحاسمة رغم حلكة الظروف، اعتمادا على قدرات خاصة وكارزما
تاريخية قادرة على تحليل الواقع وفهمه وإيجاد إجابات للأسئلة
التي يطرحها الواقع الاجتماعي والسياسي والوجودي بشكل عام.
فياسر عرفات ومنذ بداياته الأولى وحتى اليوم ظل وجها واسما ورمزا
كبيرا، وغطى اسمه الجزء الأكبر من مساحة الفعل التاريخي طوال
النصف الثاني من قرن الماضي وحتى مطلع القرن الحالي، في منطقة
هي من أعقد وأخطر بقاع الدنيا، وأكثرها توترا وحراكا، حيث تتقاطع
وتتناقض فوقها المصالح، والمعتقدات، والأيديولوجيات، ومراكز
القوى، والخرافات والحقائق، ومنها ينطلق المد الإمبراطوري
وينحصر، ومنها مرت كل القوى الغاشمة والخيرة في تاريخ البشرية،
ورغم كل ذلك ترك عرفات بصمات واضحة على ماضي وحاضر ومستقبل هذه
المنطقة والعلاقات والقيم والرموز والتحالفات والمصالح داخلها.
بموت
هذا الرجل التاريخي الكبير ستطوى صفحة كبيرة من عمر شعبنا وامتنا
وإنسانيتنا، وبغيابه نحن مقبلون على مرحلة جديدة تماما، بشخوصها
وأدواتها وأولوياتها ورؤيتها وبرامجها، رغم كونها امتداد في
الأهداف والثوابت للمرحلة العرفاتية التي هي التأسيس الحقيقي
للفعل الفلسطيني منذ أواسط القرن الماضي، فمرحلة ياسر عرفات هي
حالة فريدة، بثقافتها وعلاقاتها وقيمها، التي لطالما شكلت حالة
الوحي والإلهام لشعب قرر الانعتاق من الاحتلال، طوال الخمسين سنة
الماضية، فبكلماته صاغ رؤيا فلسطينية علقت في عقول الفلسطينيين
وقلوبهم، وهو الذي كان يقف ليذكرنا بقوة العلاقة بين السماء
والأرض، وان مركز هذه العلاقة يكمن في بيت المقدس وأكناف بيت
المقدس، وهو الذي أشاع ثقافة التسامح الديني بتأكيده الدائم على
مقولات التسامح والإخاء والاحترام والتي كانت تحمل بداخلها
دلالات عالية وقيمة ومؤثرة في سلوكنا الجماعي كشعب.
ولكن
السؤال الكبير الذي يليق بمكانة ورمزية ياسر عرفات يدور حول
قدرتنا كفلسطينيين من تحويل غياب عرفات الى إرادة، وقدرة،
وميلاد، وحياة، ومقاومة، وتحويل غيابه أيضا كدافع نحو التواصل
والاستمرار، والعمل الوحدوي، والبناء، ورفض الفتنة أو الاقتتال
أو الفوضى أو الخروج عن حالة الإجماع الوطني.
إن
الإجابة على هذه الإشكالية الكبرى تتطلب دراسة معمقة وجدية
لقدرات عرفات التاريخية( وهذا المقال لا يتسع لها)، وكيف فهم أنه
على مستوى اللحظة التاريخية ولم يتنازل ولم يعرض قضيتين أساسيتين
للمساومة، وهما حقوق اللاجئين في العودة واستعادة الممتلكات
والتعويض وقضية القدس، فتحرير فلسطين بدون القدس بنظر ياسر عرفات
لا يمكن أن يسمى تحريرا، وإلا لماذا لا زلنا نذكر صلاح الدين
ونبوخذ نصر وعمر بن الخطاب، هل لأنهم حرروا فلسطين أم لأن
أسماؤهم ارتبطت بالقدس كمكان له ارتباطات رمزية وتاريخية
وعقائدية ووجودية، وأيضا بخصوص اللاجئين، فقد آمن الرئيس عرفات
أن أي حل سياسي دون معالجة جدية وجوهرية لقضية اللاجئين لن تكون
إلا مجرد ذر للرماد في العيون وستفتح المنطقة نحو مزيد من
الصراع، إن تمسك الرئيس عرفات بهاتين القضيتين حتى الرمق الأخير
من عمره وحياته جعل منهما المعيار والعنوان والخط أحمر الذي حدده
عرفات لم سيأتي بعده، وجعل منهما امتدادا طبيعيا لثوابته التي هي
ثوابت كل الفلسطينيين، رغم ما سنلمسه من فروق على مستوى
التكتيكات السياسية وضروراتها البراغماتية للمرحلة التي ستخلف
عرفات.
موت
عرفات الذي هز نفوسنا من الأعماق وحرك دموع الرجال يدفعنا جميعا
كفلسطينيين أن نعاهد الرجل بكل صدق بأن نحمي كل الأهداف والكبرى
التي عاش ومات من أجلها، من هنا يأتي الحرص على التمسك بمنظمة
التحرير الفلسطينية كمظلة سياسية يستظل بظلها كل الفلسطينيين في
الوطن والشتات، والتي يجب تفعيلها وتطوير ودمقرطة العمل داخلها،
وحركة فتح مطالبة بأن تبرهن أكثر من أي وقت مضى بأنها حركة الشعب
الفلسطيني وحالة الإجماع وعمود الخيمة وراس الحربة وصاحبة
المبادرة، وفتح عليها أن تبتكر آليات العمل القادرة على تعويض
الخسارة الكبرى بغياب الرمزية التاريخية وقدراته الشخصية، فمن
الصعب أن نجد من يسد الفراغ الذي سيحدثه غياب هذا الرجل برجل، بل
سد الفراغ سيكون عبر الحفاظ على المؤسسة الفتحاوية والارتقاء بها
وتفعيل كل مؤسساتها وخاصة المؤتمر العام.
وأخيرا هناك من يحاول القول بأن غياب عرفات سيؤجج الصراع داخل
المنظمة وحركة فتح بين ما يسمونه الحرس القديم والحرس الجديد
وهذه مقولات مستوردة ألصقت بواقعنا غصبا، وبالتأكيد هذه المقولات
لا تعكس واقعنا، فليس هناك صراع بين القديم والجديد، بل الصراع
الأساسي وهو الصراع والتناقض من الاحتلال كمشروع يهدف الى طمس
المشروع الفلسطيني بأرضه وثقافته وهويته، ومروجو الصراع بين قديم
وجديد هما من خريجي مدارس غير مدارسنا التي تربينا وتعلمنا فيها
وهم دائما يحاولون الهروب من الأسئلة الكبرى حول الصراع مع
المشروع الاحتلالي والاستيطاني ، وتقزيم وتقليص الصراع بين
ثنائيات داخل البيت الفلسطيني، وهم بذلك يشوهون صورة الواقع
وحقيقة العلاقات داخل مجتمعنا ومؤسساتنا ومنظمتنا.
يغادرنا عرفات الى سماء الأبدية، معلقا الصراع، رافضا التنازل،
محددا سقفنا التفاوضي، وحدودنا الأخلاقية والسياسية، وبموته كرجل
فضل نهاية فردية على أن ينهي الصراع دون تسوية حقيقية، بل ظل حتى
اللحظة الأخيرة مدركا ان الثوابت الوطنية من حقوق لاجئين
والانسحاب الكامل من الأرض المحتلة والسيادة الفلسطينية عليها
بقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس هي الخطوط حمر لا يمكن
اخضاعها للمراهنات أو المساومات التفاوضية.
|