New Page 1
مصالحة فلسطينية على أية أسس؟
02/07/2009 09:48:00
د. بشير موسى نافع القدس العربي 02/07/2009
الأغلبية العظمى من الفلسطينيين تريد، وتصلي من أجل، تحقيق مصالحة سريعة، تنهي حالة الانقسام بين الضفة والقطاع وبين حماس وسلطة رام الله. الأغلبية العظمى من الفلسطينيين تريد، وتصلي من أجل، أن ينتهي انشغال القوى السياسية الفلسطينية بأنفسها، وأن تصب هذه القوى جهودها نحو تحقيق تقدم في القضية الوطنية.
الأغلبية العظمى من الفلسطينيين تريد، وتصلي من أجل، أن تعمل الحركة الوطنية بكافة قواها لوضع حد للحصار غير الإنساني الذي يتعرض له قطاع غزة وأهله، الحصار العالق منذ عامين في شبكة الخلافات الفلسطينية والعربية الداخلية. هذا كله صحيح، وهو دلالة على الوعي التاريخي الصلب للفلسطينيين، الذين رأوا دائماً أن وحدتهم شرط أولي لقدرتهم على البقاء والصمود في صراع لم يشهد العالم أكثر منه قسوة، ولا أفدح منه خللاً في توازن القوة. ولكن مياهاً كثيرة سارت تحت الجسر منذ حسمت حماس الوضع في قطاع غزة قبل أكثر من عامين، وبات من الضروري أن يسأل الفلسطينيون أنفسهم ما إن كانت المصالحة في ظل الشروط الحالية ستدفع قضيتهم الوطنية إلى الأمام، أم أنها ستودي بها إلى هاوية أعمق.
تقوم القاهرة بدور رئيسي في مباحثات المصالحة الفلسطينية منذ بدايتها؛ وقد تسارعت جهود المصالحة المصرية في شكل ملموس خلال الشهور القليلة الأخيرة، إلى أن هدد المسؤولون المصريون بأنهم سيعلنون اتفاق مصالحة من جانبهم، بغض النظر عن مساحة الاختلاف أو التفاهم بين الطرفين. أحد دوافع تعاظم المساعي والضغوط المصرية أن الدول العربية الصديقة للولايات المتحدة ترى في مقاربة إدارة أوباما للقضية الفلسطينية فرصة لا ينبغي تفويتها، وأن من الضروري تقديم يد العون للجهود الأمريكية بتأهيل الفلسطينيين لإطلاق التفاوض من جديد. ويرتبط بهذا التقدير لسياسات الإدارة الأمريكية سعي القاهرة إلى تعزيز وضع رئيس سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني (الذي يبدو أن لا فتح تريده ولا حماس)، وتوفير تفويض وطني له، قبل استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. الذين يسيئون الظن، يرون أن القاهرة تريد اتفاقاً سريعاً للمصالحة، يمهد الطريق لعقد انتخابات تشريعية في الضفة والقطاع، يعتقد المسؤولون المصريون أن حماس ستخسرها، وينتهي بذلك صداع الإسلاميين الفلسطينيين. إضافة إلى ذلك، ثمة شعور متزايد في القاهرة وخارجها بتراجع النفوذ المصري في المحيط العربي؛ ومن المؤكد أن النجاح في تحقيق اتفاق مصالحة فلسطيني سيعزز من دور القاهرة وتأثيرها السياسي. وتفيد دوائر التفاوض الفلسطيني أن لغة المسؤولين المصريين تجاه حماس قد تغيرت. فبعد أن كانت المفاوضات تجري في جوهرها بين وفد حماس والمسؤولين المصريين، وليس بين وفدي حماس وفتح، أصبحت لغة القاهرة أكثر استجابة لمطالب وهموم ومخاوف حماس، ربما في ضوء التغيير الذي تشهده لغة الإدإرة الأمريكية تجاه حماس، أو لاستعجال القاهرة إنجاز الاتفاق بين الطرفين.
ملفات الخلاف بين غزة ورام الله كبيرة، ومعروفة. في الإطار الفلسطيني الوطني العام، هناك ملف منظمة التحرير الفلسطينية، إعادة بناء المنظمة لتصبح أكثر تمثيلاً لقوى الشعب وتوجهاته، وتفعيلها من جديد لتقود الحركة الوطنية في الداخل والخارج. على مستوى مستقبل سلطة الحكم الذاتي، هناك مسألة الانتخابات الرئاسية (بعد أن مدد للرئيس عباس في شكل غير شرعي)، وانتخابات المجلس التشريعي (الذي قامت السلطة بالانقلاب عليه، وتهميشه نهائياً). وعلى مستوى الانقسام بين غزة ورام الله، هناك ملفات التعامل مع الآثار التي نجمت عن الانقسام، وكيفية عودة السلطة إلى القطاع، وما يتعلق بها من إعادة تشكيل الأجهزة الأمنية وأجهزة الحكم المدنية، ونهاية الحصار على قطاع غزة وبناء ما دمرته الحرب على القطاع. وإلى جانب هذه الملفات، هناك بالطبع ملف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، الإطار المرجعي لهذه المفاوضات، وكيفية تشكيل وفد تفاوض فلسطيني، يمثل الإرادة الوطنية ويعبر عنها ويتمتع بدعمها.
لم تكن ملفات الخلاف والانقسام قبل عامين بهذا الحجم، ولا كانت مساحة فقدان الثقة بهذا الاتساع. لفترة طويلة قادمة، لن يتوقف الجدل حول ما إن كانت حماس قد اضطرت لفرد سيطرتها على قطاع غزة بالقوة، وما إن كانت خططت لهذه السيطرة، أو أن تطورات الأحداث قد أجبرتها على ذلك. ولكن ما أن سيطرت حماس على القطاع حتى مضت سلطة رام الله إلى انقلابها الخاص في الضفة الغربية. خلال ساعات من انهيار أجهزة السلطة الأمنية في القطاع، بدأت قرارات الرئيس عباس في الصدور الواحد منها تلو الآخر.
أعلن ما يسمى بحالة الطوارئ، وأقيلت حكومة الوحدة الوطنية؛ ألقي بالمجلس التشريعي على قارعة الطريق، وأصبح الرئيس مصدر الشرعية الوحيد للسلطة؛ وشكلت حكومة ترأسها شخصية من خارج كل القوى السياسية الفلسطينية، بلا تاريخ وبمصداقية هشة، إلا ثقة إدارة الرئيس بوش. استجابت السلطة في رام الله لنصائح واشنطن في تجاهل الوساطات الفلسطينية والعربية لرأب الصدع بين الضفة والقطاع، انتظاراً لتركيع إدارة حماس في القطاع بقوة الحصار وتزايد معارضة أهالي القطاع لهذه الإدارة. أطاح الانقلاب في الضفة بما تبقى من التوازن في مؤسسات السلطة، ولم يبعد حماس عن دائرة صنع القرار وحسب، بل وأبعد فتح أيضاً. وما أن استقرت قواعد الانقلاب، حتى أطلقت حملة أمنية شعواء لتدمير خلايا المقاومة من كافة التنظيمات، ومصادرة السلاح، وتقويض البنى الاجتماعية والمدنية المستقلة عن جسم السلطة، سيما تلك التي يشك بتعاطفها مع قوى المقاومة، من جمعيات خيرية، ومؤسسات خدمة مدنية وتعليمية وصحية.
في البداية، سوغت إجراءات السلطة السياسية والأمنية القمعية في القطاع بمقولة التحوط من أن تقوم حماس في الضفة الغربية بما قامت به في القطاع. ولأن تلك الإجراءات لم تطل حماس وحسب، فإن منطق السلطة لم يقنع كثيرين، ولا حتى داخل فتح نفسها؛ ما فهم حينها، على أية حال، أن الرئيس عباس ورئيس وزرائه يؤسسان حكماً تسلطياً قمعياً، ينسجم مع المنظومة العربية السياسية السائدة. قلة فقط رأت في إجراءات السلطة وسياساتها توجهاً جديداً، مفكراً فيه، توجها ولد من سابق تصميم وتصور لانقلاب السلطة على حركة التحرر الوطني الفلسطيني، والاستجابة الكاملة لمطالب الجانب الإسرائيلي.
خلال العامين الماضيين، طالت الاعتقالات الآلاف من حماس على وجه الخصوص، ومن القوى الفلسطينية الأخرى؛ وقد تعرض الكثير من المعتقلين لأشد أصناف التعذيب، وللموت تحت التعذيب. وقد أعيد بالفعل بناء الجسم الأمني للسلطة في الضفة تحت إشراف البعثة الأمريكية، ليس بهدف جعل الأجهزة الأمنية أكثر انسجاماً مع الأهداف الوطنية، ولكن لجعلها أكثر ولاء للسلطة، وأكثر استعداداً لتنفيذ توجهاتها الجديدة. أثناء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، استخدمت قوات السلطة الأمنية كافة الوسائل لقمع حركة الاحتجاج الشعبية. وعندما استشعرت أجهزة السلطة الأمنية في قلقيليا قبل أسابيع بوادر خطر على الأمن الإسرائيلي، وجهت سلاحها لعناصر المقاومة وأردتهم قتلى.
ما تردد مؤخراً عن أن السلطة ستفرج عن بعض معتقلي حماس، لتوفير طقس إيجابي للمصالحة المرتقبة في القاهرة، ليس إلا كذباً؛ فالسلطة تنفذ برنامجاً أمنياً مدروساً لتصفية أذرع المقاومة في الضفة الغربية كلية، وإلقاء قرار الحركة الوطنية الفلسطينية حصراً في يد سلطة الحكم الذاتي.
ليس ثمة حركة تحرر وطني تعاني من انقسام بعمق الانقسام الفلسطيني ويمكن لها أن تحقق إنجازات كبرى أو ملموسة. ولكن الفلسطينيين مطالبون اليوم بأن يسألوا أنفسهم عن الأسس التي يمكن أن تستند إليها المصالحة الوطنية، والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها؛ عن ما إن كان ثمن المصالحة بات أكثر فداحة بكثير من ثمن الانقسام. لتحقيق توافق فلسطيني وطني حقيقي، ينبغي الاعتراف بأن المصالحة ضرورية في المنطقتين، في الضفة والقطاع، وأن إعادة البناء ضرورية أيضاً في المنطقتين، وأن لا المصالحة ولا إعادة بناء جسم السلطة تكفي وحدها لوضع الحركة الوطنية على السكة الصحيحة، بل أن من الضروري النظر من جديد في مجمل البناء الوطني الفلسطيني.
إن كان الاعتقال السياسي مرفوضاً في قطاع غزة، فإن الاعتقال السياسي والبرنامج الأمني لابد أن يكون مرفوضاً في الضفة كذلك. وإن كان لا بد من إعادة بناء الأجهزة الأمنية في القطاع، فلا بد من إعادة بناء الأجهزة الأمنية في الضفة كذلك. وإن كانت هناك ضرورة لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية للحصول على تفويض شعبي فلسطيني جديد لسلطة الحكم الذاتي، فيجب أن لا تعقد مثل هذه الانتخابات قبل تطبيع حقيقي في كل القطاع والضفة، وقبل نهاية الحصار عن قطاع غزة، وقبل الإفراج عن مئات المعتقلين من كوادر القوى المعارضة للسلطة في الضفة. وفي موازاة مثل هذه الخطوات، لابد أن تؤخذ إجراءات جادة لإعادة بناء شاملة لمنظمة التحرير.
بغير ذلك، ستتحول المصالحة إلى تسليم فلسطيني جماعي وإلقاء مقاليد الحركة الوطنية في حجر فئة صغيرة، صادف أن سيطرت على سلطة الحكم الذاتي في فترة حرجة وفي ظل خلل لموازين القوى. وعندها لن تكون حماس هي الخاسرة وحسب، بل وفتح أيضاً؛ كما ستدخل الحركة الوطنية ككل فترة مظلمة ثقيلة الوطأة.
|