New Page 1
الهندي الجديد يستنسخ في فلسطين : فهمي هويدي
18/10/2009 10:18:00
انتابني شعور بالهلع حين سمعت مصطلح الفلسطيني الجديد لأنه بدا استعادة لتجربة صناعة الهندي الجديد، التي تعد إحدى الجرائم التاريخية الكبرى.
(1)
الذي تحدث عن الفلسطيني الجديد هو الجنرال كيث دايتون الذي يتولى رسميا وظيفة المنسق الأمني وهو يقيم في تل أبيب ملحقا بالسفارة الأميركية هناك. أما وظيفته الفعلية فهي الإشراف على تهيئة الأوضاع في الضفة الغربية بحيث تتوافق تماما مع الرغبات والمخططات الإسرائيلية. وهى المهمة التي يحتل رأس أولوياتها تهدئة الهواجس الأمنية الإسرائيلية. من خلال تخليق جيل من الفلسطينيين نافر من المقاومة ومتصالح مع الإسرائيليين.
الفلسطيني الجديد الذي يريده دايتون كائن ممسوخ الذاكرة، لا تاريخ يحثه ولا حلم يشده ولا أمل يتعلق به، وإنما هو مشغول بالتوافق مع المحيط المفروض عليه، ومهجوس بالدفاع عن سلطة منفصلة عن الأمة، ومحتمية بعدوها التاريخي
"من هذه الزاوية يغدو الفلسطيني الجديد كائنا ممسوخ الذاكرة، لا تاريخ يحثه ولا حلم يشده ولا أمل يتعلق به، وإنما هو مشغول بالتوافق مع المحيط المفروض عليه، ومهجوس بالدفاع عن سلطة منفصلة عن الأمة، ومحتمية بعدوها التاريخي. المقاومة عنده إرهاب، وفصائل النضال من بقايا عهد بائد عفا عليه الزمن. و"التعاون" مع الإسرائيليين إسهام مرغوب في الاستقرار، وليس مجلبة للعار.
هذا الفلسطيني الذي يريدونه كائن غير الذي نعرفه. ومهمة الجنرال دايتون هي العمل على الإسراع بإنتاجه، كي يتسلم الزمام ويريح بال الإسرائيليين. والجهد الذي يبذله يتوزع على دوائر ثلاث هي: سلطة الإدارة والأجهزة الأمنية والمواطنون العاديون. ومن الواضح أن كل التركيز في الوقت الراهن موجه إلى الدائرتين الأوليين. لأن ترويض الفلسطيني العادي مهمة بالغة المشقة وتحتاج إلى وقت طويل.
لقد كانت الرسالة الشهيرة التي وجهها ياسر عرفات باسم منظمة التحرير إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين (سبتمبر 1993) بداية مرحلة ترويض القيادة الفلسطينية واستسلامها في أوسلو للضغوط الإسرائيلية. ولعل كثيرين يذكرون أن عرفات أعلن وقتذاك الاعتراف بإسرائيل ونبذ الإرهاب (في إدانة صريحة للمقاومة) مؤكدا أن كل القضايا العالقة ستحل بالمفاوضات، الأمر الذي أغلق الأبواب أمام أي بدائل أخرى في حسم الصراع. وهذه البداية شقت منحدرا انتهى إلى حيث اعتبر خلفه أبو مازن أن المقاومة عمل «حقير»، وإلى حيث أصبح التنسيق الأمني قائما بين السلطة الفلسطينية وبين سلطة الاحتلال للقضاء على المقاومة واستئصال عناصرها. وهى القرائن التي دلت على أن ثمة سلطة «جديدة» نالت رضا الإسرائيليين وتأييدهم. الأمر الذي هيأ مناخا مواتيا للتقدم نحو تخليق الفلسطيني الجديد في الأجهزة الأمنية. وهى المهمة التي تصدى لها الجنرال دايتون، وساندته فيها بقوة الرباعية الدولية.
(2)
في مطلع شهر مايو/أيار الماضي ألقى الجنرال دايتون محاضرة في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، تحدث فيها عن جهوده في إنتاج الفلسطيني الجديد المنخرط في الأجهزة الأمنية. فقال إن عناصر تلك الأجهزة تم انتقاؤهم من خارج الفصائل، أي من خارج السياسة والدوائر ذات الصلة بالنضال (الإرهاب). بحيث يتحول الواحد منهم إلى شرطي ينتمي إلى مهنة أكثر من انتمائه إلى وطن أو قضية. وعلى حد تعبيره فإن الشرطي يلقن ابتداء أنه يعد لكي لا يحارب إسرائيل، ولكن لكي يحفظ النظام ويطبق القانون لهدف أساسي هو: العيش بأمن وسلام مع الإسرائيليين.
إلى جانب الإعداد العسكري لأجهزة الأمن، فهناك الإعداد النفسي الذي يستهدف تغيير طريقة تفكير ذلك الجيل الجديد من الجنود، الذين يعملون تحت قيادة ضباط سبقوهم في التعاون والتنسيق الأمني مع الإسرائيليين، وهذا التنسيق له هدفان أساسيان هما ملاحقة عناصر المقاومة وإجهاض عملياتها. والحيلولة دون تصعيد التوتر بين الجماهير الفلسطينية وقوات الاحتلال.
الجندي الفلسطيني "الجديد" أصبح لا يتردد في تنفيذ تعليمات مطاردة أو خطف واغتيال المقاومين. والضابط الجديد أصبح على تنسيق يومي مع الإسرائيليين. حتى تباهى الجنرال دايتون بأن التعاون بين الضباط الفلسطينيين ونظرائهم الإسرائيليين حقق نجاحا كبيرا أثناء العدوان على غزة، لأنه ساعد على تهدئة الأمور في الضفة، لدرجة أن الضباط الفلسطينيين كانوا يطلبون من الإسرائيليين الاختفاء عن الأنظار لساعة أو ساعتين من بعض المواقع، كي تمر المظاهرات دون أن يستفزها وجودهم. وذكر أن ذلك "التفاهم" حقق نتائج مدهشة في بيت لحم لدرجة أن القائدين الفلسطيني والإسرائيلي تبادلا ثقة أدت إلى رفع حظر التجول في المدينة رغم أنه مطبق في الضفة كلها منذ عام 2002. كما أنها سمحت للفلسطينيين بإدارة نقاط التفتيش الخاصة بهم لوقف عمليات التهريب.
"عملية إنتاج الفلسطيني الجديد منزوع العداء لإسرائيل اعتمدت لها الولايات المتحدة 161 مليون دولار ويديرها الجنرال دايتون حقا، ولكن بمساعدة فريق أمني من كندا والمملكة المتحدة وتركيا. أما معسكرات تأهيل أولئك الضباط والجنود فتتم في الأردن. وهذا الفريق الأمني على صلة يومية مع فريق من رجال الشرطة الأوروبيين الذين يساعدونهم في تنفيذ مخططهم.
في ختام محاضرته قال دايتون إن الإسرائيليين مهتمون للغاية بعملية إعادة تأهيل الأجهزة الأمنية، معتبرين أن نجاح جهود إنتاج الفلسطيني الجديد هو الضمان الحقيقي لاستقرار السلام في المنطقة.
(3)
إذا أضفنا إلى ما سبق تغيير أسماء المدن إلى العبرية، والضغوط التي تمارسها إسرائيل لمحو تاريخ النكبة والنضال الفلسطيني من مناهج التعليم في الضفة، بما يؤدى إلى محو الذاكرة الفلسطينية، فإننا نكون بإزاء "سيناريو" إحلالي يطبق في فلسطين ما سبق تطبيقه مع الهنود الحمر منذ ثلاثة قرون تقريبا.
ذلك أن ما يجري الآن هو صورة طبق الأصل لما فعله المهاجرون البروتستانت الإنجليز حين وفدوا إلى بلادهم التي عرفت فيما بعد باسم الولايات المتحدة الأميركية. وهى التجربة المثيرة التي وثقها بمختلف فصولها المروعة الباحث سوري الأصل منير العكش المقيم في الولايات المتحدة وهو مؤسس مجلة "جسور" التي تصدر بالإنجليزية. وأستاذ الإنسانيات بجامعة "سفك" في بوسطن. وقد صدر له في الموضوع كتابان. (عن دار رياض الريس ببيروت) أحدهما سنة 2002 عن الإبادة الجسدية الجماعية للهنود، كان عنوانه: حق التضحية بالآخر-أميركا والإبادات الجماعية. أما الكتاب الثاني الذي عالج الجانب الذي نتحدث عنه فقد صدر في شهر يوليو/تموز من العام الحالي. تحت عنوان "أميركا والإبادات الثقافية".
الكتاب الأول تحدث عن استئصال الهنود، والثاني تحدث عن طمس هوية من بقي منهم على قيد الحياة، بحيث لا يصبح الهندي هنديا حقيقيا، وإنما يغدو "مخصيا" ثقافيا، ومن ثم إنسانا جديدا مقتلعا من جذوره ومنتميا إلى غير أهله.
من النقاط المهمة التي أثارها الباحث أن الإنجليز البروتستانت حين نزحوا منذ بدايات القرن السابع عشر إلى ذلك العالم الجديد الذي أطلقوا عليه اسم إسرائيل، فإنهم اعتبروا أنفسهم "يهود الروح" (العبرية كانت لغة المتعلمين منهم والعهد القديم اعتبر مرجعهم ومرشدهم). وقد تمثلوا في هجرتهم الخروج الأسطوري للعبرانيين من أرض مصر إلى أرض كنعان في فلسطين. وبدورهم اقتنعوا بأنهم "شعب الله المختار"، وأن مشيئة الله تجسدت في أرض كنعان الجديدة، كما جسدت فكرة إسرائيل مشيئة الله في أرض كنعان القديمة (فلسطين).
الإسرائيليون "العبرانيون" في هذا الزمان استلهموا تجربة المهاجرين الإنجليز بجميع مراحلها، من الاستيطان إلى الاحتلال واستبدال شعب بشعب وصولا إلى استبدال ثقافة بثقافة, وكما تم إنتاج الهندي الجديد تجرى محاولة إنتاج الفلسطيني الجديد
"ولأنهم "الشعب المختار" فقد انطلقوا من أن معاملة السكان الأصليين في البلاد التي هاجروا إليها لا تخضع للقوانين الأخلاقية أو المبادئ العقلية، ومن ثم أسقطوا عليهم فكرة كراهية العبرانيين للكنعانيين، التي سوغت للأولين ممارسة القتل والاغتصاب والاستعباد بدعوى تنفيذ المشيئة الإلهية التي فوضتهم في ذلك حين أمرت بذبح الفلسطينيين الكنعانيين.
المشهد لا يخلو من مفارقة، لأن المهاجرين الإنجليز حين فعلوا ما فعلوه بحق الهنود الحمر، فأبادوهم واغتصبوا أرضهم فإنهم استلهموا تجربة خروج العبرانيين من مصر إلى أرض الكنعانيين في فلسطين. ثم دارت دورة الزمن ووجدنا أن الإسرائيليين "العبرانيين" في هذا الزمان استلهموا تجربة المهاجرين الإنجليز بجميع مراحلها، من الاستيطان إلى الاحتلال واستبدال شعب بشعب وصولا إلى استبدال ثقافة بثقافة. وفي هذا الشق الأخير فإن فكرة أولئك المهاجرين في إنتاج الهندي الجديد. جرى استلهامها في محاولة إنتاج الفلسطيني الجديد. إذ ظل الهدف واحدا، رغم اختلاف التفاصيل والأساليب.
(4)
تحدث المؤلف عن أنه فرح حين وجد بين طلابه في الفصل الدراسي الجديد فتاة من أصول هندية اسمها سنج سوك، لكنه دهش حين دعاها باسمها مرة ومرتين ولم تجب. وبعد انتهاء المحاضرة جاءته بوجه شاحب وشفاه مرتعشة، ورجته أن يناديها باسم جنيفر، قائلة إنها لا تحب أن يناديها أحد باسمها الأصلي. واعتبر أن ذلك الخوف من الذات، الذي يستبطن كراهية للذات في الوقت نفسه، هو من ثمار عملية إنتاج الهندي الجديد، الذي أريد له أن يخجل من هنديته في نهاية المطاف ويشعر بالعار حين يستعيد أيا من بقاياها.
عقب منير العكش على هذه الواقعة بقوله إن هناك شعوبا هندية كثيرة لم تفقد أسماءها الحقيقية وحسب، بل صارت لا تعرف سوى الاسم الذي فرضه عليها غزاتها. واستطرد قائلا: إنه في سياق هذا الاقتلاع والإخضاع والتعرية الثقافية، التي اعتبرها "المحرقة الأخيرة للوجود الهندي" مسخت فكرة أميركا جسد ضحيتها الهندي وثقافته إلى مادة ملوثة للإنسان والطبيعة لا بد من تطهيرها. وكانت برامج التعليم على رأس الوسائل التي استخدمت لكي.. "نزرع في الطفل الهندي ذاكرة الغزاة ولغتهم ومزاجهم وأخلاقهم ودينهم.. بحيث يتدرب ذلك الطفل الشقي على الاشمئزاز من نفسه ومن كل ما حوله، ويشحن بالخوف من هنديته، والنظر إلى نفسه وإلى العالم بعيون جلاديه".
في فصول الكتاب سجل المؤلف شهادات ومقولات منظر الإبادة الثقافية التي تمت في ذلك الحين، واختزلت في عبارات مثل: "اللغة والدين هما خط الدفاع الأخير للهنود ولا بد من القضاء عليهما" (الكابتن براد مؤسس مدارس الهنود 1840-1924) "إن الهنود قد يتعافون من مجزرة أو شبه مجزرة، لكنك حين تعلم الهندي وتغسله فإنك ستقضي عليه حتما، عاجلا أم آجلا.. اقصف كل هندي بالتعليم والصابون ودعه يموت" (مارك توين 1867) "علينا أن نربي طبقة تترجم ما نريد للملايين الذين نحكمهم. طبقة من هنود الدم والبشرة، لكنهم إنجليزيّو الذوق والأفكار والتوجه والأخلاق والعقل" (توماس مكولاي مؤسس السياسة التربوية في أوساط الهنود 1800-1859).
من المفارقات أن عملية إنتاج الهندي الجديد كانت من مهام مكتب الشؤون الهندية الذي يعد بلغتنا الحديثة "السلطة الوطنية الهندية" وهؤلاء اتبعوا أساليب بعضها تم استنساخه في فلسطين
من المفارقات أن عملية إنتاج الهندي الجديد كانت من مهام مكتب الشؤون الهندية الذي تأسس في سنة 1806، وقال المؤلف إنه يعد بلغتنا الحديثة "السلطة الوطنية الهندية" التي قام عليها نفر من الهنود الذين تنكروا لأصولهم، وتسموا بأسماء إنجليزية، وهؤلاء اتبعوا أساليب بعضها تم استنساخه في فلسطين، منها على سبيل المثال، فرض حصار خانق على الجماعات الهندية المماثلة التي تمتنع عن تسليم أطفالها لمدارس التأهيل، وقطع إمدادات التموين عنها لفترة طويلة قبل اقتحامها واعتقال الآباء وخطف الأبناء وقتل الزعماء، استخدام سياسة "السلام" لكي تكون الآلة المثالية لسحق هندية الهنود وخلق جيل جديد من السماسرة الذين يسلمون بالأمر الواقع ويعترفون بشرعيته، إقامة مدن للهنود "المتعاونين" الذين دخلوا في دين الغزاة، واعتبروا المجتمع الهندي الوحيد الذي تم الاعتراف بشرعيته، وجرى تمثيله بقيادات تم اختيارها "ديمقراطيا"(!).
لا يحتمل الحيز المتاح مزيدا من التفصيل في المعلومات والشهادات المثيرة التي حفل بها الكتاب، لكن الأكثر إثارة فيه أنك حين تطالع فصوله لا بد أن تستحضر الحاضر، حتى يخيل إليك أنك تقرأ رصدا لما يحدث في فلسطين هذه الأيام.
|