New Page 1
الفضائيات وسياسة الفوضى البناءة
31/07/2009 11:08:00
على الفضائيات مسؤولية أخلاقية كبيرة لأنها لم تعد ناقلة للخبر بل صانعة للقيم وموجهة للثقافات بل صانعة للحدث أحيانا.إلا أن شكوكا كبيرة تدور حول علاقة بعض الفضائيات العربية بسياسة الفوضى البناءة التي ترعاها واشنطن،وهل بالفعل أن بعض هذه الفضائيات تخدم هذه السياسية ولو بدون أن تقصد ذلك؟.
بغض النظر عن حكم القيمة الذي أضفاه ويضفيه المفكرون والسياسيون على الثورة المعلوماتية وخصوصا الفضائيات وتعدد المقاربات بشأنها كما فعلوا مع العولمة وقبلها الحداثة،فقد تم تجاوز صدمة مواجهتها لأن هذه الثورة لم تنتظر جوابا من العرب أو غيرهم لتستمر في مفاعيلها متعددة الأبعاد،كما أن العرب لم يكن عندهم أصلا بدائل وكانت تساؤلات بعض المفكرين تعكس قلق تاريخي من كل ما يأتي من الغرب.الثورة المعلوماتية ليست سلعة معروضة للبيع لمن يريد أن يشتري فحالها حال العولمة وقبلها عصر النهضة الحداثة وما بعد الحداثة الخ.الثورة المعلوماتية وتحديدا الفضائيات تشكل تحديا وليس خيارا،إنها أمر واقع لأنها مرحلة من مراحل التطور الطبيعي للحياة الاقتصادية والعلمية والسياسية التي قادتها ووضعت أسسها الحضارة الغربية منذ عصر النهضة،بما يتضمنه هذا التطور من ايجابيات وسلبيات.صيرورتها واقعا وتحديا لا يمنع من محاولة توظيفها بما يخدم قضايا الأمة أو على الآفل الحد من سلبياتها على المصالح القومية لدول الجنوب التي أقحمت عليها هذه التقنية.
الثورة المعلوماتية وخصوصا الفضائيات لم تعد مجرد إنجاز تقني محايد بل هي جزء من العولمة ومن النظام الدولي الجديد بما يحفل به من صراعات مصالح وإيديولوجيات. ما يشهده العالم العربي والإسلامي من تصدعات وتفتيت للثوابت والمرتكزات الثقافية والقيمية للأمة غير بعيد عن مفاعيل هذه الثورة المعلوماتية بل أصبحت بعض الفضائيات أدوات تحريض وفتنة.لا شك أن الثورة المعلوماتية بما فيها الفضائيات والانترنت ساهمت بتطور المعرفة الإنسانية بشكل كبير وبعض الفضائيات الوطنية عززت روح الهوية والانتماء لدى المواطنين وجعلتهم على اتصال مباشر بأحداث العالم من حولهم الخ، إلا أن ما أثار القلق بل والشكوك حول أداء بعض مشتملات الثورة المعلوماتية وخصوصا الفضائيات أن انتشارها تزامن مع انهيار المعسكر الاشتراكي ومحاولة واشنطن تأسيس نظام عالمي جديد متوسلة كل الطرق، بدأ من إعادة سياسة الاستعمار المباشر ونشر القواعد العسكرية،إلى الهيمنة من خلال سلاح الغذاء والمساعدات،إلى محاولة السيطرة على العقول وتطويع الإيديولوجيات وتشويه القيم والمفاهيم،ومن هنا جاء مصطلح العولمة الثقافية وكانت الفضائيات والانترنت إحدى أدوات سياسة التفكيك والتدمير ثم السيطرة والهيمنة على الشعوب.
سيبدو من التبسيط الساذج المخل بأي تحليل علمي القول بأن نزامن المسعى الأمريكي للهيمنة على العالم في إطار النظام الدولي الجديد مع انتشار الفضائيات والشبكة العنكبوتية و مع سياسة (الفوضى البناءة) الأمريكية،كان فعلا مخططا ومدروسا ،ولكن... هذا التزامن ومن خلال الواقع المعاش ،قد يسمح بالاستنتاج بأن واشنطن والغرب استطاعا توظيف الثورة التقاتية وخصوصا الفضائيات بما يخدم تنفيذ سياسة الفوضى البناءة،وان عديدا من الفضائيات العربية خدمت هذه السياسية سواء بحسن نية أو بسوء نية.فمن حيث المبدأ وبعيدا عن الحديث المسهب عن الحيادية الإعلامية فإنه لا يوجد إعلام محايد مائة بالمائة،حتى في أكثر الدول ديمقراطية ،ويكفي الرجوع إلى تعامل الإعلام الأمريكي والغربي مع القضية العراقية منذ عام 1990 إلى اليوم، ونعتقد بأن الصراع للسيطرة على الفضاء الإعلامي أو التأثير عليه هو امتداد للصراع السياسي،وإن الإعلام الموجه جزء من استراتيجيات الدول لتعبئة وتحريض الجماهير ولفرض مكانتها دوليا وللتأثير على مواقف الخصم.
بعد نهاية الحرب الباردة ودخول العالم حقبة جديدة أهم سماتها محاولة واشنطن توجيه الأمور بما يمكنها من السيطرة على العالم ،لجأت واشنطن لسياسة الفوضى البناءة وكانت الفضائيات أهم الأدوات لنشر هذه الفوضى وخصوصا في العالمين العربي والإسلامي الذين اعتبرهما الرئيس السابق بوش الابن جزءا من معسكر الأعداء أو المعسكر المُنتِج والداعم للإرهاب، وعليه كانت الحاجة لتوظيف فضائيات ذات قدرة على تغطية واسعة وتنطق باللغة العربية ولديها الإمكانيات المالية والتقنية للوصول لمواقع الأحداث والدخول لكل بيت والتواصل مع كل تنظيم سياسي أو حركة معارضة،فضائيات لا تؤمن بمسلمات أو ثوابت لا وطنية ولا قومية ولا أخلاقية بل تضع كل شيء محل الشك والتساؤل ،وتفتح المجال لكل من هب ودب ممن يدعون أنهم مجاهدون أو ناطقون باسم حركات إسلامية أو قومية أو اجتماعية،فضائيات بمراسلين ومقدمي برامج مدربين تدريبا عاليا هم أقرب للمحققين الأمنيين منهم للصحفيين أثناء محاورة الضيف،مراسلون يبحثون عن الخبر والمعلومة في كل زقاق ومخيم وكهف وغابة وصالون وفندق الخ ،بدون ضوابط أمن وطني أو قومي أو ديني.
فتح عنوان السبق الصحفي والتطور الإعلامي ومسابقة الغرب في مجال الإعلام – وصدَّقنا بأن بعض فضائيات العرب قد تفوقت على الفضائيات الأمريكية والأوروبية- هيمنت فضائيات على المشهد الإعلامي ومن الإعلام مدت نفوذها للسياسة،فضائيات تقول بأنها عملت ثورة في تفكير المواطن العربي وجعلت تحت تصرف هذا المواطن العربي (المسلم الذكي واللماح والمتحضر واسع الثقافة والأفق والمتفرغ لتمحيص كل خبر ومعلومة وصورة ...،)! الحقيقة كل الحقيقة ،الحقيقة التي تحجبها الفضائيات الأمريكية والأوروبية على مواطنيها (الجهلة والمتخلفين الذين لا يعرفون مصلحتهم ولا مصلحة بلدهم ... )!،ولكن ما هو اخطر واهم أن هذه المعلومات تصل بسهولة ودون كلفة لأصحاب القرار من سياسيين وأجهزة مخابرات في الدول الأجنبية،وهي معلومات لولا الفضائيات وتقاريرها ومراسليها لكانت أجهزة المخابرات الأجنبية بحاجة لجهود جبارة وإمكانيات هائلة للوصول إليها والحصول عليها .
قد يقول قائل ولماذا تلجأ واشنطن لفضائيات عربية وهي سيدة التكنولوجيا والثورة المعلوماتية ولديها القدرة على خلق آلاف الفضائيات ؟الجواب ببساطة بأن الفضائيات وكل وسيلة إعلامية تابعة مباشرة لواشنطن وللغرب فقدت مصداقيتها ودائما متهمة بأنها منحازة،أما فضائيات تحمل أسماء عربية وبمذيعين ومقدمي برامج عرب وتنطق بالعربية وتتقن التواصل مع الشعوب العربية وإبداء التفاعل مع العواطف والانفعالات والشعارات الكبيرة بل والمزايدة على الجماهير الشعبية في هذا السياق...هذه الفضائيات لن تثار حولها الشكوك وإن أثيرت فلدى هذه الفضائيات من المال وجحافل المنتفعين ما يمكنها من تفنيد هذه الشكوك وإرهاب مروجيها.
حتى ندرك العلاقة بين عمل بعض الفضائيات وسياسة الفوضى البناءة علينا تعريف هذه الأخيرة. سياسة الفوضى البناءة الأمريكية والتي كُتب عنها الكثير، هي إحدى اختراعات الجناح اليميني في إدارة بوش الابن وهي الإدارة التي سلمت مقاليد أمورها لهذا اليمن وخصوصا ديك تشيني وفريقه ،هؤلاء كانوا من أشد المحبذين لتطبيق سياسة جديدة تجاه دول الشرق الأوسط تقوم على نقل المعركة لداخل هذه المجتمعات من خلال خلق مشاكل داخلية عرقية وطائفية الخ ،تستنزف إمكانيات هذه المجتمعات مما يسهل على الإدارة الأمريكية ومؤيديها داخل البلد من إعادة بناء هذه المجتمعات بما يخدم المصالح الأمريكية.وهكذا مع انهيار الحرب الباردة وظهور تحديات وأخطار جديدة تواجه المصالح الأمريكية وإستراتيجيتها في العالم وخصوصا في منطقة الشرق الأوسط ،قررت واشنطن الانتقال من إستراتيجية (الردع والاحتواء) لإستراتيجية (الهجوم الوقائي). هذه السياسة الجديدة هي (التفكيك النظيف) أو الفوضى (البناءة) وهي سياسة تقوم كما ذكرنا على تفكيك دول المنطقة وإعادة بناءها على أسس جديدة ،ومن البديهي أن ما هو بنَاَءَّ لواشنطن وحلفائها ليس بناء للمجتمعات العربية والإسلامية،بل هو التدمير بعينه سواء تدمير الثوابت والمرجعيات وكل ما حافظ ويحافظ على الوحدة الوطنية والتطلعات القومية -وهو ما سنتوسع به بعد قليل- أو تدمير المنظومات القيمية والأخلاقية بنشر المجون والرذيلة والخلاعة .
فمن خلال البث المباشر للصورة بكل تفاصيلها بشكل مبالغ فيه واستضافة كل من هب ودب من مدعي التحليل السياسي والخبرة الإستراتيجية والأمنية،كانت تجري عملية صناعة لجماعات وتيارات اثنية وطائفية وسياسية،ما كانت لتكون أو ما كانت لتأخذ هذا الحجم والاهتمام لولا الفضائيات،ومن هنا نقول إن بعض الفضائيات صنعت أحداثا وقوى سياسية وأثرت على مجريات الأحداث وبعض البرامج عززت حالة تغييب التفكير العقلاني الاستراتيجي لصالح التحليل السياسي السطحي المستمد من الصورة مباشرة وما تتركه من انفعالات وعواطف،أو المستمد من المواقف الأيديولوجية المسبقة،كما ساعدت على تشتيت الوعي الجمعي والثوابت الوطنية والقومية بحيث أصبح كل شيء قابل للنقاش ومحل تساؤل وهذا بدوره ساعد على تسطيح الوعي السياسي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي هي ما زالت في مرحلة بناء الأمة والوطن.
كثيرة هي الشواهد الدالة على علاقة بعض الفضائيات وخصوصا فضائيات دول صغيرة و خاضعة للاحتلال الأمريكي بشكل مباشر أو غير مباشر،بالفوضى البناءة،ولكن أهم الحالات هي موقف هذه الفضائيات من حركات الإسلام السياسي وخصوصا الحركات الجهادية العنيفة حيث أتاحت هذه الفضائيات متبرا إعلاميا لهذه الحركات لتعلن عن نفسها وتروج لأفكارها وتعلن عن عملياتها المسلحة بما يترتب على ذلك من نشر للرعب أو للإعجاب،ومن المعلوم أن هذه الجماعات هي أهم أدوات تفكيك الدولة الوطنية وتفكيك الأيديولوجيات القومية والتحررية والوطنية،وهي أهم أدوات الفوضى البناءة الأمريكية.وإذا علمنا بأن الأنظمة التي تقف وراء هذه الفضائيات ليست من جماعات الإسلام السياسي بل هي أنظمة متحالفة مع واشنطن والغرب بل تابعة لهما،عندئذ يثور السؤال لمصلحة من إذن يتم تبني هذه الجماعات والترويج لفكرها ولعملياتها ؟.
نفس الأمر بالنسبة لموقف نفس الفضائيات لما جرى ويجري في قطاع غزة .بعض الفضائيات المحسوبة على حكومات أو على جماعات سياسية تفرغت بشكل كلي لما يجري في غزة، فتحت عنوان الحرب على غزة ركزت هذه الفضائيات على جانبين: فمن جهة أظهرت المجازر الصهيونية بالتفصيل حيث ركزت على المشاهد المأساوية لجثث الأطفال والأجساد المقطعة والعائلات المشردة والفلسطينيون والعرب والمسلمون يقفون موقف المتفرج، ومن جهة أخرى أظهرت قوة وجبروت الجيش الإسرائيلي دون أن تُظهر أية صور لخسائر العدو البشرية والمادية ولا مشاهد قتالية حقيقية تتناسب مع تضخيمها لخطاب التحدي والبطولة للفصائل المقاتلة.هذه المشاهد والصور تجعل المشاهد مستفزا من صورة المجازر التي يرتكبها العدو وفي نفس الوقت يراهن على قدرة المقاومة على تحقيق الانتصار على العدو انطلاقا من خطاب المقاتلين الملثمين والناطقين باسم المقاومة والجهاد والذين تستضيفهم الفضائيات ليعلنوا بأنهم سيلقنون العدو درسا لن ينساه وأنهم سيضربون بعمق العدو !،دون أي فهم أو تحليل لمفهوم الحرب والصراع ومفهوم النصر والهزيمة تداعيات هكذا تصريحات على الرأي العام الداخلي والعالمي.
تضخيم الفضائيات لقدرات المقاومة شل عقل المشاهد وجعله لا يفكر بطريقة عقلانية عن سبل واستراتجيات مواجهة العدو ،وأساء للمقاومين لأنه يحمِّلهم أكثر من طاقتهم ويجعل المشاهدين ينتظرون منهم النصر الكامل وفي حالة عدم تحققه نظرا لاختلال موازين القوى وليس لنقص بالبطولة والاستبسال،فسيبدو الأمر وكان المقاومة انهزمت وأنها لم تكن في المستوى المأمول وهذا أضعف المعنويات.وللأسف فإن من يقفون خلف هذه الفضائيات عززوا حالة الانقسام الفلسطيني والعربي وغطوا على ذلك بإظهار أن تغطية فضائياتهم لما يجرى وفتحها أمام كل من يريد أن يتحدث عن البطولة والصمود ويسب ويشتم الأنظمة - كأن أصحاب الفضائيات ليسوا جزءا من الحالة الرسمية المتواطئة- هو نصيبهم من المشاركة بالمعركة أيضا يبدون وكأنهم جزء من الشعوب المغلوبة على أمرها إن لم يكن جزءا من تيار المقاومة والممانعة!وقد استطاعت هذه الفضائيات تغييب ومصادرة العقل والتفكير العقلاني من خلال توظيفها لحشود من الذين يُنعتون بالمحللين السياسيين والاستراتيجيين والخبراء.
من كان يشاهد ويسمع هؤلاء المحللين والخبراء وهم يوظفون خرائط لغزة ملونة ومُؤشر عليها بدوائر حمراء ويتحدثون عن مناطق مأهولة ومناطق خالية من السكان وعن تلال وجبال ،كان يعتقد أنهم يعرضون خرائط لفيتنام أو أفغانستان أو الصين وليس لمنطقة مساحتها 360 كم وعدد سكانها مليون ونصف،وحتى لا يكشف هؤلاء جهلهم وحتى يكونوا عند حسن ظن الفضائيات التي جلبتهم والأهداف السياسية الخفية التي ترمي لها ،فقد استمروا في غيهم بالحديث عن وهم (النصر العظيم) الذي تحقق في غزة.وعلى كل حال،كانت نتيجة هذه التغطية تعميق حالة الانقسام في النظام السياسي الفلسطيني وتعميق الخلافات العربية حول القضية الفلسطينية حيث ظهر معسكر الممانعة في مواجهة معسكر الاعتدال،ونتيجة هذه التغطية تم الإساءة للمقاومة حيث بانت وكأنها انهزمت وعجزت عن مواجهة العدو ورفع الحصار ،واليوم نلاحظ نهاية المقاومة المسلحة بصمت حتى نفس الفضائيات التي تبنت العمليات الاستشهادية وضخمتها وروجت لإطلاق الصواريخ تقف اليوم صامتة على إجهاض الانتفاضة والمقاومة واستمرار الحصار بل وتقف صامتة أمام تحول المقاومين والمجاهدين الذين كانت تُطبل وتُزمر لهم لحراس على حدود عزة يمنعون إطلاق الصواريخ تجاه إسرائيل وتحولهم لأجهزة أمنية قمعية لأهالي قطاع غزة .لقد نجحت هذه الفضائيات بخلق الفوضى البناءة الأمريكية في فلسطين بما خدم السياسة الإسرائيلية واهم عناصر هذه الفوضى تعميق الخلافات الفلسطينية الداخلية
|