New Page 1
إلى السيدة أسماء المدهون.. لن أعتذر
09/12/2009 12:28:00
نادية عيلبوني
لن أعتذر عما كتبت يا سيدة أسماء ، لن أعتذر، لأنني أعرف كما تعرفين ، كما يعرف أبناء قطاع غزة جميعا ، ومثلما يعرف الفلسطينيون والعالم أجمع ، أن الشعب الفلسطيني كله،وعلى وجه الخصوص في قطاع غزة، يعيش على المعونات وصدقات العالم بنسبة تفوق 80 % . وهذه الإحصائية ليست من بنات أفكاري، ولا هي من اختراعي الشخصي . إذ بإمكان الكاتبة ، أن تعود إلى تلك الإحصاءات وتحاول أن تستخلص مغزاها ودلالاتها التي تعني أول ما تعنيه أننا للأسف، أصبحنا "شعب لله يا محسنين" .
لا يوجد شعب في العالم أجمع يعيش بمثل تلك النسبة على معونات الآخرين، مثلما يعيش الشعب الفلسطيني، حتى الشعب الصومالي الذي أنهكته الحرب الأهلية منذ عدة سنين ، لم يصل إلى هذا المستوى من الاعتماد في معيشته على الآخرين!!!!
أعرف أن تلك الحقيقة قد تكون جارحة ومؤلمة لمن تربوا على أكذوبة "شعب الجبارين" . وهي جارحة بالمقدار نفسه لكل فلسطيني كان يأمل بشيء آخر مختلف عن الواقع الذي يعيشه. إلا أن مشاعرنا وكبريائنا شيء ، والحقائق العنيدة شيء آخر ومغاير تماما .ونحن لا نريد أن نكذب على بعضنا البعض ، فالكذب عندما تكون الحقائق دامغة، هو أيضا عيب، ونقيصة، ومضرة لكل من أراد أن يعرف مواقع أقدامه.
وإذا أردت، يا سيدتي، أن تعرفي المزيد عن الحقائق الإقتصادية، وعن الكيفية التي يعيش من خلالها الشعب الفلسطيني، والتي تؤيد جميعها ما استخلصته من حقائق حول التسول ، فما عليك إلا أن تتنكبي عناء تحريك مؤشر غوغل على هذا الموضوع بالتحديد ، لتصطدمي بحقيقة أن الدول المانحة قدمت للفلسطينيين في غضون عشر سنوات التي تلت اتفاقيات اوسلو ، ثلاثة أضعاف ما قدم في مشروع مارشال لإعادة إعمار أوربا كلها ،بعد الحرب العالمية الثانية مع حساب فارق العملة و الزمن!!!
سيدة أسماء:أرجو أن تخففي من غلوائك قليلا وتحاولي أن تهدئي وتأخذينا بحلمك. أو حاولي على الأقل التمييز بين امرأة مثلي تعيش في بلد حر،يعتمد على العقل والمعلومة ، وبين "الجماهير"البسيطة والساذجة التي توجهين خطابك العاطفي والانفعالي لها.
عليك أن تأخذي بعين الاعتبار ، أنني أنا لست من تلك الجماهير التي يستطيع تجار السياسة والدم في غزة أو غيرها خداعها ، أو تخديرها بالخطابات التي تتحدث عن "الصمود" وعن "الكرامة" وعن "المقاومة" ، في الوقت التي تحصل فيه على لقمتها بالتسول.وبما أنني أعيش بعيدا عن لغة العواطف والغرائز البدائية ، فإنني أدرك تمام الإدراك أن الكرامة التي تتحدثين عنها وتخطبين بها وأنت غاضبة ، لا يمكن أن تستقيم في ظل حالة الفقر المدقع كذاك الذي يعيشه أبناء قطاع غزة. كرامة + فقر + تسول ليس بالإمكان جمعهم مهما حاولنا !!
الكرامة يا سيدتي، شأنها شأن الجسد ، تحتاج لكي تنمو نموا سليما إلى الشبع والإشباع، وبما أنها كذلك ، فهي لا تقبل أبدا أن تتغذى على فتات أهل الإحسان.بل تحتاج أن ترضع أولا وقبل كل شيء حليب الاعتماد على الذات.
أما أن تقولي لي شعب "عنيد" و"صامد " و"صابر"و"محاصر" و"مقاوم" و... و.. إلى أخر ما هنالك من معزوفة قديمة ما عادت ا تطرب ولا تشبع ولا تسمن من جوع ، فإن هذا لا يقنعني ولا يمكن أن يقنع أي عاقل. .إن مثل هذا الخطاب الممتلىء بالحماسة المفتعلة أعتبره ، كما يعتبره كثيرون غيري "صف حكي". والحكي كثير في بلادنا، وربما أكثر بكثير من كل الشيكولاته واللحوم التي وزعت كحسنات أو صدقات عندكم.
سيدتي ، لا أستطيع الدفاع مثلك عن من جعل مليون ونصف المليون من أبناء قطاع يعيشون على صدقات الدول المانحة وصدقات إيران وغيرها من المحسنين أي كانت جنسيتهم أو ديانتهم ، كما لا أستطيع الدفاع عن السياسيين الذين وضعوا تسعيرة مقومة بالدولار الأمريكي لدم الفلسطيني الذي( يستشهد) في حروب سوريا وإيران،ولكن من حقي أن أنتقد السياسة التي جلبت كل هذا الخراب، كما من حقي ، ومن حق أي فلسطيني أن يوجه النقد اللاذع لأولئك الذين يفلسفون رذيلة التسول ومحاولاتهم تقديمها بصور لا تليق بكرامة الفلسطيني الذي قدم تضحيات هائلة من أجل الحرية، لا من أجل أن يصبح شعب الشحاذين في نهاية الأمر. فالعيش على الإحسان لا يمكن أن يبني دولة ، كما لا يمكنه أن يؤسس لهوية شعب ، ولا يمكنه في مطلق الأحوال أن يؤدي بنا إلى التحرر الذي ننشده.
كنت آمل أن تكون هناك سلطة قضائية فلسطينية تستطيع محاسبة المسئولين ليس فقط، عن من حولوا شعبنا إلى شعب تجوز عليه الصدقة ، بل أيضا لمحاسبة كل من اتبع تلك السياسة الرعناء التي لم تجلب معها إلا الخراب الكامل. ومحاسبة كل أولئك الذين سلموا رقابنا إلى إيران وسوريا وغيرها من الدول التي تريدنا وقودا في صراعاتها..وبما أننا لم نصل بعد إلى المستوى الذي يؤهلنا لتلك المحاسبة ، فلا بأس أن ننتقد كل ما نراه معوجا وضار بكرامتنا ومستقبل قضيتنا.
وختاما، أرجو من السيدة أسماء أن لا تحاول الخروج عن الموضوع ومحاولة شخصنته ، وأن لا تضيق عينها كوني أسكن في فيينا. فكوني أعيش في هذه المدينة الجميلة والرائعة على مختلف الصعد ,والتي يفوق وصفها ما قالته فيها المطربة "أسمهان". لا دخل له بموضوعنا . وكوني أعيش بين أناس يحترمون الاختلاف و يقدرون قيمة الاعتماد على الذات كقيمة تعلى من شأن الكرامة الإنسانية، ليس مثلبة ولا هو بنقيصة ، بل على العكس من هذا ، فأنا أعتبر نفسي محظوظة تماما لأن إقامتي في هذا البلد الذي يحترم العقل ويحترم حرية أفراده ، قد أتاح لي دون أدنى شك ، أن أزيح الكثير من ركام الأيديولوجيا ومزابلها، و التي كانت تحجب عن عينيي حجم وحقيقة المآسي التي عشناها ويعيشها شعبنا . ولكن في المقابل استطيع أن أطمئن السيدة أسماء ،في أن السبب في الخراب الذي تعيشه المناطق الفلسطينية ،لا دخل له بمكان سكناي الحالي ،و إذا اكتشفت يوما أن إقامتي في فيينا هي السبب في كل ما عاشه ويعيشه الشعب الفلسطيني من عذابات ، فأنا على أتم الاستعداد للانتقال للعيش في غزة، حتى لو حرمت من أكل اللحوم والشيكولاته!!
صحافية فلسطينية مقيمة في فيينا
|