أجيال
الإنتفاضة
المخيم في طليعة مقاومة
الاحتلال، وحسام خضر واحد من الشباب الغاضب الذي
يأخذ على عاتقه مسئولية تحريك المجتمع
الفلسطيني، ولجنة الشباب للعمل الاجتماعي
«الشباب» تستقطب الفتيان للمشاركة في الأنشطة
الرياضية والثقافية، وأمور المصلحة العامة
وتنظيم الشباب يعاقب أو يطرد المتعاملين
«العملاء» وكذلك الأشخاص المتهمين بممارسات لا
أخلاقية، ويستطيع أيضاً دفع الجيش الإسرائيلي
إلى خارج المخيم. وفي بداية الثمانينيات كان
القائد العسكري لا يخاطر في الدخول إلى بلاطة
إلا من أجل تطبيق منع التجول.
وقبل شهر من اندلاع
الانتفاضة شنت الإدارة المدنية حملة على المخيم،
لكن سكان المخيم جميعاً صدوا هذه الحملة ببسالة،
وهم اليوم يقومون بالعمل نفسه أمام الأجهزة
الأمنية الفلسطينية. يقول ناجي: «السلطة
الفلسطينية لا تستطيع دخول مخيم بلاطة والمشاركة
الواسعة للاجئين في الانتفاضة كان لها فضل في
تعديل التمثيل الفلسطيني لمصلحتهم، وأصبح الجيل
الثاني والثالث يعتز بانتمائه إلى المخيمات، بعد
أن أثبت سكان هذه المخيمات بطولاتهم، ومع ذلك
فإن شباب مخيمي الشاطئ وبلاطة يعبرون عن آمال
مختلفة، فبعضهم مع استمرارية العيش في المخيم،
بينما يأمل آخرون بالإقامة في المدينة، فهي تحقق
لهم رغبة الصعود في السلم الاجتماعي، وناجي يمضي
بعض الوقت في المخيم، لوجود أصدقائه وبحكم
متطلبات العمل، لكن اقامته في نابلس توفر له
الرضا، ويضيف : «لن أعود للإقامة في المخيم،
فعندما نتقدم لا نعود إلى الخلف، وأطفالي يمرضون
عندما أصطحبهم إلى المخيم».
تذويب المؤسسات
تم استبعاد حسام خضر من
القائمة الرسمية لفتح، فقرر خوض الانتخابات
التشريعية مستقلاً في يناير 1996، وانتصاره في
الانتخابات دليل على القاعدة الصلبة التي يتمتع
بها في بلاطة، يدافع حسام خضر عن المبادئ
السياسية والأخلاقية، مع احتفاظه بالحنين للنظام
الثوري والاجتماعي الذي ساهم ببنائه على أرض
الواقع في بداية الثمانينيات. والمعركة ضد
إسرائيل ـ كما يرى ـ تستوجب إعادة تنظيم
المجتمع، وتخليصه من العناصر الفاسدة، ونشر روح
التعاون والتماسك، لكن هذا كله يصطدم بمعوقات
كثيرة في ظل السلطة الفلسطينية. أنشأ حسام مركز
يافا الثقافي لرعاية الشباب ثقافياً وسياسياً
ولترسيخ القيم الأخلاقية، ويمثل حسام النموذج
الصريح، لمواجهة رئيس بلدية نابلس غسان الشكعة،
وقد خاض معارك ميدانية عديدة ضده في قضايا أسعار
الخدمات والبطالة والفقر.
جرت انتخابات الرئاسة
الفلسطينية والمجلس التشريعي في يناير 1996
بطريقة مرضية، على الرغم من بعض الشوائب
الهامشية. فنسبة المشاركة 79.7% أظهرت إرادة
وحماساً من المجتمع للمشاركة في نظام تمثيل
وطني، ولم تفرز الحملة الانتخابية الظروف لتنافس
سياسي حقيقي، وقد قاطع الانتخابات المعارضون
لأوسلو من إسلاميين ويساريين، وبالتالي رفضوا
المساهمة في البنيان السياسي. وكانت المنافسة
على المقعد النيابي محصورة في المنتمين إلى حركة
فتح، على الرغم من أن بعضهم طرح نفسه على أساس
مستقل كما لم تحدث خلال الانتخابات مناقشات
سياسية.
وكانت النتيجة فوز
الغالبية من أعضاء التشكيلة السياسية لياسر
عرفات، وهو الأمر الذي يبعث على الخوف من أن
يقتصر البرلمان على مجرد المصادقة على قرارات
السلطة التنفيذية، ولكن الذي جرى في الواقع غير
ذلك، فتحت ضغط شخصيات الداخل أكد المجلس النيابي
استقلاليته، وعندما طرح مسألة الفساد عام 1997
أثبت جسارة حقيقية، فقد أشار تقرير اللجنة إلى
العديد من أعضاء الحكومة بسوء الإدارة والفساد
المالي، وأدت هذه الانتقادات إلى الاستقالة
الجماعية للحكومة، واستمرت المناقشات حول الفساد
أكثر من سنة، إلا أن النواب أنفسهم استنكروا
الطريق الذي سلكوه فيما بعد بالموافقة على إعطاء
الثقة لنفس الحكومة المقترحة من قبل الرئيس
الفلسطيني.
حسام خضر كان ساخطاً
وغاضباً بسبب غياب الشجاعة السياسية لأعضاء
البرلمان، وعرفات استطاع شل المقاومة الهشة
للمعارضين، بضم غالبية النواب لسلطته، ومحتوى
الاتفاق السري بين «الختيار» وأعضاء المجلس لم
يُعرف أبداً، وتوقف بث جلسات المجلس التشريعي
تلفزيونياً، وتتجاهل السلطة التنفيذية عمل
المجلس، وعرفات لا يوافق دوماً على التوقيع على
القوانين المصادق عليها من قبل المجلس، كما أنه
لا ينفذ القوانين الموافق عليها، وفي ظل غياب
دستور ينظم صلاحيات السلطات الثلاث، لا يستطيع
المجلس التشريعي الاعتماد على نظام شرعي، بتوجيه
المعركة ضد الرئيس، والرئيس غير معني على
الاطلاق بالانصياع للقانون، وإنما فرض شرعية
شخصانية وثورية كما لو أنه يمدد بذلك وظيفة
منظمة التحرير، وليس من السهل المطالبة بقوانين
حقوقية للدولة، في ظل غياب قيام دولة فلسطينية.
وجهود عزمي الشعيبي في أن تخضع السلطة التنفيذية
إلى أنظمة مالية تتحلى بالشفافية، باءت بالفشل،
وانتهت بالضغط عليه لتقديم استقالته.
وكان الشعيبي وزيراً في
أول حكومة للسلطة الفلسطينية، والرئيس الفلسطيني
يستخدم الأموال لضمان السيطرة الفاعلة على
الحياة العامة، والمؤسسات السياسية. كما يعتمد
أسلوب التعامل المباشر مع الأشخاص ليذيب دور
المؤسسات، وبهذه الطريقة تم إلغاء مجلس الوزراء
مما أدى إلى غياب الحوار بين مختلف أعضاء
الحكومة وكذلك اجبار الوزراء على التعامل حصراً
مع الرئيس. وبتعيينه لمسئولين مختلفين في ظروف
تنافسية، فانه يوفر سلطة أكبر لموقعه المركزي،
وسلطة المسئولين ليست مرتبطة بكفاءتهم وإنما
بقربهم من شخص ياسر عرفات. وهكذا نجد أن الحياة
السياسية مقفلة، ففتح لا تستطيع الخلاص من وصاية
الرئيس، ولا تتمكن من فرض نفسها كحركة فاعلة،
طالما أن التمويل يخضع للرئيس، وتوزيع المناصب
يعتمد على درجة الولاء لشخصه، والقليلون من
عناصر فتح هم الذين يمتلكون موارد خاصة تحررهم
من سلطة عرفات وبالتالي تدفعهم للنشاط السياسي.
وهذه الامور تؤثر على
المواطنين البسطاء، الذين لم تعد لهم ثقة
بالنواب الذين «لا يفعلون شيئاً للشعب»، وهم في
الوقت نفسه يستنكرون المزايا العديدة التي
يتمتعون بها، ولكنهم يلجأون إليهم لحل قضاياهم
الشخصية، ويجري ذلك بالطبع في ظل غياب المؤسسات
النزيهة التي تعمل على تحسين أوضاعهم الاقتصادية
والمعيشية. واستجابة النواب لهذه المطالب، تخضع
لقربهم من دوائر القرار في السلطة، ونواب
المعارضة الذين لا يستطيعون الاعتماد على تاريخ
عائلي عريق، أو ثروة شخصية، فإنهم الأبعد عن
تحقيق مطالب ناخبيهم. ومن أجل الحفاظ على
مواقعهم الانتخابية عليهم الدخول في اللعبة.
وحسام خضر على الرغم من
بعده عن الدوائر المقربة من عرفات وتشهيره
اللاذع بالفساد المفرط في السلطة فانه يستمر
بتعزيز علاقاته، وهو بذلك ورغماً عنه يسهم
بتعزيز منطق النظام الذي يثور ضده. والدكتور
معاوية المصري أحد أعمدة نابلس الأقوياء ولكنه
(فقير نسبياً)، وجد نفسه في الحملة الانتخابية
في مواجهة ابن عمه ماهر المصري، وزير الاقتصاد
في السلطة، ونجح الاثنان، وغالباً ما ينظر إلى
الدكتور معاوية كمقرب من الحركة الإسلامية لعمله
في لجنة زكاة المدينة، مع أنه يعلن عن نفسه بأنه
مستقل ويعمل على نجدة المعوزين، مستعيناً بما
جمعه من أموال أثناء عمله في السعودية والكويت.
يقول الطبيب انه في نابلس
لا يقبض شيكلاً واحداً من مرضاه وغالباً ما يدفع
ثمن الأدوية ويضيف: «إِنني أساعد كل من يلجأ
إلي، سواء كنت أعرفه أم لا». ورأفت النجار ينتمي
للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أمضى سبعة عشر
عاماً في السجون الإسرائيلية لنشاطه الثوري،
وأطلق سراحه في أعقاب اتفاق اوسلو، وهو من عائلة
كبيرة في خانيونس، خاض الانتخابات خلافاً لموقف
الجبهة المقاطع لها، مبرراً خياره بأن التزامه
بالوطن أكبر من الإلتزام الحزبي. شارك النجار في
النضال ضد الفساد، وهو يقدم خدماته للناخبين
ولكنه يرفض التدخل في الضغط على العدالة، ويعترف
بأن الخدمات المقدمة للناخبين تعزز التنافس بين
النواب.
حق التعبير المحدود
تسهر قوى الأمن الفلسطيني
على حفظ النظام، وضمان الالتزام السياسي، فهي
تتكفل بتوصيل رسالة للمتحمسين كي يحدوا من
اندفاعهم، وتمارس الأجهزة الاستخبارية والتي
تستخدم أعداداً كبيرة الرقابة على المواطنين،
ففي يونيو 1996 اعتقل مصور فلسطيني يعمل لدى
الوكالة الفرنسية للإعلام وتعرض للضرب العنيف.
ويتعرض ممثلو الجمعيات والمنظمات العاملة في
مجال حقوق الإنسان للرصد المستمر من قبل الأجهزة
الأمنية الفلسطينية، إذ تعرض عبد الستار قاسم
الأستاذ في جامعة نابلس إلى إعتداء عام 1995
واعتقال في أواخر عام 1999 بسبب توقيعه على
«نداء العشرين».
واعتقل البعض من الموقعين
على النداء، فيما عدا النواب، لتمتعهم بالحصانة
البرلمانية، وقامت السلطة التنفيذية بممارسة
الضغط على المجلس التشريعي لحرمان هؤلاء النواب
من الحصانة، وسحب حسام خضر توقيعه بعد اتصال
الأجهزة الأمنية به على الرغم استمراره في نقد
الفساد، وعبد الجواد صالح رئيس بلدية البيرة
والمقال من منصبه والمبعد من الضفة في
السبعينيات، واحد الموقعين على النداء، تعرض
للضرب في جهاز الأمن الوقائي.
وتبقى الجامعات
الفلسطينية ميداناً للنقاش والتعبير السياسي،
على الرغم من تدخلات الأجهزة الأمنية
الفلسطينية، فقد تم اقتحام جامعة النجاح في
نابلس عام 1996 واعتقل حوالي مئة طالب وتعطلت
الدراسة لمدة أسبوع. وعملية الاقتحام أثارت
الذهول والغضب في الضفة الغربية لدرجة اضطر معها
ياسر عرفات لزيارة نابلس ومحاولة تهدئة الخواطر،
ويحكم رئيس محكمة العدل العليا بإطلاق سراح
الطلاب لكن القرار لا ينفذ.
دراسة المجتمع الفلسطيني
ومؤسساته لا يمكن أن تعطي تحليلاً اقتصادياً
لعلاقاته مع إسرائيل. وقيام الحكم الذاتي في
قطاع غزة وعلى جزء من الضفة الغربية، أسهم في
تخفيف حدة الهيمنة الإسرائيلية، ومعاناة
الإسرائيليين في مواجهة تزايد العمليات
الإستشهادية دفعت بقادتهم إلى تخيل نظام أمني
يبعد عنهم كل الأخطار الفلسطينية.
وبينما كانت سياسة
إسرائيل طوال سنوات الاحتلال، تهدف إلى التكامل
الاقتصادي، لاثبات استحالة قيام دولة فلسطينية،
فإنها الآن تهدف إلى فصل جسماني مادي لضمان
الأمن في إسرائيل، والتخلص من أعباء الاحتلال
الأخلاقية والسياسية والعسكرية، ويفضل القادة
الإسرائيليون إحداث تطوير اقتصادي في الأراضي
الفلسطينية، اعتقاداً منهم بأنه يسهم في تحقيق
الاستقرار السياسي. وفي الواقع تقيم الدولة
العبرية علاقاتها الاقتصادية مع الفلسطينيين على
أساس مبدأ الفصل بين المجتمعين، وبالتالي تفرض
سيطرة مشددة على البضائع الواردة من الضفة وغزة،
وكذلك في إجراءات التفتيش مما يعرقل التطور
الاقتصادي.
شجعت إسرائيل ومؤسساتها
تشغيل الفلسطينيين لديها منذ السنوات الأولى
للاحتلال، وهذه السياسة فرضت التبعية الاقتصادية
على الفلسطينيين، ولكنها رفعت من المستوى
المعيشي لهم، وهؤلاء يتكلمون العبرية ولهم
علاقات مع المجتمع الإسرائيلي، قد تكون ودية أو
العكس، فمنهم من كان يلجأ إلى إخفاء هويته
الوطنية لضمان استمرارية عمله في إسرائيل. يقول
فؤاد أحد أعضاء تنظيم الشباب في نابلس: «كنت
أدعي بأنني إسرائيلي، وكذلك أخي أصبح
«إسرائيلياً» فهو يتكلم العبرية بطلاقة».
الوضع الإقتصادي في غزة،
كان يفرض على سكانها بيع قوة عملهم إلى إسرائيل،
وحتى عام 1993 كانت نسبة العاملين من غزة ما بين
(35 ـ 40%)، ومن الضفة ما بين 25-30%، وعلى
الرغم من استحداث مئة وسبع وستين ألف وظيفة في
غزة والضفة ما بين 1995 ـ 2000 إلا أن ذلك لم
يحدث تغييراً جوهرياً في الاعتماد على إسرائيل،
أو تخفيف حدة البطالة، وعندما يفرض الإسرائيليون
الاغلاق على المناطق الفلسطينية فإن عدد
العاطلين عن العمل يتضاعف، إذ يصل في غزة إلى
32.5% و23.8% في الضفة.
والعمل في إسرائيل لا
يزال مصدراً مهما للدخل فبينما يتقاضى الشرطي
الفلسطيني في الضفة نحو مئتين وسبعين دولاراً
شهرياً فإن العامل في إسرائيل يتقاضى ما بين 360
ـ 960 دولاراً في الشهر. ولغاية عام 1988 كان
الفلسطينيون أحراراً في الوصول إلى إسرائيل
والعمل فيها، إلا أن إسرائيل أنشأت فيما بعد
نظام الأذونات، لتنظيم المسألة وبشروط معينة
منها أن يكون العامل متزوجاً وعمره أكبر من
ثمانية وعشرين عاماً، لأن أصحاب القرار السياسي
في إسرائيل يعتبرون الشاب الأعزب أكثر جرأة في
الإقدام على أعمال العنف (كما يسمونه).
وبالطبع استفاد الاقتصاد
الإسرائيلي من العمالة الفلسطينية وقطاعات
البناء والنسيج والزراعة استوعبت الجزء الأكبر
من هذه العمالة، وهذا الأمر أوجد تعارضاً بين
متطلبات الأمن ومصالح أصحاب العمل في بداية
التسعينيات حين قامت إسرائيل بتقييد حركة
الفلسطينيين فانخفضت الأيدي العاملة الفلسطينية،
وتم تعويض هذا النقص باستيراد عمالة أجنبية من
رومانيا وجنوب شرق آسيا. وعلى الرغم من ذلك
استمرت إسرائيل في الاعتماد على قوة العمل
الفلسطينية، لأن جزءاً من المقاولين
الإسرائيليين يفضلون ذلك، ولأن الحكومة
الإسرائيلية بدورها تعتقد بأن ذلك يؤدي بشكل غير
مباشر إلى تخفيف حدة التوتر بين الجانبين،
فالمستوى المعيشي المتدني يغذي التطرف والعنف
السياسي.
ولكن منذ قيام الحكم
الذاتي وتزايد العمليات (الاستشهادية) تعرضت
سياسة الاعتماد على العمالة الفلسطينية إلى
تغيرات هائلة، فقد أصبح واضحاً أن هنالك إرادة
للاستغناء عن هذه العمالة في سوق العمل
الإسرائيلي. وما بين عامي 1990 ـ 1993 استخدمت
إسرائيل مئة إلى مئة وعشرين ألف فلسطيني وحوالي
عشرة الآف عامل أجنبي، ولكنها في عام 1993 ورداً
على العمليات التفجيرية خفضت من العمالة
الفلسطينية، فاستوردت ستين ألف عامل أجنبي، وفي
عام 1996 أصبح عدد هؤلاء مئة وعشرة الآف عامل
بينما لم يزد عدد الفلسطينيين عن ثلاثين ألفاً.
والحكومة الإسرائيلية تعي مخاطر تدفق المهاجرين
الجدد غير اليهود إليها، فبينهم الكثير من
المقيمين بصورة غير شرعية، عدا عن أن العمال
الفلسطينيين يتقنون العبرية ويعرفون طبيعة
المجتمع الإسرائيلي وقدرتهم على العمل متميزة،
والأهم من ذلك كله أنهم يعودون إلى منازلهم خارج
إسرائيل مساءً على عكس العمالة الأجنبية.
وأصحاب العمل
الإسرائيليون يضغطون على حكومتهم من اجل التسهيل
للعمال الفلسطينيين «الأقل كلفة والأكثر
إنتاجاً». وقطاع الإنشاءات هو الأكثر حاجة فما
بين عامي 1993 ـ 2000 تم بناء تسع وأربعين
مستوطنة جديدة في الضفة الغربية لاستيعاب
المستوطنين، حيث استقبلت إسرائيل في الفترة من
1990 ـ 1998 تسعمئة وثمانين ألف مهاجر جديد
معظمهم من الاتحاد السوفييتي السابق، وبالتالي
نما قطاع الإنشاءات بنسبة 8.7% سنوياً، وفي عام
1998 شكل العمال الفلسطينيون 25% من العاملين في
قطاع الإنشاءات، على الرغم من القيود المفروضة
على حركة الفلسطينيين. ووصول حكومة بنيامين
نتانياهو إلى السلطة في العام 1996، أحدث تحولاً
في سياسة استخدام الأجانب في إسرائيل، فإضافة
للقلق الناشئ عن وجود هؤلاء في إسرائيل، فإن
اليمين في إسرائيل يعارض مبدأ الفصل بين إسرائيل
والأراضي الفلسطينية، إذ أن هذا الفصل يؤدي
بالضرورة إلى تبلور هوية فلسطينية ذات سيادة،
ومنذ بداية ديسمبر 1997 أصدرت إسرائيل ثمانية
وأربعين ألف تصريح عمل إضافي لعمال الضفة
والقطاع.
وفي عام 1998 تبنت
الحكومة العديد من الإجراءات في هذا المجال مثل
تخفيض سن العامل حتى ثلاثة وعشرين عاماً،
والسماح لقسم من العمال بالإقامة قرب أماكن
عملهم، وبموازاة ذلك شددت الإجراءات على العمالة
الأجنبية، ولم تغير حكومة باراك عندما وصلت إلى
السلطة عام 1999 من سياستها في هذا الإتجاه، ففي
عام 2000 وقبل إندلاع الإنتفاضة كان عدد العمال
القادمين من الضفة حوالي مئة وخمسة عشر ألف عامل
(نصفهم بشكل غير شرعي) وثلاثين ألف عامل من غزة
يحملون تصاريح عمل. لكن إندلاع الإنتفاضة في
سبتمبر غيّر الأحوال، فالأراضي مغلقة وأذونات
العمل معلقة. ومع ذلك استمر عشرون ألف عامل
فلسطيني من الضفة بالتسلل للعمل في إسرائيل.
والمستعمرات وقطاعات الصناعة لا تزال تستخدم
الآف العمال الفلسطينيين.
أقامت إسرائيل في بداية
التسعينيات نظام الأذونات الذي ينظم حركة
الفلسطينيين، فقّلت بشكل ملحوظ حركة الفلسطينيين
باتجاه القدس وإسرائيل أو ما بين الضفة وغزة،
وبالتالي فإن العمل في إسرائيل وتسجيل الغزاويين
في جامعات الضفة والزيارات العائلية والعلاج
كلها تخضع لإرادة إسرائيل. وفرضت العمليات
(الإستشهادية) اعتباراً من عام 1994 على
القيادات الإسرائيلية تصليب هذه الإجراءات،
فيلاحظ الحد الكبير لحرية حركة الفلسطينيين
بدرجة تتناقض مع تطور المفاوضات، فكلما حصل
الفلسطينيون على شكل من السيادة فإنهم في
المقابل يخسرون أكثر فيما يتعلق بحريتهم في
الحركة، بحيث أصبحت المقولة السائدة هي «السلام
الموقع يتطابق مع الإغلاق»، وأذونات التنقل لها
شروطها القاسية وعلى رأسها موافقة الشين بيت
«الأمن العام» التي تعني أن شباب الإنتفاضة
محكوم عليهم بعدم الحركة، وتصاريح العمل تشترط
مغادرة إسرائيل قبل السابعة مساءً، وفئة رجال
الأعمال يستطيعون البقاء في إسرائيل. وهناك حملة
بطاقات الشخصيات البارزة (V.I.P) من مسئولي
السلطة الذين يتمتعون بحرية الحركة، والإجراءات
تختلف بين الضفة وغزة.
غزة خلف القضبان
غزة في نظر الإسرائيليين
هي مأوى للمتطرفين الجاهزين لارتكاب أعمال عنف
ضدهم، والإنتفاضة بدأت فعلياً من مخيمات
اللاجئين في القطاع. وغزة قنبلة ديموغرافية
متفجرة، فقد وصلت نسبة الإخصاب فيها عام 1994
الى 7.4 طفل/امرأة، ويعتبر الإسرائيليون الطبقات
الشعبية في غزة أكثر راديكالية من التي في
الضفة، ونتيجة لكل هذه العوامل بحث الإسرائيليون
عن طرق لحماية أنفسهم من الغزاويين، ومنها أن
قلة من الإسرائيليين استوطنوا في القطاع، فليس
هناك سوى خمسة الآف مستوطن، وتم تعزيز السيطرة
على القطاع بحكم جغرافيته فهو شريط بطول 40كم
وعرض 10كم، وقبل إنتقاله للسلطة الفلسطينية،
أقامت إسرائيل جداراً كهربائياً أحاط بالقطاع،
ونقطة «إيريز» هي المعبر الوحيد بين القطاع
وإسرائيل ذهاباً وإياباً. وكثافة سكان القطاع
هائلة 3766 نسمة / كليومتر مربع والغزاويون
يسمون القطاع (قفص أرانب) أو (سجن في الطبيعة
الرحبة) والغالبية الساحقة من الغزاويين في عمر
أقل من عشرين عاماً لم تغادر المكان. وأظهر
اختبار لمجموعة تتراوح أعمارها بين 10 ـ 24
عاماً ان ثلاثة من كل أربعة منهم يخلطون بين
خارطة فلسطين وخارطة غزة، وعدم القدرة على تمثيل
المساحة الجغرافية الوطنية تظهر بشكل جلي التخيل
المبتور لجيل عاش في قطعة أرض محددة ومحيط مغلق.
الحال مختلف في الضفة
الغربية، فمساحة الضفة 6.600كم، وهناك 200.000
مستوطن يهودي، وهذا يجعل من عملية العزل
الفيزيائي عملية شاقة ومكلفة، وحتى في حال
نجاحها فإنها ستضر بالمستوطنات، ولكن المعوق
الرئيس يبقى مسألة سياسية، فتحديد الحدود يعني
تعريف الحدود بين دولة فلسطينية مستقبلية
وإسرائيل، وتخضع حركة التنقل لحواجز الجيش
الإسرائيلي المقامة على محيط الضفة، وكانت
السلطات الإسرائيلية في غير أوقات العمليات
العسكرية تتسامح بخصوص حركة التنقل لا سيما
العمالة غير المشروعة، والتي قدرت وزارة الدفاع
الإسرائيلية عددهم ما بين 1997 ـ 2000 بحوالي
خمسين ألف عامل. وواضح من إجراءات التحكم
والسيطرة الإسرائيلية أنها تهدف إلى تعقيد حياة
الفلسطينيين حيث أنها لا تستطيع منع العمليات
التفجيرية.
كلما شعرت إسرائيل بخطر
آت من الأراضي الفلسطينية قامت بعزلها عن بعضها
البعض، ولا يزال الجيش الإسرائيلي يسيطر على 60%
من الضفة و40% من غزة، وبالتالي يمكن له
الانتشار بسهولة، ووضع نقاط سيطرة بين المدن
والقرى ووقف كل حركة للأفراد وللبضائع. في
فبراير من العام 1996 وبعد سلسلة من عمليات
حماس، فرضت إسرائيل إغلاقاً كاملاً، وعلى الرغم
من ذلك جرت عمليتان في مارس من العام نفسه، ومع
تجدد إنتفاضة الأقصى تجددت سياسات الإغلاق
الإسرائيلية فقد تم إضافة حاجزين في غزة، أحدهما
في الجنوب والآخر في الوسط، مما جعل القطاع
ثلاثة أجزاء، وأصبح قطع مسافة عشرين كيلومتراً
يتطلب أربع ساعات، وزرعوا الضفة بعدد هائل من
الحواجز، وصار بإمكان الجيش عزل القرى ومنع
التموين عنها لأيام عديدة، كما لم يعد بمقدور
الناس الوصول إلى أماكن عملهم، وفي رام الله
تعمل المنشآت بـ 40% من كوادرها، ولم يسهل قيام
الحكم الذاتي الفلسطيني من الحركة بين الضفة
وغزة، وفي نهاية 1998 افتتح الممر الآمن بين
الضفة والقطاع، وهو يخضع لنظام صارم، وكما يدل
اسمه فإن الهدف منه هو توفير الأمن للإسرائيليين
وليس تسهيل مرور الفلسطينيين، والأمر يتطلب
تصريحاً يحصل عليه المتقدم بشرط ألا تكون له
سوابق امنية، وعليه المغادرة قبل الثالثة ظهراً
والوصول قبل السابعة مساءً، ويستخدم المسافرون
حافلات في وقت محدد وعلى طريق محدد، ومنذ
افتتاحه يعمل «المعبر الآمن» فعلياً باتجاه واحد
فقط، يسلك الغزاويون المعبر للوصول إلى الضفة
ومن هناك إلى إسرائيل بشكل غير مشروع من أجل
العمل.
وغالبية مواطني الضفة لا
يشعرون بالحاجة أو الرغبة للذهاب إلى غزة.
والمعبر الآمن لا يستجيب للاحتياجات الفلسطينية
إلا جزئياً، فالوصول إليه ليس حراً، ويتطلب
سلسلة من الإجراءات الإدارية، إضافة إلى دفع
ضريبة استخدامه. الغزاويون يمكنهم الحصول على
تصريح سفر إلى إسرائيل ومن هناك إلى الضفة، أما
رجال الأعمال في الضفة فعلاقتهم الإقتصادية مع
غزة معدومة. أما السفر إلى الخارج أو الهجرة
فإنه لا ينحصر في الحصول على فيزا وإنما يتطلب
موافقة إسرائيل، فكل المخارج محمية من قبل
إسرائيل واستخدام مطار بن غوريون (على بعد عدة
كيلومترات من تل أبيب) يستلزم الحصول على تصريح
لدخول إسرائيل، والمطار الذي افتتح جنوب غزة في
نوفمبر 1998 لا يعفي المسافر من الأجهزة
الإسرائيلية، وكذلك الحال بالنسبة لجسر اللنبي
ومعبر رفح بين القطاع ومصر، فالوجود الفلسطيني
شكلي فقط، والحاكم هو الجيش الإسرائيلي.
الاتفاق الاقتصادي الموقع
في باريس عام 1995 يثبت جمركاً شبه موحد بين
السلطة الفلسطينية وإسرائيل، وفي حقيقة الأمر
تخضع الصادرات الفلسطينية إلى سلسلة من
الإجراءات الإسرائيلية المعقدة، التي تمثل خرقاً
فاضحاً لمبادئ الحرية الاقتصادية، بالإضافة إلى
قرارات إسرائيلية أحادية الجانب، لمنع حركة
البضائع الفلسطينية في السوق الإسرائيلي. ولذلك
لا تستطيع المؤسسات والمنشآت الفلسطينية الصغيرة
دخول السوق الإسرائيلية. ففي قطاع النسيج وصناعة
الأحذية تفرض إسرائيل على التجار وسيطاً
إسرائيلياً لشراء المواد الأولية، كما تعمل
إسرائيل على تأمين الحماية الاقتصادية والأمن
لمنتجاتها وصادراتها، فيما تمنع ذلك على
الفلسطينيين وتعرض اقتصادهم للخسائر، وحتى أن
عملية الربط الاقتصادي بين الضفة وغزة تتعرض
للصعوبات، ففي عام 1996 لم يتجاوز التبادل
التجاري بينهما 12 مليون دولار، وكذلك عملية
التبادل التجاري مع مصر والأردن التي تبقى
هامشية، وخاضعة للحواجز الجمركية المرتفعة،
ولشروط الإجراءات الأمنية الإسرائيلية، وخسارة
السوق الفلسطيني لا تعرض الاقتصاد الإسرائيلي
للانهيار كما أن الازدهار لا يشكل خطراً عليها،
فالاقتصاد الإسرائيلي يتمتع بحيوية ومميزات
مهمة، يستطيع معها التكيف سريعاً في حال انفصال
الاقتصاد الفلسطيني عنه، بينما سيعاني
الفلسطينيون بشكل خطير عند حدوث الفصل بينهما.
وحتى ولو بدا ظاهرياً، أن
إسرائيل لا تسعى للهيمنة الاقتصادية على الأراضي
الفلسطينية، إلا أنها تبحث في الدرجة الأولى عن
ضمان أمنها، ولتحقيق ذلك تلجأ إلى احتواء
الفلسطينيين والإغلاق عليهم، مما يؤدي إلى شل
النشاط الاقتصادي الفلسطيني، ويقدر الخبراء
الاقتصاديون الإسرائيليون بأن الاحباطات
الاقتصادية والسياسية، تشكل قاعدة نشطة للعنف
السياسي، ولذلك تخيلوا مشروعاً أمنياً من خلال
إعادة تنظيم الأراضي الفلسطينية على قاعدة
المتطلبات الإسرائيلية والحاجات الاقتصادية
للشعب الفلسطيني. ومشروع الفصل المقترح يعطي
الفلسطينيين دولة داخل حدود مغلقة. وفي الحقيقة
يفصل أصحاب القرار السياسي الإسرائيلي ما بين
الفصل الفيزيائي والفصل السياسي الذي هو شرط
السيادة الفلسطينية. واقامة دولة فلسطينية على
مساحات صغيرة ومتداخلة سيؤدي إلى كانتونات مسيجة
بأسلاك شائكة.
ولأسباب أيديولوجية،
يعارض الليكود فكرة الفصل التي ستؤدي في النهاية
إلى قيام دولة فلسطينية، ولم يطرحوا الأمر
للنقاش عند توليهم السلطة خوفاً من تأثير ذلك
على الانتخابات، كما أن شارون في فبراير 2000
وبعد مرور سبعة عشر شهراً على الانتفاضة، لم
يستطع تحقيق وعوده لناخبيه بإنجاز الأمن الشخصي،
فاقترح إنشاء «مناطق مغلقة» على طول الحدود
لتأمين الفصل بطريقة غير مباشرة ومن ثم توفير
الأمن للاسرائيليين.