New Page 1
حبر وملح - محميات بشرية ... زاهي وهبي
04/02/2010 14:36:00
حبر وملح - محميات بشرية
زاهي وهبي
ماذا يفعل اللاطائفي في هذي البلاد؟
ماذا يفعل اللامذهبي، اللا قبلي، اللا حزبي، اللا فئوي، اللا عصبوي؟
ماذا يفعل اللاغرائزي؟ الذي يريد أن يتبع فكره لا هواه، ويحكّم عقله لا فؤاده.
ببساطة، ماذا يفعل من يريد أن يكون مجرّد مواطن، مجرّد انسان. لا صفة ولا موصوف، لا تابع ولا متبوع.
مضى ردح كنّا نحلم فيه بتغيير العالم.
صبيةً ومراهقين كنّا لا نرضى بأقل من تغيير العالم، يومها لم نكن قادرين حتى على تغيير أسمالنا البالية، ومع ذلك أو ربما لذلك كنّا نريد تغيير العالم. لكن كل ما فعلناه أننا غيرنا أسماءنا، استبدلناها بألقابٍ أكثر رجولة، كأننا كنا نتمنى أن نكبر قبل أعمارنا، وأن نعدو فنسبق سنواتنا. خلعنا مراويل المدارس، اخترنا أسماء تناسب الثورات والحروب والمتاريس...
فجأة حين انتهت الحروب، أو شبّه لنا أنها فعلت، اكتشفنا أن كلّ العالم من حولنا قد تغيّر، إلا نحن.
ضاعت أحلامنا في المتاريس والأزقة، وغرقنا في مستنقعات الطائفية والمذهبية وبقية المفردات المشؤومة في قاموس الراهن المجدب، واستفقنا من كوابيس ما جنت أيدينا وحصرم آبائنا (الأيديولوجيين) لنتحسّر على ما كنّا نشكو منه، ونحنّ الى ما كنّا نود تغييره، حالنا حال المتنبي في بيته الشهير.
هل أصابتنا لوثة الرجعية أو الماضوية لا سمح الله ؟ لا، لكن أي مقارنة بين الآن والأمس لا تتيح لنا القول: ما أشبه اليوم بالبارحة على الأقل. كلّ المدن العربية كانت البارحة أفضل متنها اليوم، كلّ المجتمعات العربية كانت البارحة أنضر منها اليوم، كل الإبداعات، كلّ الأحلام، فما الذي جرى حتى نخرنا سوس الانحلال والشرذمة والتشظي واعترانا الاصفرار.
كلّ خريفٍ يتبعه شتاء ثم ربيع يليه صيف، إلا هذا الخريف العربي، فصل واحد بسنواتٍ كثيرة، اعترانا وعرّانا حتى يكاد لا يبقي علينا ورقة توت واحدة.
لأننا حفاة عراة في برية العالم المعاصر، بانت كلّ عوراتنا دفعة واحدة، فما عاد يسترها توت ولا عنخ آمون، ولا حتى السماء الزرقاء.
لذا ربما لم يجد الحفاة العراة في صقيع العولمة سوى العودة الى جحورهم القطرية والفئوية والعشائرية والطائفية والمذهبية علّهم يجدون فيها ستراً يقيهم حرّ الصيف وقرّ الشتاء، لكن متى كانت الجحور تصنع حياةً؟!
أخرجوا من جحوركم، أخرجوا من كهوفكم، انهضوا من سباتكم الذي طال، حنى بززتم أهل الكهف.
أخرجوا الى شمس الحرية، تنشّقوا نسيم التنوّع، انظروا كيف يُنبت المطر في التربة ألف شكلٍ ولون. ألم يخلقكم قبائل وشعوباً لتعارفوا؟ ألم يكن قادراً لو شاء جعلكم أمةً واحدة أو شعباً واحداً أو حتى قبيلة؟ أين أنتم اذن من بقية الشعوب والأمم، وماذا تكتبون في بطاقة تعارفكم (البزنس كارد بلغة العصر): طوائفكم، مذاهبكم، أنسابكم، أفخاذكم. أليس أصل الفتى ما قد فعل؟!
ماذا يفعل الإنسان في هذي البلاد؟
ماذا يفعل من يريد أن يكون مجرد انسان؟ مجرد مواطن، ينتسب الى وطن ودولة ومجتمع وناس لا الى طائفة ومذهب ومنطقة وعشيرة وفخذ وزند وساعد وزعيم أوحد مدى الحياة والأحفاد.
لقد تقلّصت أحلامنا وتهاوت من تغيير العالم الى مجرد الرضى بأبسط أشكال المواطنية، فهل كثير علينا أن تكون لنا أوطان طبيعية، عادية، سوية، أسوةً ببقية شعوب الأرض. أم أن ما هو حلال لسوانا حرام علينا؟
تعددت الأسباب والموت واحد. ولعلاتنا القاتلة شرح يطول. فهل نقول يا أبناء الجحور اخرجوا من حلكة غرائزكم وظلمة عصبياتكم المميتة الى شمس الحياة، أو اجعلوا لنا، نحن المواطنين، الذين لا نريد سوى حقّنا في المواطنة، لا أكثر ولا أقلّ، محمياتٍ طبيعية تشبه تلك المحميات التي تحفظ فيها الكئنات النادرة المهددة بالإنقراض، لا حرصاً علينا بل على بقاء النوع.
![](images/top-page.gif)
|