New Page 1
حافة سقف الحضارة الغربية الفاوستية / نصر شمالي
31/01/2010 13:30:00
في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين أنجز الفيلسوف الألماني أوسوالد شبينغلر كتابه (إفلاس الحضارة الأوروبية الغربية الفاوستية) الذي تضمّن تنبّؤاته العلمية بصدد انهيار الحضارة الغربية. إنّها الحضارة الفاوستية (نسبة إلى يوهان فاوست 1480- 1540) التي باعت روحها للشيطان مقابل المكاسب المادية والنعيم الاستهلاكي، على طريقة فاوست وحسب توجيهاته.
لقد رأى شبينغلر أنّ الحضارة الغربية حقّقت سيادتها العالمية استناداً إلى قوّتها المادية، بعكس الشرقية وبخاصة العربية الإسلامية، التي استندت في تحقيق سيادتها العالمية إلى قوّتها الروحية والمعنوية. ورأى أنّ مائتي عام، هي القرنين التاسع عشر والعشرين، تشكّل سقف الحضارة الغربية. وتنبّأ أنّ نهاية القرن العشرين سوف تكون حافّة السقف وبداية الانهيار، وها هو اليوم، بعد قرن من صدور كتابه، يبدو مصيباً ودقيقاً في تنبّؤاته بصدد الانهيار إلى درجة كبيرة ومدهشة حقاً.
غير أنّ شبينغلر، وهو ابن الحضارة الغربية في بعدها العنصري خصوصاً، وجد على ما يبدو صعوبة شديدة في الإقرار علمياً أنّ هناك أمماً غير أوروبية مؤهّلة للنهوض بأعباء الحضارة العالمية. إنّ العلوم المادية الحديثة هي من اختصاص العقل الغربي الفاوستي تحديداً وحصراً، وبما أنّ الأمم الشرقية روحانية فإنّها غير مؤهّلة عقلياً لاستيعاب العلوم المادية، وعلى هذا الأساس تنبّأ شبينغلر بأن ما سوف يترتّب على انهيار الحضارة الغربية هو الفراغ والفوضى والحروب، حيث سيواصل الفاوستيون فرض سيادتهم العالمية بقوة السلاح!
بالطبع، إنّ أوضاع العالم اليوم تطعن في صحّة استنتاج شبينغلر بصدد أهليّة الأمم، وبصدد العقل الغربي المبدع ماديّاً والعقل الشرقي غير المبدع، وهو الذي لم يعش ليرى الإبداع العقلي المادي الياباني المتفوّق، ومؤخّراً إبداع الأمم الصينية والهندية والماليزية والإيرانية وغيرها، على اختلاف عقائدها الروحية، فليس ثمّة تناقض بين الروحي والعقلي، بل تناغم منطقي وتكامل ضروري، ولا شكّ في أنّ مصلحة الإنسان تقتضي إعطاء الأولوية للروحي على المادي، مع الحرص على تناغمهما وتكاملهما، وهو ما كان واضحاً في فترات ازدهار العصر العربي الإسلامي الذي أسّس لنهوض العصر الأوروبي الأميركي.
لقد أدّى طغيان البعد الواحد، البعد الروحاني من دون العقلاني، إلى اضمحلال أمم الشرق على مدى مئات السنين، وإلى بلوغها حافة الهلاك بسبب شيوع الدروشة والهذيانات والسخافات والشعوذات. أمّا طغيان البعد الواحد الأخر، العقلاني المادي من دون الروحاني، فقد أدّى إلى اضمحلال كوكب الأرض وما عليه، وإلى وضع الكوكب بمجمله على حافة الكارثة المدمّرة الشاملة، حيث العبقرية الغربية المادية الفاوستية خليطاً من الجنون المرعب والذكاء المبدع، وحيث العقل الرقمي الحسابي المحض لا يأبه لمعاني الحياة وغاياتها، وبالتالي لا يأبه لمادتها ومكوّناتها ومصيرها، فيهلك ويقتل ببرودة ووحشية ملايين البشر، ويبيد كالحرائق بل أكثر آلاف الغابات، ويسمّم ويتلف بلا ضمير وبلا تردّد جميع الأنهار والمياه الجوفية والبحار والمحيطات، وجميع طبقات الجو من أدناها إلى أعلاها.
إنّ الواقع العالمي الحالي لا يؤيّد، كما أشرنا، توقّعات شبينغلر بصدد عدم أهلية الأمم غير الأوروبية، بل هو ينفيها، والدليل هو الأمم الناهضة التي فرضت وجودها في مجموعة الدول العشرين، كاسرة احتكار الدول السبع، أو الثمان أو التسع، غير أنّ المحلّلين الغربيين، ومعهم تلامذتهم في بلادنا، يتمسّكون بتوقعات شبينغلر، ويشكّكون في جدارة الأمم الأخرى ويحذّرون من خطرها الأشدّ، ويتمنّون فشلها، متجاهلين أنها جميعها مستعمرات سابقة، ومتجاهلين خصائصها الثقافية المناقضة والمناهضة للفاوستية!
لقد ارتفعت حصة آسيا في ميدان التصدير التكنولوجي من 7 في المائة عام 1980 إلى 25 في المائة حالياً، بينما انخفضت حصة الولايات المتحدة من 31 في المائة إلى 18 في المائة في الفترة نفسها. إنّ آسيا، بكلّ بساطة، تعيش اليوم ثورة في ميدان العلم والموهبة تنتج ثورة في ميدان التكنولوجيا، كما أورد الأستاذ حسن خليل في مقالته عن "استفاقة التنين" (صحيفة "الأخبار" البيروتية- 1/1/2010). إنّ الولايات المتحدة مدينة للصين بحوالي تريليون دولار. ولسنغافورة أيضاً بحوالي 200 مليار دولار!
غير أنّ الغرب لا يزال قويّاً جدّاً، فهو يستأثر لوحده في ميدان الإنتاج العالمي بنسبة 62 في المائة، علماً أنّ سكانه يشكّلون 14 في المائة من سكان العالم. أي أنّ ما تحقّق على صعيد تبدّل موازين القوى الدولية لا يزال في طور البدايات، وحسب نبؤة شبينغلر التي تحققت عن حافة السقف، ولكي يبلغ التغيير العالمي الإيجابي مداه بعد سنوات وليس بعد عقود، فإنّ ذلك يحتاج حقّاً إلى حضور ونهوض أمة تتألّف من حوالي 330 مليون إنسان يسبّب غيابها شبه التام خللاً خطيراً في الوضع البشري بمجمله!
ns_shamali@yahoo.com
|