New Page 1
هل ظلم العرب صموئيل هنتنغتون؟
02/11/2009 10:23:00
شغلهم حيا وتلقوا خبر رحيله ببرود مثير
واشنطن: محمد علي صالح
بقدر ما أثار صموئيل هنتنغتون غضب العرب وحنقهم في حياته، وجدناهم يقابلون موته ورحيله بلا مبالاة مثيرة للغرابة. فهذا الرجل الذي لم يحظ كاتب أميركي معاصر بنصف أو حتى ربع ما كتب بالعربية عنه أو للرد على نظريته الشهيرة «صراع الحضارات»، بدا موته وكأنه مجرد خبر عابر، اكتفت غالبية الصحف العربية منه بما ورد في الوكالات. والحق يقال إن العرب غضبوا من نظرية الرجل بسبب جزئية فيها تخصهم ألا وهي حتمية صراع المسلمين مع الغرب، دون أن يلتفتوا كثيراً إلى نواح عديدة في هذه النظرية كشف من خلالها نفاق الغرب وخفايا كذبه إضافة إلى قضايا أخرى شديدة الأهمية. وجاء موت هنتنغتون مع أعياد رأس السنة، وتلته مجازر غزة لتطوى صفحة هذا الرجل دون إعادة قراءة أو تمحيص، فهل ظلمنا هنتنغتون، أم أنه براقش التي جنت على نفسها؟ مع احتفالات الأميركيين بأعياد رأس السنة، توفي الأستاذ الجامعي الأميركي صموئيل هنتنغتون، صاحب كتاب «صراع الحضارات» الذي صدر سنة 1996، وأثار نقاشاً كثيراً داخل وخارج أميركا. لكن، للرجل مؤلفات أخرى، فقبل «صراع الحضارات» نشر «النظام السياسي في مجتمعات متغيرة»، وبعده نشر كتاب «من نحن»؟ وأثارا نقاشات في أميركا لا تقل عن التي أثارها «صراع الحضارات». وقال كثيرون ممن انتقدوا كتبه إنهم يشككون في نواياه «الأكاديمية المحايدة»، ويعتبرون أنه يقلل من قيم حضارات شعوب العالم الثالث، كما أنه ينطلق من استعلاء ثقافي أميركي، بصورة خاصة، وغربي، بوجه عام. لكن هنتنغتون في أميركا لا يحسب على المتطرفين أو المحافظين المتشددين. وانتقد، نقدا شديدا، الحضارة الغربية، والسياسة الأميركية. ويصح القول إن لهنتنغتون وجهين: وجها أميركيا استعلائيا ووجها آخر أميركيا صريحا وناقدا لأميركا. ولد هنتنغتون سنة 1927 في نيويورك، وكان ذكياً منذ صباه. تخطى المرحلة الثانوية بسرعة ودخل جامعة ييل، وتخرج فيها بدرجة شرف وعمره ثماني عشرة سنة. ونال الدكتوراه من جامعة هارفارد وعمره ثلاث وعشرون سنة. ومنذ سنة 1950، ولأكثر من نصف قرن، كان أستاذا في قسم العلوم السياسية في جامعة هارفارد. وترك هارفارد مرتين: خلال إدارة الرئيس جونسون (حرب فيتنام)، عمل مستشاراً في الخارجية الأميركية. وخلال إدارة الرئيس كارتر (ثورة إيران) عمل مستشاراً في مجلس الأمن الوطني في البيت الأبيض. وقبل سنوات قليلة، تقاعد وانتقل إلى منتجع صيفي في ولاية ماساتشوستس حيث توفي. قبل أن يكتب «صراع الحضارات»، نشر هنتنغتون كتباً أخرى أثارت نقاشات كثيرة. ففي سنة 1968 صدر له «النظام السياسي في مجتمعات متغيرة»، عارض فيه نظريات «التحديث» لأساتذة العلوم السياسية الغربيين التي تقول إن التنمية الاقتصادية والتغيير الاجتماعي هما أساس الحضارة، خاصة بالنسبة لدول العالم الثالث التي كانت مستعمرات أوروبية. وركز على دولتين: المكسيك والبرازيل. ودعا إلى عدم استعجال تطبيق الديمقراطية، والى البدء بحزب واحد قوي. وأشاد بتجربة المكسيك حيث سيطر على الحكم حزب واحد (حزب بي آر اي) منذ أكثر من ستين سنة. وقال إن البرازيل يجب أن تفعل الشيء نفسه.
لكن، انتقده علماء علاقات دولية آخرون، مثل البريطاني الآن هوبر، أستاذ في جامعة هارتفوردشير، ومؤلف كتاب «الاعلام والعسكريون». وكتب رأيا عنوانه: «أي ديمقراطية؟ وأي أزمة؟»، قال فيه: ليست هناك شروط لتطبيق الديمقراطية. إنها واحدة لا تتغير، في الدول الأوروبية ودول العالم الثالث، كما في المجتمعات الحضارية والبدائية. واعتبر أن ليس هناك خطوات لتطبيق الديمقراطية، كالبداية بحزب واحد قوي، لأن ذلك يؤثر في حقوق أحزاب الأقليات. واعتبر هوبر أنه عند تصدير الديمقراطية الغربية إلى دول العالم الثالث، يجب ألا تصدر كنظام حكم، بدون فكرة تعتمد عليها.
وفي سنة 1970، أصدر هنتنغتون كتاباً آخر بعنوان «دفاع مشترك: برنامج استراتيجي للسياسة الوطنية». في ذلك الوقت، كانت القوات الأميركية تحارب في فيتنام، واقترح مرة أخرى، تطوراً ديمقراطياً بطيئاً، بداية بفصل ثوار «فييت كونغ» الشيوعيين عن بقية السكان، ثم توطين المزارعين في مدن، وتطبيق الديمقراطية وسطهم. يومها كان هنتنغتون مستشاراً في وزارة الخارجية الأميركية.
لكن، بعد نهاية حرب فيتنام، كتب هاري سامرز كتاب «إعادة تقييم حرب فيتنام»، وانتقد آراء هنتنغتون عن ثوار «فييت كونغ». وقال الآتي:
أولا: في ذلك الوقت، كان هنتنغتون دبلوماسياً في وزارة الخارجية، يؤيد تدخل الحكومة الأميركية في فيتنام، وليس أستاذاً نزيها في جامعة هارفارد.
ثانيا: كان صعباً تطبيق نظرية «الدفاع المشترك» التي دعا لها لأن ثوار «فييت كونغ» الشيوعيين، كانوا قد سيطروا على جزء كبير من فيتنام الجنوبية، ولم يكن سهلا فصلهم عن بقية السكان.
ثالثاً: لم يكن صائبا تقسيم شعب إلى أقسام، وتطبيق الديمقراطية على قسم دون الآخر، وتأجيلها في قسم واستعجالها في قسم آخر.
رابعا: خلط هنتنغتون بين عدائه الشخصي للشيوعية وحل مشكلة فيتنام حسب رغبة الشعب الفيتنامي. ولم يضع اعتبارا كبيرا لهذه الرغبة.
في سنة 1996، اصدر هنتنغتون كتاب «صراع الحضارات»، قال فيه إن نهاية الحرب الباردة (بين المعسكرين الغربي الرأسمالي والشرقي الشيوعي) هي بداية حرب بين حضارات ثمانية: مسيحية بروتستانتية (غرب أوروبا وأميركا وكندا)، ومسيحية كاثوليكية (أمريكا الوسطى والجنوبية)، ومسيحية أرثوذكسية (روسيا وشرق أوروبا)، وهندوسية (الهند)، وبوذية (الصين)، وتاوية (اليابان)، وافريقية (جنوب الصحراء)، وإسلامية (من المغرب إلى إندونيسيا، ومن كازاخستان إلى الصومال). وقال هنتنغتون: «أساس صراع الحضارات هو الثقافة، أو الهوية، التي تحكم كل حضارة... الهويات الثقافية هويات حضارية، وهي التي تشكل أنماط التماسك والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة». وبالنسبة للعلاقات الدبلوماسية بين الدول، تشكل الحضارات المصالح والخصومات بين الدول. وبالنسبة للعلاقات العسكرية بين الدول، انتقل استعمال القوة الدولية من الحضارة الغربية إلى حضارات العالم الثالث.
ولهذا، قال هنتنغتون، إن هناك ثلاثة عوامل جديدة:
- صارت السياسة العالمية متعددة الأقطاب ومتعددة الحضارات.
- تحول أساسها من صراعات أيديولوجية إلى صراعات ثقافية.
- صار استعمال القوة يعتمد على الثقافات أكثر من الأيديولوجيات.
وقال هنتنغتون: «كي نفهم النزاع في عصرنا وفي المستقبل يجب أن نفهم الخلافات الثقافية (الثقافة بدلا من الدولة، والدولة الثقافية بدلا من الدولة الوطنية). ويجب أن نعترف بها كأسباب قوية للحروب». وخلص إلى انه «ربما ستفقد الدول الغربية زعامتها إذا فشلت في فهم هذه المتغيرات الكبيرة والخطيرة».
وقال هنتنغتون: «لن تكون الأيديولوجيا والاقتصاد أساس المشاكل العالمية في المستقبل، ولكن الثقافة. ستظل الدول تلعب السياسة الدولية مع بعضها بعضا لكنها، أحيانا، ستلعب مع مجموعات حضارية وثقافية مختلفة. لهذا، لن يكون الصراع في المستقبل بين الدول، ولكن بين الحضارات».
من بين الذين انتقدوا كتاب «صراع الحضارات» مقالات في مجلة «لوموند دبلوماتيك» الفرنسية، قال بعضها إن الكتاب «يريد شرعنة عدوان الغرب بقيادة الولايات المتحدة على الصين، وعلى العالم الإسلامي» ومن الذين انتقدوا هنتنغتون، إدوارد سعيد (توفي سنة 2003) الذي قارن بين الأميركي هنتنغتون والبريطاني أرنولد توينبي (توفي سنة 1975). وقال إن توينبي، مؤلف سلسلة «دراسة التاريخ»، درس التاريخ من وجهة نظر مسيحية غربية، معتبراً انه «إذا جاءت البوذية (الصين) إلى الغرب، ستكون أهم حدث في القرن العشرين»، وقال سعيد إن هنتنغتون وسع نظرية توينبي لتشمل أدياناً أخرى، وانه وتوينبي يشتركان في أمر آخر، وهو أنهما، لفترات قصيرة، تركا التدريس الجامعي، وعملا موظفين في حكومتي بلديهما. عمل هنتنغتون في الخارجية الأميركية في إدارة الرئيس جونسون، وعمل في البيت الأبيض في إدارة الرئيس كارتر. وعمل توينبي في الاستخبارات البريطانية، ثم في الخارجية البريطانية (لم ينس سعيد، الفلسطيني الفخور، بأن توينبي اشترك في تطبيق الوصاية البريطانية في فلسطين).
نشر سعيد راياً في كتاب «صراع الحضارات» سماه «صراع الجهل». قال فيه: «ليست مشكلة هنتنغتون هي صراع الحضارات، ولكن هوية الحضارات. ما هي هوية الحضارة؟ إنه يخلط بين عوامل كثيرة ومتغيرة». وأضاف سعيد: «يبدو أن هنتنغتون لم يكتب هذا الكتاب لولا انه يريد أن يركز على ما يسميه الصراع بين الغرب والإسلام، وفي الحقيقة، جزء كبير من الكتاب عن هذا الموضوع».
ومثلما انتقد سعيد الصلة الفكرية بين هنتنغتون وتوينبي، انتقد الصلة الفكرية بين هننتغتون وبيرنارد لويس، لأكثر من سبب: لان لويس (اليهودي) مستشرق، وكان سعيد أعلن الحرب على المستشرقين واتهمهم بالتقليل من مكانة الحضارة العربية، ولأن لويس ظل لنصف قرن «الخبير الأميركي الأول» عن الشرق الأوسط، وكتابه «الإسلام والغرب» لا يزال مصدر آراء كثير من الأميركيين، واعتمد هننتغتون على رأي كتبه لويس عنوانه: «جذور الغضب الإسلامي» وقال سعيد إن الاثنين اتفقا على أن الصراع هو بين «الغرب» و«الإسلام» دون أن يحددا ما هو الغرب، ودون أن يعرفا ما هو الإسلام.
بعد كتاب «صراع الحضارات»، أصدر هنتنغتون (سنة 2004) كتابه «من نحن؟ التحديات للهوية القومية لأميركا». وهو عن معنى الهوية القومية لأميركا والتهديد المحتمل الذي تشكله الهجرة اللاتينية الضخمة. وحذر هنتنغتون من أنها قد «تقسم الولايات المتحدة إلى شعبين، بثقافتين، وبلغتين». وقال شارحاً: «تواجه الثقافة الأميركية حصاراً من كل الجوانب. قبلنا، واجه الاتحاد السوفياتي نفس الحصار، ولأنه كان متعدد الأديان والأعراق والثقافات، لم تكن عقيدته قوية، انهار. لهذا، علينا أن نفعل شيئين: نمنع التقسيمات الثقافية، ونقوي عقيدتنا. أثار هذا الكتاب جدلا واسعا كما «صراع الحضارات»، واتهم البعض هنتنغتون بأنه مصاب بمرض «الكسنوفوبيا» (رهاب الأجانب). وانه يعلى مكانة الهوية الأنجلوسكسونية لأميركا، ويقلل من الهويات والحضارات.
ومن تناقضات التاريخ، أن هنتنغتون الذي كتب في مؤلفه «النظام السياسي في مجتمعات متغيرة» أن تطبيق الديمقراطية في المكسيك والبرازيل يجب أن يكون تدريجياً (تلميح إلى أنهم غير متطورين مثلنا)، خاف، بعد أربعين سنة في كتاب «تحديات الهوية الأميركية»، من هجرة الملايين من هذه الدول وغيرها إلى أميركا. لكن، لم يكن هنتنغتون متطرفاً أو محسوباً على اليمين المحافظ. ففي كتاب «صراع الحضارات» نفسه انتقد الحضارة الغربية، ومما قاله:
أولا: «لم يسيطر الغرب على العالم بسبب أفكاره وآرائه ودينه، ولكن بسبب تفوقه العسكري، وينسى الغربيون دائماً هذه النقطة، لكن، لا ينساها أبدا غير الغربيين».
ثانيا: «يجب أن يقوّي الغرب نفسه داخلياً، ويتخلى عن عالمية الديمقراطية، وعن التدخل المباشر في شؤون الدول الأخرى» (خاصة دول العالم الثالث).
ثالثا: «ليس الإسلاميون هم التهديد الحقيقي للغرب، ولكنه الإسلام، الحضارة المختلفة التي يؤمن أصحابها أن ثقافتهم هي الأعلى، ويحسون بحرج كبير بسبب ضعفهم».
رابعا: «يعاني الغرب في سياسته نحو دول العالم الثالث من النفاق. يريد تطبيق الديمقراطية، على ألا يفوز فيها الإسلاميون. يعارض قنبلة نووية إيرانية أو عراقية، لكن لا مانع من قنبلة إسرائيلية. يؤيد التجارة الحرة، لكنه يدعم المزارعين الغربيين. حشد قواته لوقف تدخل العراق في الكويت الغنية بالنفط، لكنه لم يتدخل (إلا متأخراً) لوقف تدخل الصرب في البوسنة التي ليس فيها نفط». وأضاف: «صار النفاق في التطبيق هو ثمن تطبيق المبادئ، أو ادعاء تطبيقها».
|