تجميد الموقف الرسمي للأردن وحتى الخيارات الأردنية، مثله في هذا مثل سلطة أبو مازن، عند ما يسميانه "خيار السلام التفاوض الإستراتيجي الأوحد" هو إعلان عجز تجيد إسرائيل قراءته.. وهذا هو ملخص الأجندة المشتركة التي تبرر انحياز الأردن الرسمي إلى السلطة الفلسطينية..
ولكن الأكثر مدعاة للأسف هو أن الطرف الأردني يتطوع بهذا ليكون الطرف الخاسر أكثر من الطرف الفلسطيني. وليس في هذا التطوع أي تضحية تجمل وجهه، بل هو تطوع متهم، فلسطينيا وعربيا، بتسهيل تصفية القضية الفلسطينية.
فأراضي السلطة وأراضي الدولة الفلسطينية الموعودة أو المأمولة، واقعة بكاملها تحت الاحتلال الصهيوني. ومع أن هذا لا يبرر بدوره التسليم للمحتل بحقوق وطنية وتاريخية كما تفعل سلطة أبو مازن الآن، إلا أن واقع الاحتلال كقوة عسكرية على الأرض هو ما ساعد إسرائيل على اختلاق سلطة كهذه، ودعمها في مواجهة القوى الوطنية المتشبثة بالتحرير.
أما الأردن فهو دولة مستقلة ذات سيادة وتزعم حكوماتها كلها أن توقيع اتفاق "وادي عربة" ضمن هذا الاستقلال والسيادة، وعلى أي حال هو ليس تحت احتلال عسكري يستطيع أن يفرض إرادته "بإعادة الاجتياح".
ثم إن الأردن عاد وأعلن، زيادة على "فك الارتباط" مع الضفة المحتلة، أن "الأردن أولا".. وهو ما لم تلتزم به الحكومة الأردنية، من باب درء المخاطر حين تزعم أن جلب المنافع، على الأردن أو فلسطين أو على الأمة، مستحيل حاليا. وهذا ما يجعلنا نتوقف عند السياسة الخارجية الأردنية كما جسدتها تصريحات وزير خارجية الأردن الحالي.
فوزير خارجية الأردن، البلد المعني أكثر من غيره بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين، يسقط ذلك الحق من حديثه عقب اجتماع وزراء الخارجية العرب.
والوزير لا يتيح لنا حتى أن نعتبر أن ذلك جرى سهوا، لكونه فعل الشيء ذاته في لقائه التالي بعد يومين مع أبو مازن حين زاره في رام الله. وهذا انتقدته وسائل إعلام محلية في مانشيتات أخبارها، دون أن تجرؤ على تفصيله في متن الخبر. والسبب يوضحه الخبر مواربا.
فالوزير، حسب وسائل الإعلام الأردنية، "أبدى قوة لم نعهدها في لغته، حيث وجه وللمرة الثانية خلال يومين تحذيرا بعدم السماح لأي كان أن يعرقل هذه المساعي الجادة وأن نستغل الفرصة التاريخية الموجودة أمامنا".
"لن يسمح" لمن؟ سؤال لم يوجه للوزير، ولكننا سنحاول استقراء رده من نص "تقرير إخباري" صدر عن أحد "الصحفيين والكتاب" الذين حضروا دعوة منتقاة للوزير للحوار معه، وهو حوار يشترط ألا يكون للنشر.
الذي للنشر هو هذا التقرير الأقرب للبيان، حيث لا يناقش كاتبه أيا من حيثياته التي لا يمكن اعتبارها مسلمات ولابد أن تستوقف كاتبا في الحالات العادية.
ما يعرضه التقرير من وجهات نظر، واضح أنها لوزير الخارجية وإن كانت تعزى "لمصادر دبلوماسية"، ثم تصبح "مسؤولون عرب" و"مصادر دبلوماسية عربية"، لتصبح في النهاية "الدبلوماسية العربية".. شيء من قبيل "إضاعة دمه بين القبائل"، مع أن التقرير نشر في اليوم التالي للقاء مع وزير الخارجية الأردني وحده.
أما قمة وزراء الخارجية التي قد تبرر بها صيغة الجمع التي لابد أن الوزير تحدث بها، فقد غابت عنها ثلاث دول عربية محورية هي السعودية وسوريا وقطر، ولا ندري كم من الخلاف ساد بين من حضر.
ولكن اللافت هو أن السعودية هي أكبر دول "الاعتدال" وأهمها حاليا لعوامل عدة تضاف لكونها صاحبة المبادرة، من مثل أهميتها المعول عليها في الوضع الاقتصادي الدولي المتأزم حاليا، ولاستقرار الحكم فيها مقارنة مع ما تمر به مصر الدولة الكبرى الثانية فيما يسمى محور الاعتدال.
من نص التقرير يتضح أن من "لن يسمح لهم" لا يتضمن أميركا حتما، فخارجيتنا أكدت لنا أنها تجلس في انتظار تنزيل أوباما "خطته للسلام" علينا.
وفي ذلك اللقاء مع الكتاب والصحفيين اختارت أن تفهم (أو بالأحرى أن تفهمنا) أن قول أميركا إنها وضعت "الوصول لتسوية سلمية" ضمن أولويات سياستها الخارجية، يعني بالضرورة أن تكون التسوية لصالحنا.
وكذلك لا يستقيم تجيير التعاطف العالمي مع الفلسطينيين، وهو التعاطف الذي تعاظم بعد حصار وقصف غزة بهذه الوحشية وصولا لارتكاب جرائم حرب بحق أهلها، لصالح الزعم بأنه نقلة في مواقف أوروبا السياسية، في حين أن هذا كله لا يزال في طور التعاطف الشعبي والإنساني ويحتاج لوقفة سياسية أصلب من جانبنا في وجه إسرائيل وأوروبا وأميركا ذاتها ليترجم إلى موقف سياسي دولي، لكون السياسة لعبة مصالح في الأساس ومحصلة ضغوط في النهاية.
ومن الإغراق في تسطيح الأمور افتراض أن ترؤس دولة للاتحاد الأوروبي مكان أخرى، مما يجري دوريا، وتصادف أن الثانية أكثر تعاطفا معنا أو أقل انحيازا ضدنا من الأولى، يعني انقلابا في السياسة الأوروبية.
فالتشيك لم يحكموا أوروبا فترة توليهم لرئاسة اتحادها كما يحكم الحكام العرب شعوبهم، ولا السويد آل إليها ذلك الحكم الآن لتنقلب على سياسات سابقتها.. والقول بهذا هو عكس ساذج للحكم المطلق في العالم العربي الذي يتغير بانقلابات يقوم فيها العهد السائد على أنقاض وجماجم العهد البائد.
والفطنة توجب ألا نطمئن إن وضعتنا أوروبا وأميركا على أجندتهما، أو كما نقول بالعامية "في بالها". فهذه تعني على الأرجح شيئا من نوع ما فعلته بنا، مع سبق الإصرار والترصد، في عز انهماكها في حرب عالمية، بأن صدرت مشكلتها إلينا بزرع إسرائيل على أرضنا.
والآن أوروبا وأميركا تعيشان حربا أخرى أقل علانية ووضوحا، حربا اقتصادية وسياسية وأيديولوجية، تحتاج لتصريفها لدينا أو على حسابنا. وإسرائيل نجحت في تقديم نفسها على أنها المدخل الرئيس لشبكة التصريف تلك.
وأيضا "عدم السماح" القوي اللهجة هذا ليس موجها لا لنتنياهو ولا لحكومته، وحتما ليس لوزير خارجيته ليبرمان الذي يلعب دور "أزعر الحارة"، وهو ما يسمى بالعامية الأميركية بـ"البولي"، ويشتق من الاسم "فعل" بمعنى يضطهد ويخضع من حوله.
وهو وصف لا يعفى منه بقية المسؤولين الإسرائيليين منذ قيام دولة الكيان الصهيوني، ولكنه يصبح عنوان المرحلة حين يتولاه بهذه الصورة الفجة من يفترض أنه يحمل حقيبة الدبلوماسية الإسرائيلية..
وهنا يجب أن نتذكر أن هذه "مرحلة التسوية النهائية" بإصرار رسمي عربي لا يقل خطورة عن إصرارهم على الذهاب لأول مفاوضات معلنة مع إسرائيل في مدريد، حين كان العالم العربي في لحظة ضعف لا تقارن بما هو فيه الآن.
ونعود لنتنياهو الذي يقول وزير خارجيتنا على لسان "الدبلوماسية العربية"، إن هذه الدبلوماسية "لا تلتفت كثيرا لخطابه الشهير.. الذي جرد فيه الدولة الفلسطينية، التي يوافق عليها، من كل مقومات الوجود، مما حدا بأحد الدبلوماسيين الغربيين لتشبيهها بقفص الفلسطينيين".
ويكمل التقرير نقلا عن وزيرنا ليقول إن "مصادر دبلوماسية عربية ترى أن خطاب نتنياهو كان موجها بدرجة رئيسية إلى طرفين رئيسيين، الأول هو الطرف الأميركي لتمرير إعلان نتنياهو القبول بمصطلح الدولة الفلسطينية في ظل غابة من الشروط والمحددات. والثاني هو الداخل الإسرائيلي في محاولة للحفاظ على تماسك التحالف الحاكم الهش بالتأكيد على الخطوط الحمر لليمين الإسرائيلي".
وفي سياق هذه القراءة فإن "نتنياهو في وضع مأزوم لا الطرف العربي والفلسطيني.. وما يؤكد هذا -حسب قراءة وزيرنا- التصريح الأميركي الرسمي الذي صدر مباشرة بعد خطاب نتنياهو، إذ أشار إلى اعتراف نتنياهو بإقامة الدولة الفلسطينية".
وهذا التصريح الأميركي، حسب هذه القراءة، "يشي بأن هذه هي النقطة الوحيدة التي يهتم بها الجانب الأميركي في خطاب نتنياهو".. كيف "يشي" بهذا الذي لم نفهمه منه نحن مختصي اللغة الإنجليزية وآدابها إضافة للسياسة؟ وزيرنا لم يوضح!
دبلوماسيتنا العتيدة تتعامل مع نتنياهو وكأنه حاكم عربي "مأزوم" يمكن الإطاحة به بسهولة في أول هزة داخلية أو ينحى بقرار من الخارج، وليس زعيما منتخبا!
نتنياهو، ومثله ومعه باراك وليبرمان وكل المتطرفين الغالبين على الحكم في إسرائيل، حين لا تتم إعادة انتخاب أي منهم للرئاسة، فإنهم حتما سينتخبون للكنيست وسيتمتع كل منهم بكتلة ضاغطة.. والكنيست هو الذي ذهب لأبعد مما قاله نتنياهو، إذ دعا صراحة لتحويل الأردن إلى وطن بديل، مما يؤشر إلى جذور "الخطوط الحمر" الإسرائيلية تلك.
وهنا نتوقف عند عبارة لكاتبة أردنية مخضرمة وموالية تاريخيا، في مقال لها تتحدث فيه عن الموقف الأردني مما يجري في إيران حاليا فتقول "الأردن الرسمي.. لن يستطيع السير نحو الانفتاح على إيران إلا ضمن محددات الإستراتيجية العليا للدولة وخطوطها الحمر القائمة على ثالوث أميركا وإسرائيل والاعتدال العربي"..
قول خطير لم يفنده أي مسؤول، بل مر كما تمر أطنان العبارات التي تحمل مقولات بديهية لدى العامة والخاصة، ولكنها عبارة إذا وضعناها مقابل زعم رسمي بأن نتنياهو هو المأزوم في الداخل، فإنها تعيد تعريف الأزمات الداخلية التي منشؤها خطوط حمر تصدر لنا، ومؤخرا باتت تشكل شبكة عنكبوتبة، السقوط ولو على طرفها، ينتهي بجذب الضحية لوسطها.
وهذا مسار يختلف المحللون هل أميركا سقطت فيه، أم أنها أحد أفراد خلية العناكب، أم العنكبوت الأكبر في وسطها.. ولكن لا أحد يعتقد أن انتخاب أوباما يعني تفكيك هذه الشبكة. ومجرد خلاصنا نحن منها يتطلب جهودا جمعية هائلة، شعبية ورسمية.
ولكن الجهود الشعبية ليست مرفوضة فقط، بل ممنوعة. هي لن يسمح لها بالتدخل في "الدبلوماسية العربية"، كما يسميها وزير خارجيتنا، التي تهدف "لتغيير قواعد اللعبة الدولية"!
هو طموح شديد أم تكبير حجر من لا يريد أن يرمي؟ الإجابة تأتي في ختام حديث الوزير للصحفيين والكتاب، ليقول إنه، في حال "انتكست" جهود أوباما و"فشل الرهان على عزل الحكومة الإسرائيلية وتغيير مواقفها وتلاشت آمال التسوية السلمية" -وكله مما نتوقعه نحن الشعوب نتيجة سياسات رسمية كهذه- فإن "النتيجة لن تكون، على الأقل، بتحميل العرب والفلسطينيين مسؤولية ذلك، وسيعلم المجتمع الدولي أن المشكلة على الجانب الآخر أي لدى إسرائيل".. أي أنه سعى فقط لتبرئة الذات مما سيجري!.
وأقل ما يحق لنا أن نسأل عنه وزيرا يسعى "لتغيير قواعد اللعبة الدولية" هو مصير الأردن.. المصير الذي يقترحه اليمين الإسرائيلي في الكنيست وقد لا ينتظر اليسار اكتمال قبض آخر أقساط التطبيع مع كل العرب، ليثني عليه!.
تبرير سلبية السياسة الخارجية الأردنية حيث يجب الفعل لحماية الأردن مما يهدده هو "أولا"، ولا يعني "الاعتدال العربي" لا ثانيا ولا حتى عاشرا، لكون دول هذا الاعتدال لديها أزماتها الداخلية والإقليمية التي تعلق حلها على أميركا، وعبرها وتلقائيا على ثالوث أميركا وإسرائيل والاتحاد الأوروبي..
تبرير تلك السلبية بهذه المتاهة المعقدة من الافتراضات القسرية التي تصل حد الغوص في النوايا واستنباط ما لا يتناسب مع الظاهر والواضح من الأمور، لا يؤشر على أزمة إسرائيلية، بل يؤشر على أزمة النهج التعويضي والتبريري الذي اختطته سياستنا الخارجية منذ سقطت حقيبتها في تنازع وقسمة مصالح ونفوذ بين مراكز قوى محلية بلا قواعد تحرص على رضاها أو تخشى غضبها في المحصلة (انظر مقالتنا "وضع غير مسبوق" المنشورة على هذا المنبر).
هذه المحاصة أدت لسقوط مجلس النواب، السلطة المفترض فيها مراقبة ومحاسبة الحكومة، بدءا بتزوير نتائج انتخابه لصالح صنائع تلك القوى، ثم بإعطاء رئيسه حصة في الحكومة أبرزها وزارة أشغال عامة وإسكان لابنه الشاب الذي يدير شركات مقاولة أبيه.
وبقي الشعب و"سلطته الرابعة" ليمارس عليهما "عدم السماح" بأي مشاركة في شأن لا يقل عن مصير وطن. والطرفة السوداء هنا، تكمن في أن من يلوح بهذا التهديد هو وزير "الدبلوماسية" الأردنية، حسبما تسمي الصحافة حقيبة الخارجية، وليس وزير الداخلية التي "صوفتها حمراء" عرفا وتاريخيا في العالم العربي.
فوزير الداخلية هو الذي سعى لتبرير وشرح تفاصيل إجراءاته للصحافة لينفي عنها تهمتيْ التوطين ونزع الجنسية.
وخواء وزارة الخارجية ممن يستطيع حمل حقيبتها، منذ تشكيل هذه الحكومة على أسس المحاصة تلك، هو ما اضطرت الدولة ذاتها إلى الاعتراف به ضمنا لتبرير تولي الديوان الملكي ودائرة المخابرات العامة أهم المهام التي تقع ضمن اختصاص وزارة الخارجية لعام ونيف.
ومن هنا أمكن للصحافة أن تتناول هذا الواقع صراحة. ولكن التعديل الحكومي الذي تلا لم يحل المشكلة، إذ أبدل المحاصة السابقة بأخرى لصالح جهة أخرى وحسب.
أثناء تدقيق هذه المقالة قبل إرسالها، شهدنا عينة من "عدم السماح" هذا. فقد قام رجال أمن بضرب وتوقيف وإهانة نشطاء وقيادات نقابية لتفريق اعتصام سلمي دعت إليه النقابات للمطالبة بوقف استيراد الخضار والفاكهة من مستوطنات إسرائيلية، وذلك في دفاع عن سياسات خارجية بحجة توقيعنا "وادي عربة".. مع أن الاتفاقية لا نص فيها يلزم بالاستيراد من المستوطنات.
ومرة أخرى، وزير الداخلية هو الذي توجه لاتحاد النقابات ليقدم اعتذاره، ووعد بالتحقيق.
القضية ليست قضية فاكهة لم يكن الشعب الأردني يعرفها إلى زمن قريب، ولكنها قضية فرض إرادات. فإن أمكن فرض الأفوكادو والمانغا والكاكا والكيوي القادمة من المستوطنات على الشعب الأردني بالعصي والهراوات، فقد تم فرض المستوطنات بكل ما تمثله وما تجره معها.