New Page 1
تقاسم وظيفي وطني وإستراتيجية وطنية جديدة
20/12/2009 20:14:00
ليست هذه دعوة لتكريس الانقسام بل لتجنب مزبد من الانزلاق نحو الهاوية.اليوم،لم تعد المراجعة التي تؤسِس لمشروع وطني جديد وإستراتيجية جديدة خيارا من عدة خيارات بل ضرورة وطنية.إن لم تأخذ قوى من داخل النظام السياسي الفلسطيني أو من داخل الحالة السياسية الفلسطينية بشكل عام المبادرة فهناك قوى وأطراف خارجية ستأخذها.منطقة الشرق الأوسط، و القضية الفلسطينية خصوصا، لا تسمح بوجود فراغ سياسي.تاريخيا كانت أطراف عربية وإقليمية تملأ فراغ غياب أو ضعف الفاعل السياسي الفلسطيني،كما جري قبل ظهور حركة المقاومة الفلسطينية منتصف الخمسينات، فمنظمة التحرير في بداية ظهورها تأسست بقرار قمة عربي،وإن غاب القرار الوطني الفلسطيني المستقل اليوم فقد تأخذ قوى إسلامية مبادرة ملئ الفراغ.هذا ناهيك أن مشاريع التوطين والوصاية والتدويل تخيم على أجواء الحالة الفلسطينية المأزومة اليوم. سياسة الترقيع والتلفيق والهروب إلى الأمام والتخفي وراء الأيديولوجيات والشعارات الكبيرة الفارغة لم تعد تجدي اليوم،الحقوق الوطنية المسلوبة لن تعيدها واشنطن ولا الرباعية، ولا جيوش المسلمين والعرب.نعم الشرعية الدولية ضرورية والتضامن العالمي مهم والأيديولوجيات مفيدة كأدوات للتعبئة والتحريض،إلا أن كل هذه الأمور لا تنب عن فعل الشعب صاحب القضية،لا تنب عن المشروع الوطني والهوية الوطنية،كل الأيديولوجيات والتحالفات وأشكال التضامن الخارجية أمور مساعدة لن تكون لها قيمة إن تخلى الشعب صاحب الحق عن حقه أو تقاعس بالمطالبة به أو شعر العالم أن صاحب الحق غير جدير بالحق الذي يطالب به. استمرار أطراف فلسطينية وعربية وإسلامية بالزعم بأنها لم تتخل عن الثوابت الوطنية والقومية والإسلامية بات حديثا ممجوجا وفاقد المعنى ما دامت الأرض مناط وموئل هذه الثوابت تضيع وتتسرب من بين أيدينا يوما بعد يوم نتيجة الاستيطان،واستمرار هذه الأطراف بالحديث عن مصالحة تعيد الأمور إلى ما كانت عليه لم يعد يُقنع الشعب،ولا داع لأن تستمر حركتا فتح وحماس ومعسكرا الممانعة والاعتدال بتحميل كل منهما الآخر مسؤولية إفشال المصالحة الفلسطينية والتباكي على مصير الشعب.كل الأطراف تدرك أن المصالحة المطروحة للتداول ليست هي المصالحة المنشودة وأن ما حاق بالمشروع الوطني من دمار هو نتاج سلوكهم و عجزهم.
المراجعة الشمولية المؤسِسة لمشروع وطني جديد أو المصحِحة لمسار المشروع الوطني كفكرة حاضرة ومبهمة عند الجمهور،يجب أن تتجاوز إفرازات المشكلة وتتعامل مع أصولها ومسبباتها الحقيقية.التوافق على الانتخابات ليس حلا لأزمة النظام السياسي ،كما المحاصصة وتنظيم الأجهزة الأمنية ليس حلا ،حتى تشكيل حكومة ليس هو الحل.ما سبق هي حلول للسجين لتحسين شروط العيش في السجن وليس لكسر جدران السجن،وإن بقيت مكونات النظام السياسي تتعامل مع الأزمة وكأنها أزمة خلاف بين فتح وحماس وبالتالي تتعامل مع المصالحة على قاعدة حل إشكالات الانتخابات والحكومة والأجهزة الأمنية والمحاصصة الوظيفية الحكومية ...فستبقى المعالجات في إطار التسوية واتفاقات أوسلو حتى وإن صرحت غير ذلك.
المطلوب مشروع وطني جديد، ليس مشروع سلطة وحكومة بل مشروع حركة تحرر وطني يجمع ما بين مشروع سلام فلسطيني من جانب،والحق بالمقاومة من جانب آخر ،مشروع يضع حدا للفصل التعسفي الذي ساد في الساحة الفلسطينية ما بين السلام والمقاومة وهو ما أدى لأن تصبح المقاومة عبثية والتسوية عبثية، المشروع الوطني التحرري المطلوب مشروع يوفق ما بين الأبعاد الوطنية والقومية والإسلامية والدولية للقضية الفلسطينية ،إنه المشروع البديل لنهج التدمير الذاتي الذي تمارسه الفصائل بحق قضيتنا وشعبنا بوعي منها أو بدون وعي.هذا المشروع حتى يكون وطنيا بالفعل يجب أن يكون مشروع الكل الفلسطيني في الداخل والخار، مشروع كل الأحزاب والحركات،مشروع يستوعب كل الأيديولوجيات.
المراجعة الإستراتيجية المؤسِسة لمشروع وطني جديد يجب أن تشتغل على مستويين و هدفين أحدهم عاجل وقصير المدى والآخر استراتيجي بعيد المدى مع تزامن العمل على المستويين:-
الهدف/المستوى الأول: عاجل ومرحلي (تقاسم وظيفي وطني)
لأننا لا نستطيع أن نتجاهل وجود القوى السياسية القائمة وخصوصا حركتي فتح وحماس، ولا نستطيع تجاهل وجود سلطة وحكومتين متعاديتين، لذا يجب العمل على مصالحة أو تهدئة فلسطينية داخلية، مصالحة مؤقتة تضع حدا لحالة الانحدار بين كياني غزة والضفة.إنجاز هذا الهدف المرحلي والعاجل سيتعامل مؤقتا مع واقع فصل غزة عن الضفة وواقع وجود حكومتين وسلطتين،ليست هذه دعوة لتكريس الفصل بل التعامل معه مؤقتا للانتقال لمرحلة جديدة،وخصوصا أن شروط إنهاء الانقسام الاستراتيجي لم تعد خاضعة لقرار فلسطيني وهي غير متوفرة الآن، والقرارات الأخيرة للمجلس المركزي لمنظمة التحرير بشأن التمديد للرئيس وللمجلس التشريعي هي اعتراف بالانقسام بل وشرعنته.فحتى لو قررت حركتا فتح وحماس التصالح من خلال الورقة المصرية فلن يعود التواصل بين الضفة وغزة في إطار حكومة وسلطة واحدة بدون موافقة إسرائيل أو بدون تسوية سياسية تشارك فيها إسرائيل.إذن بدلا من استمرار الحالة العدائية بين غزة والضفة يجب عمل مصالحة ضمن واقع الانقسام لحين تغير الأحوال.هذه المرحلة من المصالحة تحتاج لاعتراف كل طرف بأن الطرف الآخر شريك في النظام السياسي وله حق تقرير مصير هذا النظام ورسم خارطة المشروع الوطني الجديد ،وتحتاج لوقف حملات التحريض والتخوين والتكفير ،وتحتاج لوضع حد للاعتقالات المتبادلة،ونعتقد أن الثقافة والإعلام من أهم آليات تجاوز هذه المرحلة من خلال العمل على رد الاعتبار للثقافة والهوية الوطنية وتفعيل كل رموزهما . ونلفت الانتباه هنا أن ورقة المصالحة المصرية تقوم على أساس مصالحة مؤقتة في ظل استمرار الانقسام ، وعندما أقترح المصريون تأجيل الانتخابات ليونيو 2010 ليس لأن هناك قضايا خلافية لم تحسم بل انتظارا لتسوية سياسية في إطارها تكون عملية المصالحة.
حيث أن عقبات متعددة تحوُّل دون إلغاء السلطة سواء في الضفة الغربية أو في غزة ،وحيث أن إسرائيل تهدد السلطة و الحكومة في الضفة وتعيق إنجاز المشروع الفلسطيني للسلام ،وتهدد السلطة والحكومة في غزة من خلال استمرار الحصار ،فيمكن للمصالحة في هذه المرحلة أن تأخذ شكل توافق وطني في الضفة ، توافق بين كل القوى السياسية والشعبية بما فيها حركة حماس والجهاد الإسلامي في ظل الحكومة القائمة هناك،هدف هذا التوافق أو المصالحة الجزئية هو مواجهة سياسة الاستيطان والتهويد في الضفة والقدس.في المقابل يجري توافق في قطاع غزة تشارك فيه جميع القوى بما فيها حركة فتح وفصائل منظمة التحرير، لرفع الحصار عن القطاع في ظل حكومة حركة حماس.هذه المصالحة الوطنية المؤقتة والتي ستأخذ طابع التقاسم الوطني الوظيفي تشكل المدخل للمرحلة الثانية للإستراتيجية الجديدة أو المصالحة الوطنية الإستراتيجية،فهي ليست بديلا لها بل مدخلا واختبار نوايا.
لا شك أن هناك مزالق وتخوفات من التعامل مع هذا المفهوم للمصالحة أو التقاسم الوظيفي المؤقت،حيث الخشية بأن يستغل بعض المستفيدين من حالة الفصل أي نجاح في المصالحة الأولى لتبرير حالة الفصل أو أن تستغل كلا الحكومتين التوافق الداخلي لإضفاء شرعية دائمة على وجودها يدفعها للتقاعس عن إنجاز المصالحة الوطنية الإستراتيجية،لتحاشي وقوع ذلك يجب العمل في آن واحد على المرحلة الثانية للإستراتيجية الوطنية،وهناك علاقة تفاعلية أو تأثير متبادل بين المصالحتين ،بمعنى أن أي تقدم في أي مصالحة سيؤثر إيجابا على إنجاز المصالحة الأخرى والعكس صحيح.
الهدف /المستوى الثاني: إستراتيجي ( التوافق والتراضي على ثوابت ومرجعيات القضية الوطنية).
الاشتغال على المرحلة أو المهمة الأولى للإستراتيجية الوطنية يجب أن يكون مواكبا للاشتغال على المرحلة الثانية بل يجب أن يكون الالتزام بإنجاز الهدف الأول (التقاسم الوظيفي الوطني)مشروطا بالالتزام بالهدف الاستراتيجي الاتفاق على الثوابت والمرجعيات ،حيث يستحيل التقدم نحو الهدف الاستراتيجي دون إنهاء الانقسام.وعندما نقول تساوق الاشتغال على المستويين فذلك لأننا نحشى من أن واقع فصل غزة عن الضفة قد يستغرق وقتا، لأن إسرائيل والقوى المستفيدة من حالة الفصل ما زالت قوية وفاعلة،وهي تريده انقساما نهائيا ينهي المشروع الوطني الفلسطيني.هذا التساوق لمساري المصالحة هو ضمان عدم تحول التقاسم الوظيفي الوطني المشار إليه إلى كيانين سياسيين دائمي الوجود.لهذه المصالحة الإستراتيجية مدخل أيضا وهو تفعيل وتطوير منظمة التحرير كمرجعية ناظمة للجميع، وفي هذا السياق يمكن الاستعانة بما ورد بورقة المصالحة المصرية حول تشكيل لجنة مشتركة عليا لضمان أن يستمر كيانا غزة والضفة ضمن مشروع وطني واحد . إذا كانت المصالحة الأولى ،أي المصالحة العاجلة في ظل الانقسام القائم تتعامل مع الانقسام الأخير الذي نتج عن أحداث يونيو 2007 ،فإن المصالحة الإستراتيجية يجب أن تتعامل مع الانقسام الإستراتيجي السابق على تلك الأحداث والسابق لسيطرة حركة حماس على القطاع ، هذه السيطرة وما سبقها وما لحقها من توترات وإصطدامات مسلحة هي نتيجة لخلاف استراتيجي وطني وإقليمي حول تشخيص طبيعة الصراع مع إسرائيل وهدفه النهائي.
الإستراتيجية الجديدة ستكون مضطرة لإعادة طرح تساؤلات تم طرحها قبل أربعة عقود ولم يتم الحسم فيها،ولأنها لم تحسم فقد عادت مجددا وبشكل أكثر تعقيدا .منذ أن وجِدت قضية سياسية تُسمى القضية الفلسطينية، وهي محل تنازع بين الأبعاد الوطنية والقومية والإسلامية والدولية ،وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية لم ينه حضور هذه الأبعاد وإن كان غيَّر في الأولويات.فهل نحن نقاتل إسرائيل لأنها عدو ديني تاريخي وبالتالي يجب اجتثاثها من الوجود،وفي هذه الحالة فالصراع يتجاوزنا كفلسطينيين ليشمل كل الأمة الإسلامية؟أم نقاتلها كفلسطينيين لأنها ترفض حقنا بدولة مستقلة سواء كانت هذه الدولة حسب قرار التقسيم 194 لعام 1947 أو دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة ؟.غياب الرؤية الواضحة للهدف عند أصحاب الحق ينتج حالة من الإرباك حول تحديد وسائل تحقيق الهدف وحول معسكر الحلفاء ومعسكر الأعداء وحول مفهوم استقلالية القرار الوطني وجدواه،وهي أمور تجر أصحاب الحق إلى صراعات وحروب داخلية.غموض وعدم الاتفاق على الأنا في أي صراع يؤدي تلقائيا لغموض وتعميم مفهوم الآخر ،الأمر الذي يربك الحالة السياسية وهو ما تعاني منه القضية الفلسطينية.هذا الغموض حول الأنا والآخر هو الذي مكن إسرائيل من تحشيد الصهيونية العالمية واليمين المسيحي ودول أخرى في مواجهة النضال الفلسطيني ،وهو ما مكن تل أبيب وواشنطن من إدراج نضال الشعب الفلسطيني ضمن الإرهاب الدولي.
من المفهوم في السياسة ،التعامل مع أهداف مرحلية وأهداف إستراتيجية ،ومن المفهوم أيضا تعدد أساليب العمل لتحقيق الهدف، إلا أنه في جميع الحالات يجب على المرحلي أن يكون في خدمة الإستراتيجي،كما أن تعدد أساليب النضال يكون ضمن نفس الهدف وفي إطار إستراتيجية وطنية واحدة وموحدة وليس لكل حزب هدف استراتيجي ووسائل خاصة به لتحقيق هذا الهدف.في الحالة الفلسطينية الأنا مبهم – وطني أم قومي أم إسلامي – ولا يوجد اتفاق على الآخر –إسرائيل أو اليهودية العالمية أو الصهيونية أو المسيحية أو أهل الكفر- والوسائل متعددة ومتعارضة –كفاح مسلح وجهاد؟ أم انتفاضة شعبية؟ أم مفاوضات وحل سلمي؟_هذا الأمر يخلق حالة إرباك في تحديد معسكر الأصدقاء ومعسكر الأعداء، أيضا فإن عدم التحديد يجعل العالم لا يعرف ما الذي يريده الفلسطينيون بالضبط وما هي مرجعيتهم السياسية،أو على الأقل يستغلون هذا التشتت والغموض في الموقف الفلسطيني والعربي ليتهربوا من التزاماتهم الدولية تجاه الشعب الفلسطيني أو يتجنبوا التصادم مع إسرائيل وواشنطن .
خلال ستين عاما طرح الفلسطينيون حوالي سبعة تصورات للهدف الذي يسعون إليه أو للدولة المنشودة.فبعد أن رفض العرب والفلسطينيون قرار التقسيم لعام 1947 وهو القرار الذي كان يعطيهم الحق في دولة،دخلوا في تيه سياسي حتى بداية ظهور منظمة التحرير ،خلال سنوات التيه طالبت حركة فتح وقبل أن تعلن عن نفسها رسميا عام 1965،بمشروع كيان وطني على الأراضي الفلسطينية التي بيد العرب –غزة والضفة- وذلك من خلال مجلة فلسطيننا،كان ذلك عام 1959،ولكن العرب رفضوا أو تجاهلوا هذا المطلب بل توجسوا منه حتى انه عندما قرر العرب تأسيس منظمة التحرير كان من ضمن الشروط أن لا تسعى المنظمة لسيادة على الضفة وغزة،مع منظمة التحرير أصبح الهدف تحرير كل فلسطين وإنهاء الوجود الصهيوني اليهودي كما نص على ذلك الميثاق القومي ثم الوطني،وفي عام 1971 تم تبني هدف الدولة الديمقراطية العلمانية على كامل فلسطين الذي جوبه بمعارضة قوية ليس فقط من إسرائيل بل أيضا من قوى وفصائل فلسطينية وعربية،أما في عام 1974 وعلى إثر حرب أكتوبر تم تبني البرنامج المرحلي والسلطة المقاتلة،وفي عام 1988 تم تبني إعلان الاستقلال أو دولة الضفة وغزة،كان إعلان الاستقلال مدخلا للتسوية حيث جاء مؤتمر مدريد ثم اتفاق أوسلو التي سجن القضية الوطنية في إطار سلطة الحكم الذاتي في الضفة وغزة بدلا من دولة الضفة وغزة،مع وصول التسوية لطرق مسدود عاد الحديث عند البعض عن الدولة الواحدة ثنائية القومية ،بالإضافة للتخوفات من أن تكون الدولة القادم دولة أو إمارة غزة فقط .والمفارقة أن الكيان السياسي الأول –منظمة التحرير الفلسطينية- انبثق بقرار رسمي عربي ،ومصادر تهديده وتجاوزه اليوم يأتي من قرار إسلاموي حيث لا تخفي حركة حماس أنها امتداد لجماعة الإخوان المسلمين وأن لها مشروعها الإسلامي المختلف –لا نريد أن نقول متعارض_عن المشروع الوطني.
إذن، كيف يمكن تأسيس إستراتيجية عمل وطني في ظل هذا الغموض والإرباك حول الهدف والوسائل ؟ ثوابت الأمة وحقوقها الوطنية ليست حقل تجارب للإيديولوجيات عابرة الوطنيات،ولا تخضع لموازين القوى الإقليمية والدولية .عندما لا يعرف الشعب ثوابته ومرجعياته و لا تتوافق قواه السياسية على تعريف لها، فهذا يشكك في عدالة قضيته الوطنية. ما كان لأصحاب الإيديولوجيات القومية والإسلامية أن يتراموا على قضيتنا وينصِّبوا أنفسهم أوصياء لولا ضعف الحالة الوطنية وتفشي الخلافات الداخلية.التدخلات ،سواء باسم العروبة أو باسم الإسلام ،فيه امتهان لكرامتنا الوطنية وتشكيك بحقنا بدولة،فلماذا يجوز للمصريين والسوريين والإيرانيين أن يكون لهم دول وطنية خاصة بهم فيما يُحرَم علينا إقامة دولة فلسطينية خاصة بنا ؟ الدولة الوطنية الفلسطينية لا تعني القطع مع الأبعاد القومية أو الإسلامية للقضية. عندما يكون للعرب والفكر القومي وللمسلمين والحركة الإسلامية عنوان واحد متفق عليه، فسنكون أول من يسير من ورائه ونسلمه مقاليد أمورنا،ولكن لن نتخلى عن هويتنا وثقافتنا الوطنية ولا عن حلمنا بدولة وكيان وطني يحفظ لنا كرامتنا وإنسانيتنا لصالح الآخرين،وطن يعيش فيه أبناؤنا مرفوعين الرأس بلا احتلال صهيوني ولا وصاية عربية ولن نستمر معلقين بحبال وهم مدعو القومية والإسلاموية ليوظفونا كما يوظفوا شعارات القومية والإسلام لخدمة مشاريعهم الوطنية أو الإقليمية أو الحزبية إن لم يكن الشخصية.هذا الكيان الوطني الفلسطيني ضرورة لأي مشروع قومي وحدوي عربي صادق أو مشروع وحدوي إسلامي صادق،مشروعنا الوطني رأس حربة لوقف توسع الكيان الإسرائيلي ببعديه الصهيوني واليهودي ،فمن لا يقف إلى جانب المشروع الوطني التحرري الفلسطيني ،لا يمكنه أن يكون قوميا عربيا وحدويا ولا إسلاميا حقيقيا،كما أن المشروع الوطني الفلسطيني لن يكتب له النجاح بدون بعديه :العربي والإسلامي .هذا الهدف/المشروع الوطني يتطلب إخضاع كل الأيديولوجيات له بحيث تصبح إحدى مكوناته لا أن يُلحق المشروع الوطني بمشاريع قومية وإسلاموية مأزومة.
هذا الهدف الوطني يجب أن يكون محل توافق وطني ويتجنب التصادم مع الشرعية الدولية التي تعترف للشعب الفلسطيني بالحق في تقرير المصير السياسي على أرضه وبحقه في دولة خاصة به.الدولة هدف مشروع ولكنها ليست المشروع الوطني،فهذا سابق في وجوده على هدف الدولة وهو سيستمر ما استمر الاحتلال ويجب ألا يخضع للتجاذبات والمناورات حول مفهوم حل الدولتين .ولكن وحيث أنه يوجد توجه دولي لحسم الصراع في المنطقة على أساس حل الدولتين، فيجب أن نتوحد على مفهوم الدولة التي نريد،سواء كانت حسب قرار التقسيم أو دولة في الضفة وغزة ،حتى إن كانت دولة على كامل فلسطين التاريخية فالمهم هو توافق وطني على هدف يناضل كل الفلسطينيين من اجله تحت قيادة وحدة وطنية،آخذين بعين الاعتبار عدم جدية إسرائيل في التعامل مع حل الدولتين وعدم قدرة المنتظم الدولي الآن على إجبار إسرائيل على الانسحاب من كل الأراضي المحتلة عام 1967 بما فيها القدس وعودة اللاجئين الفلسطينيين.هذا يعني أن الدولة هي احد المعارك التي على المشروع الوطني التحرري خوضها، وقد يضطر أيضا لخوض معارك ضد التوطين والتدويل والوصاية.
إعادة بناء وتأسيس المشروع الوطني كمشروع حركة تحرر وطني يعني التعامل مع شعب قوامه أكثر من عشرة ملايين فلسطيني في الداخل وفي الشتات،يتطلب تفعيل دور نصف الشعب الفلسطيني الذي رُكن على الرف منذ توقيع اتفاقات أوسلو دون تجاهل الأوضاع في غزة والضفة،الأمر الذي يتطلب أن يضع هذا المشروع على سلم اهتماماته رفع الحصار عن قطاع غزة ومواجهة الاستيطان والتهويد في الضفة والقدس.مدخل هذا المشروع ليس بالضرورة الانتخابات التشريعية والرئاسية وليس التوافق على حكومة وحدة وطنية، بل إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية لتستوعب الكل الفلسطيني،لو تمكنا من بناء منظمة التحرير على أسس جديدة وبقيادة جديدة فسيكون حل بقية القضايا أيسر كثيرا،لن تنجح أية مصالحة أو شراكة سياسية أو مشروع وطني إن بقي أي فصيل فلسطيني خارج إطار منظمة التحرير الفلسطينية،لأن منظمة التحرير ليست حزبا أو فصيلا بل الكيانية السياسية التي يعترف بها العالم اجمع. هذا المشروع الوطني الجديد يجب أن يُعيد الاعتبار للأبعاد القومية والإسلامية والدولية للقضية الفلسطينية على أسس جديدة لا تجعل المشروع الوطني ومجمل القضية ملحقة بهذا البعد أو ذلك.
إن لم نتدارك الأمر بالمصالحة الإستراتيجية، فسيسير النظام السياسي نحو مزيد من التفكك.حركة فتح لن تبقى موحدة وكان المؤتمر السادس بداية التصدع فبعد المؤتمر فقدت حركة فتح كينونتها كحركة تحرر وطني،وحركة حماس ستشهد مزيدا من الانحسار كلما توغلت في السلطة والحكم واستمرت ملتزمة بالتهدئة،وقد تشهد انقسامات داخلية وخصوصا بين تيار وطني وتيار أممي مرتبط بجماعة الإخوان المسلمين وتيار سينحى نحو التطرف .بطبيعة الحال لن يكون مصير بقية القوى السياسية بالأفضل،وقد نشهد ظهور العديد من التيارات أو الأحزاب بمسميات المستقلين أو أية مسميات أخرى يقودها رجال أعمال ورجال دين ،إلا أن هذه القوى لن تشكل استنهاضا للحالة الوطنية بل ستزيد من التيه ومن فرص تدخل أطراف خارجية. التخوفات الأكثر مأساوية هي، فقدان ما تبقى من الضفة، وقد نشهد قريبا حربا أهلية في قطاع غزة. إسرائيل لن تُمكِن الفلسطينيين من دولة ذات سيادة في الضفة الغربية،وحتى تبعد الأنظار عما يجري في الضفة وحتى تلهي الفلسطينيين وتُرضي أصدقاءها ممَن لهم تطلعات سلطوية غير قادرين –أو غير مسموح لهم-على تحقيقها في الضفة ،فستخلق المناخ المناسب لفتنة وحرب أهلية في القطاع ،كما سبق وهيأت المناخ لـ (الانقلاب) الذي أقدمت عليه حركة حماس في يونيو 2007.حرب أهلية حول مَن يحكم قطاع غزة:حركة فتح أم حركة حماس؟ وقد تشارك جماعات أخرى في هذه الحرب، كما سيكون للعملاء دور مهم في هذه الفتنة.سكوت إسرائيل عن حكم حماس في الضفة ليس قبولا نهائيا أو موقفا استراتيجيا وليس عجزا،بل لهدف تكتيكي،وعندما تشعر إسرائيل بأنها حققت هدفها من الانقسام فستنقل المعركة لقطاع غزة،وهناك قيادات فلسطينية ،من خارج حركة حماس، كانت وما تزال تراودها شهوة حكم غزة .
خاتمة
ما طرحنا أعلاه، دعوة أو تحريض على التفكير الاستراتيجي ،فنحن ندرك أن الأمور أكبر وأكثر تعقيدا من قدرتنا أو قدرة أي كاتب على إنجاز مشروع بهذا الحجم .ما يجعلنا متفائلين بإمكانية تجاوز المرحلة الصعبة هو ثقتنا بشعبنا وعدالة قضيتنا ولأن العمل على هذه الإستراتيجية الجديدة لن يكون من نقطة الصفر فهناك حضور بتاريخ متجذر للشعب الفلسطيني على أرض فلسطين ،وتاريخ نضالي فرض على العالم أن يعترف للفلسطينيين بالحق في دولة مستقلة ،أيضا هناك حقيقة أنه بالرغم من كل أشكال الفشل والمؤامرات التي تعرضت لها الأحزاب والقيادات السياسية إلا أنها لم تتخل عن الحقوق المشروع للشعب ،نعم فشلت في تحقيقها ولكنها لم تفرط بها.
نعلم أنها مهمة صعبة وشاقة ، ولكن مصير الشعوب لا يرتهن بمصير نخب سياسية أو بموازين قوى آنية أو بإرتكاسات عابرة ،بل بإرادة الصمود والبقاء عند الشعب ، فلنعتبر أن ما جرى انتكاسة وفشل لمشروع وطني لم تأت الرياح بما تمكنه من الإقلاع،وحيث أن (لكل جواد كبوة )فيمكن للشعب وقواه الحية أن يتجاوزوا ويتغلبوا على المحنة ،فتاريخ صراعنا مع المخطط الصهيوني لم يبدأ اليوم ،ومن الواضح انه صراع مفتوح على المستقبل .فشل السلطة وفشل الحكومتين في غزة والضفة وفشل كل القوى السياسية لا يعني نهاية القضية الوطنية الفلسطينية، بهم أو بدونهم سيستمر الشعب الفلسطيني في خوض معركته الوطنية، بهم أو بدونهم سيكون هناك مشروع تحرر وطني فلسطيني.إن صدقت النوايا يمكن أن تبدأ هذه الإستراتيجية بلقاء موسع للقوى السياسية الفلسطينية ولشخصيات وطنية من المستقلين والمفكرين ،ولأن القضية لها الأبعاد المشار إليها يمكن أن يشارك في بدايات هذا اللقاء مثقفون ومفكرون عرب ومسلمون مشهود لهم بدعم القضية الفلسطينية بدون تحيز لأي محور أو ايديلوجية خارجية،ويمكن أيضا مشاركة ممثلون عن جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي.
17/12/2009
|