New Page 1
كلمة حسام خضر في يوم تأبين الراحل رياض الأنيس
12/12/2009 13:42:00
كان الاعتقال لي واحدة من أصعب التجارب وأعقدها ، وصار السجن حدًا لكل انعتاق، ونهاية مأساوية لكل شيء جميل وأمام خصوصية وضعي ارتقت درجة الاستهداف إلى حدها الأعلى ، وتكاثفت شهوة التحقيق لديهم، لتتلاقى في إرادتي بهدف كسرها ، وتنقلت من "بتاح تكفا" إلى معتقل سري للتحقيق ، وبرز تحدي داخل جهاز الشاباك ، وانقسم المحققون على مصيري وكان الرهان : هل سأعترف أم سأسجل صمودًا آخر، وفي أقرب لحظة للتآكل الداخلي، ومن على حافة الانهيار، وعندما بدأت أسمع تحطم الانكسار في إرادة روحي، ظهر..هكذا فجأة ، بوجهه المبتسم الضاحك وشبابه المتدفق بالحيوية والمشع بالأمل ،انتظر لحظات استغرقتها عمليـة فك القيود من معصميّ ، ثم تقدم خطوات توحي بالثقة ، وجلس بقربي في غرفة زجاجية مستلقية أمام مدخل الاستقبال في سجن عكا الكئيب، سلم بكلتا يديه الحازمتين ،وذكر اسمه بتواضع "رياض الأنيس"، وضمني إلى صدره، وقبلني هامسًا : هذه مني وتلك من الأهل، والدتـك وأحمد وأماني وأميرة ودعد وتيسير ، وبمـا كان يكفي لتفجير كل ينابيع السعادة والبكاء معًا وبطريقة عجيبة غريبـة ،الأمر الذي دفعه لكي يربت على كتفي ورأسي، جلس أمامي وشرع بنصب أسئلة النجاة، وبما أعانني وإلى آخر لحظة في تجاوز التحقيق الأعقد والأصعب في تجربة مواجهتي مع الاحتلال قال لي لدي تصور كامل من تكون؟! ولكن أريد منك وعدًا والآن، نظرت إليه مستغربًا من سلاسة الكلمات وقدرته على تنسيقها باقات من أمل زينت شطآن يأسي ، وظللت روحي بفيء إرادة التحدي ، وتسللت كلماته إلى قعر نفسيتي المحطمة بفعل استمرارية التحقيق وقسوته والهجوم المتواصل على حصون صمودي ..وتنفست بما حلق بروحي ووشح وجهي بابتسامته المعهودة ، والتي كاد أن ينساها في زنازين القهر والعذاب ، وكرر مخاطبًا وعيي متجاوزًا مجاملة شخصي الماثل أمامه : "ما أريده منك يا حسام مع احترامي لتاريخك وتجاربك ، أن تنكر كل التهم الموجهة إليك"، أن لا تعتـرف ، وشد على يدي وضحك، حتى إن واجهوك بكل الشواهد، الشهود والأدلة، هذا دورك، أما أنا فدوري أن أخرجك من هذه التهم الكبيرة أيًا كانت وأيًًّا كان الشهود والأدلة ،أريد وعدًا منك ، كلمات بعثت فيَّ الإرادة صمودًا وإصرارًا، ثم راح يقرأ عليّ قوانين جديدة في حدود التحقيق أفادتني جدًا ، ليدخل في موضوع الأهل وبما يبعث على الراحة ، وبكل مخاطرة وجرأة مدَّ لي بدفتر ملاحظاته وبقلم تاقت يداي إليه كثيرًا ! وقال لي : "أكتب رسالة للأهل طمنهم عنك" ، ورسالة للجنة التضامن معك ، ورغم وجود الحراس ومراقبتهم لنا ، إلا أنه غامر بمستقبله المهني مانحًا إياي فرصة ذهبية ما كان لغيره أن يطلبها مني ولا حتى أن يوافقني لو ما خطرت لي على بال، ظل الراحل الكبير الأستاذ رياض الأنيس يسلحني بالأمل طوال زياراته، والتي كان يعاني من أجل إنجازها، طارقًا أبواب محكمة العدل العليا في كل مرة من أجل التواصل معي قدر الإمكان، وطوال جلسات محاكم التحقيق كان القادر على وقف كل ممارساتهم البشعة بحقي ، حتى أنه مرة تشاجر مع الحاكم العسكري وصرخ في وجهه بكل شجاعة ،وأصر على إحضار مدير مركز الشاباك في بتاح تكفا وسجل سابقة،وكذلك فعل طوال جلسات محاكمتي وعلى مدار ثلاث سنوات ، حيث استدعى غالبية طاقم التحقيق ،وأخضعهم لاستجواب هو أشبه ما يكون بالتحقيق معيدًا لي جزءًا من اعتباري الذي حاولوا سرقته بوحشيتهم المعهودة ، كان الأستاذ الراحل رياض الأنيس إنسانـًا بكل المعاني قبل أن يكون محاميًا ، وكان وطنيًا صادقًا مدافعًا عن هدف نبيل مقدس وبأوضح الصور وأجرأ المواقف ، وكان ميناء أمان لكل الأسرى الذين تبنى مواقفهم ، كما لن أنسى للأستاذ الراحل رياض الأنيس موقفه في أثناء الإضراب المفتوح عن الطعام على مدى 18 يوم ، وكيف نجح من دون الآخرين في زيارتي في عزل سجن" الجلمة" مع قادة الحركة الأسيرة، ليضعنا في صورة الحراك الجماهيري والسياسي وأثر الإضراب على الإسرائيليين، وتبنى قضيتي في" محكمة الشليش " كما لو أنني اعتقلت اليوم، وعلى مدى جلسات ثلاث راح يدافع عن حريتي وحقي في الخروج، وما أن كتب الله لي الإفراج حتى كان من أول من اتصل بي وحضر كصديق وأخ ، لتتواصل العلاقة إلى أن فاجأنا الموت فيه ، لكن رياض الأنيس سيظل علامة فارقة في تاريخ الحركة الأسيرة ، ولدى أسرهم التي توسمت فيه الأمل، فوجدته حقولاً خضراء لا تنتهي ..
فوداعًا يا رياض المسكون فينا حريةً وأملاً .
|