New Page 1
الفشل والاخفاق لا يسوغان البقاء في المنصب ..د. بشير موسى نافع
30/10/2009 18:33:00
ليس ثمة من شخصية قيادية فلسطينية ارتبط اسمها بعملية السلام كما الرئيس محمود عباس. كان عباس واحداً من أوائل قيادات حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية الذين روجوا لفكرة وجود معسكر سلام إسرائيلي، وبدأوا الاتصالات بالإسرائيليين. وعندما أخذت عجلة السياسة الفلسطينية في التوجه نحو قبول الشروط الامريكية للاعتراف بالمنظمة وإلحاقها بعملية السلام، كان عباس ممن شجعوا على 'الاعتدال' والموافقة على أغلب تلك الشروط. وعندما بدا وكأن إدارة الرئيس بوش الأب ستفي بوعودها للدول العربية الحليفة في حرب الخليج الأولى، دفع عباس نحو المشاركة في مؤتمر مدريد، سواء في شكل مباشر أو غير مباشر.ولأن أوساط القيادة الفلسطينية في تونس لم تكن راضية تماماً عن أن يمثلها في مسار مدريد قيادات من الداخل الفلسطيني، فقد عمل عباس على تأسيس قناة أوسلو وأشرف على مفاوضاتها السرية. ولم يكن غريباً أن يكون عباس أبرز المشاركين في واشنطن، إلى جانب عرفات، في حفل التوقيع على اتفاقية أوسلو.عباس ليس الوحيد، بالطبع، بين القيادات الفلسطينية الوطنية الذي انتهج طريق السلام والتفاوض. أغلب قادة فتح، وعلى رأسهم المرحوم ياسر عرفات، وبعض من قادة التنظيمات الفلسطينية الأخرى، ساروا في الطريق نفسه؛ ولا يجب أن يشك احد في أن مسار أوسلو لم يكن ممكناً بدون قبول عرفات وتأييده. بيد أن من العدل الاعتراف، بالرغم من ذلك، أن عباس، في التزامه عملية السلام، كان طرازاً مختلفاً عن كل رفاقه الآخرين. ما أن انحاز عباس إلى نهج السلم التفاوضي، حتى نفض يديه كلية من أية وسائل نضال أخرى؛ بل ومن كل أوراق القوة التقليدية للقضية الفلسطينية. عشية التوقيع على أوسلو، نقل عن عباس قوله ان اتفاق السلام مناسبة لأن يدير الفلسطينيون ظهورهم للصحراء ووجوههم نحو المتوسط. وعندما راودت عرفات، بين فترة وأخرى، نوازع اللجوء للعمل المسلح، وهو يرى تعثر المفاوضات وتباطؤ الإسرائيليين، وقف عباس معارضاً. باندلاع الانتفاضة الثانية، وتحولها التدريجي لتبني العمل المسلح، أعلن عباس صراحة شجبه للانتفاضة وتجلياتها النضالية المختلفة. ولعل من الجدير التذكر أن خلاف عباس المتصاعد مع عرفات منذ نهايات 2000، أوصل عباس إلى الانحياز المكشوف للجانب الامريكي والإسرائيلي. ولم يعرف الفلسطينيون في الرئيس عباس لغة خطاب منكرة كما عرفوا في مناسبات إدانته النشاطات المسلحة للتظيمات الفلسطينية، حتى عندما جاءت هذه النشاطات رداً على اعتداءات إسرائيلية. التزام عباس نهج التفاوض والعملية السلمية، باختصار، أمر ليس موضع شك، لا في الأوساط الفلسطينية، ولا في الأوساط الامريكية والإسرائيلية. السؤال هو إلى أي حد حقق النهج الذي التزمه الرئيس عباس أهداف الحركة الوطنية الفلسطينية، ليس الأهداف الكبرى والنهائية بالتأكيد، بل المرحلية والصغرى، تلك التي تعزز شعور الشعب بأنه في الطريق الصحيح للوصول إلى محطة النهاية، اتفاقية أوسلو هي بلاشك إنجاز عباس وأحمد قريع (شريك عباس اللدود) الكبير، والاتفاقية هي التي عززت موقع عباس وسط ما تبقى من رفاقه من لجنة فتح المركزية، بعد أن عرف لسنوات طويلة بأنه مجرد شخصية باهتة، تفتقد الإبداع والمبادرة. والمشكلة في اتفاق أوسلو ليس في أنها رجحت خيار السلام على خيار النضال المسلح، أو أنها أسست لتراجع الحركة الوطنية الفلسطينية عن المطالبة بكل فلسطين والقبول بتسوية سلمية على جزء من وطنهم، وهي القضايا التي أثارت معظم الجدل بين مؤيدي أوسلو ومعارضيه. المشكلة أن اتفاق أوسلو لا يرقى أصلاً إلى تسوية تفاوضية مشرفة، أو حتى إلى الحرص التفاوضي البحت على الحد الأدنى من المصالح الفلسطينية. الحقيقة أن ليس ثمة حركة تحرر في التاريخ قبلت بأن تضع نضالها الوطني وديعة لدى اتفاق سلام مثل اتفاق أوسلو، ناهيك عن حركة تحرر تكاد أن تنهي قرناً من عمرها. أوسلو، كما قال احد الرؤساء العرب يوماً، اتفاق يحتاج لعشرات الاتفاقات الأخرى لتوضيحه. وهذا بالتأكيد ما وجده الفلسطينيون بمجرد أن سلموا أجزاء من غزة وأريحا ليقيموا عليها سلطة الحكم الذاتي؛ فقد أصبحت السلطة أسيرة العدو وسلطات احتلاله، وأسيرة مزاج رؤساء حكومته ووزراء دفاعه. ولم يعد من الممكن التقدم بمسار أوسلو بدون إذلال أمني وتفاوضي واقتصادي، وبدون امتحان مصداقية ولاء المسؤولين الفلسطينيين لعملية السلام وللشراكة مع المحتل، وفي بعض الأحيان أيضاً، امتحان مصداقية خدمة مصالح الدولة العبرية. في النهاية، بالطبع، لم يكن هناك في أوسلو ما يلزم الإسرائيليين بالالتزام بأوسلو، ولم يصل الاتفاق أبداً إلى محطته النهائية. بيد أن الأسوأ، كما بات معروفاً، كان في ما صمت عنه أوسلو، ما قبل المفاوض الفلسطيني بتأجيله إلى اتفاقية الحل النهائي، وكأن الدولة العبرية حمل وديع، لم يجربه الفسطينيون ويكتووا بنهبه وحروبه طوال قرن. في أوسلو لم يكن ثمة حدود متفق عليها ولا سيادة، وظلت الأرض الفلسطينية بالتالي مفتوحة للاستيطان الإسرائيلي، الرسمي وغير الرسمي، بحيث اتسع نطاق ووتيرة الاستيطان في الضفة الغربية بعد أوسلو كما لم يتسع منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي.وصل أوسلو في النهاية إلى طريق مسدود، وهو ما أدى إلى اندلاع الانتفاضة الثانية. ولكن عباس، بصفته الشخصية الثانية في منظمة التحرير وفي سلطة الحكم الذاتي، لم يوافق على سياسة عرفات الممثلة في الانحياز للانتفاضة والشعب. ثمة من يقول ان عباس تآمر مع دحلان في تنظيم المظاهرات المعارضة لعرفات، والتي سبقت موت الرئيس (أو قتله)؛ والبعض، كما هو القدومي، يدعي أن دور عباس في مواجهة عرفات ذهب أبعد من ذلك بكثير. ما هو مؤكد، ولا يحتاج إلى أدلة إضافية، أن عباس ساهم مساهمة رئيسية في مشروع تهميش عرفات وإبعاده عن قرار السلطة، سواء في محاولة تقليص صلاحياته أو في حصاره. أصبح عرفات رمز الخروج عن الشرعية وهدف الكراهية الامريكية والإسرائيلية، وبرز عباس باعتباره الشخصية الأكثر قبولاً دولياً وإسرائيلياً، وأمل الفلسطينيين الوحيد في الحصول على الدعم العالمي. عين عباس رئيساً لحكومة السلطة، وفي لحظة الهجمة الامريكية العشواء على العالم، وعلى أفغانستان والعراق على وجه الخصوص، خاطب عباس الأمريكيين كما ينبغي أن يخاطبوا، تعهد لهم بما يجب أن يتعهد به، وتعامل مع الإسرائيليين كما توقع الإسرائيليون منه أن يتعامل. ولكن لا إدارة بوش الابن، ولا الحكومة الإسرائيلية، قدمت لعباس ما كان يمكن أن يعزز من وضعه القلق كرئيس حكومة لسلطة حكم ذاتي، تعيث القوات الإسرائيلية في جنباتها خراباً،أخرج عرفات من الساحة كلية، وتولى عباس رئاسة السلطة ورئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. وليس ثمة شك أن ما توفر لعباس خلال العام الأول من رئاسته لم يتوفر ولا حتى لعرفات؛ فقد قرر الفلسطينيون إعطاء رجل السلام والتفاوض فرصة كاملة لتحقيق وعوده. أنتخب عباس لرئاسة السلطة بأغلبية مريحة؛ وأعلنت تنظيمات المقاومة الفلسطينية هدنة، أو وقف إطلاق نار، مع العدو، لتهيئة الظروف المناسبة لتوجهات الرئيس عباس السلمية. ولكن أياً من وعود السلام لم يتحقق؛ الإسرائيليون، شركاء عباس الأصليون، لم يبدوا اكتراثاً بالهدنة ولا حتى بعباس، معلنين أن شريكهم السابق لم يعد شريكاً، بينما واصل الأمريكيون انسحابهم من الساحة الدبلوماسية، وإفساح المجال أمام الإسرائيليين لتركيع الفلسطينيين وإيقاع هزيمة ساحقة بهم. بين بدء رئاسة عباس والانتخابات التشريعية في كانون ثاني/يناير 2006، التي حققت فيها حماس فوزها الكبير، كان الإنجاز الوحيد للحركة الوطنية الفلسطينية هو فرض الإنسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة. ولكن الانسحاب الإسرائيلي هذه المرة لم يأت بفعل المهارة التفاوضية للرئيس الفلسطيني، بل بفعل تصاعد النضال الوطني في القطاع، وتحوله إلى عبء ثقيل الوطأة على الكاهل الأمني الإسرائيلي.
لم تجد مطالبات عباس المتلاحقة باستئناف عملية السلام صدى ما إلا في خريف 2007، بعد أن أدت حماقة أجهزة الرئيس الأمنية في قطاع غزة إلى سيطرة حماس على القطاع، ووقوع انقسام فلسطيني غير مسبوق. قدم المهرجان الذي أقامه الأمريكيون في مدينة أنابوليس نافذة أمل للرئيس الفلسطيني ولدعاة التفاوض والتسوية من حوله. انتهى مسار أوسلو وبدأ مسار أنابوليس؛ ولأن الرئيس عباس كان قد تحرر من عبء غزة وثقل تنظيمات المقاومة فيها، فقد أعطى رئيس حكومته سلام فياض تفويضاً كاملاً للإصغاء للمستشارين الأمريكيين، وتنفيذ الالتزامات الفلسطينية في خارطة الطريق، مهما كانت العواقب وردود الفعل الشعبية. في الضفة الغربية، انطلقت عجلة السلطة الأمنية بلا هوادة؛ أما المفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية، فقد سارت ببطء ممل، بين شائعات تؤكد الاقتراب من التسوية النهائية، وأخرى تؤكد فشل الطرفين في تحقيق أي تقدم ملموس. لم يشارك الأمريكيون في المفاوضات في أي شكل نشط؛ وسرعان ما وصل التفاوض إلى لحظة انهيار حكومة أولمرت - ليفني. وما أن تولى نتنياهو الحكم حتى أعلن بوضح لا لبس فيه أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة ليس من عناصر تصوره للحل النهائي.من يسمع الرئيس عباس مهدداً ومنذراً من هاجموا خطوته في سحب تقرير غولدستون من أعمال اللجنة الدولية لحقوق الإنسان، ربما يظن أن خصوم الرئيس هم من أخطأ بحق القضية والمصالح الفلسطينية. ومن يسمعه يهدد ويطلق النعوت على من يرفضون الانصياع للمصالحة على شروطه، ربما يظن أن الرئيس يسير في خط استراتيجي محكم، لن يؤدي الخروج عليه إلا إلى كوارث وطنية. الحقيقة أن ميراث الرجل هو سلسلة متراكمة من الفشل والإخفاق؛ ومن يكون هذا ميراثه، لا ينبغي عليه إلا مغادرة الحلبة،يكفي عباس ما فعله بفلسطين والفلسطينيين.
' كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
|