New Page 1
حين يتفكك المجتمع إلى أفراد/ المؤلف د. عادل سمارة
14/02/2010 09:43:00
لا أعتقد قطُّ بان الفرد مركز التاريخ رغم تميُّزات الكثيرين كأفراد. ولا اعتقد أن بوسع مجتمع أن يتقدم طالما تفكك إلى مجرد أفراد لكل فرد منهم كفرد/ذات كيانيته الخاصة المنفصلة والمنفلتة عن المجموع، لا سيما في علاقته بالحق العام، بالقضايا العامة، بالوطن والمصير مهما كان الفرد مميَّزاً. حتى هؤلاء المميزون ليسوا سوى نتاجاً لشرط تاريخي لسياق تطور المجتمع/ات البشرية في بحثها عن التعالي باتجاه التقرب من المطلق. هذا التعالي الذي بنى هيجل عليه بنائه الفلسفي/السياسي في الدولة القومية. وهو نفسه البناء الذي سمح لهيجل، وهو فرد متميز بالطبع، أن يرى التطور والمصير الأفضل لألمانيا عبر الدولة (كمؤسسة كليانية) وليس تميزات الأفراد. كان مفهومه للمجتمع قد تجسد في نظرياته الكليانية للمجتمع والثقافة بان عمل الانسان له معنى فقط ضمن الكل، وهو مفهوم يعارض بوضوح الفردية الذرية (من ذرة، مثلا فرد). كما رأى هيجل ان الدولة كمؤسسة هي والبيروقراطية يخلقان التماسك الاجتماعي. من هنا أُتهم بأنه صاحب نظرية سلطوية، إلا أن ما يشفع له أنه يرى ان الدولة الدستورية البرجوازية هي نهاية التطور التاريخي.
المجتمع المدني ينتج الفرد وليس العكس
حين يصل التطور التاريخي لمجتمع ما إلى تشكيل وترسيخ واستيعاب وتمثل علاقات معينة بين السلطة السياسية (المجتمع السياسي) وبين المؤسسات المجتمعية التي تتوسط بين المجتمع والسلطة، يمكن تسمية ذلك المجتمع بأنه مجتمع مدني. وهذا بالطبع ما يُسعف هيجل من اتهامه بالشمولية لأنه ربما الأول الذي صاغ اسساً نظرية للمجتمع المدني. في حالة المجتمع المدني الذي يتحدث عنه الجميع في بلادنا اليوم، تكون أفكار وثقافة و/أو إيديولوجيا السلطة الحاكمة وتحالفاتها هي السائدة والمقبولة مجتمعيا من الطبقات التي ليست شريكة في السلطة، ولا طبعاً في الثروة. وهذا يعني بالضرورة والقطع أن هناك مشروع هيمنة للأطراف أو الطبقات المجتمعية الأخرى، لكنها عاجزة عن الإطاحة بهيمنة السلطة المهيمنة فهذه الأطراف أو الطبقات إما:
□ أن تتماهى مع إيديولوجيا السلطة وتستدخلها
□ أو تحاول الخروج عليها.
والحقيقة، أن ما يحدث هما الحالتان في علاقة تناقضية جدلية متزامنة.
والمغزى من إثارة هذه النقطة هو التوضيح بأن إطلاق وصف مجتمع مدني، حتى بحصول إجماع على إيديولوجيا معينة، (وهو إجماع المسيطر والمسيطَر عليه)، على مجتمع معين، يشترط وجود مؤسسات وسيطة بين المجتمعين السياسي والمدني لها دور في امتصاص التناقض. وهذه حالة موجودة في الديمقراطيات الغربية، وليست حقا موجودة في العالم الثالث وخاصة في الوطن العربي، ولا في الأرض المحتلة.
في حالة المجتمع المدني يكون للفرد دوره، ولكن لا يكون الفرد هو الدور والمقرِّر. يكون الفرد نتاج شرط تاريخي، ولا يكون الفرد متعالياعلى المرحلة والمجتمع. إذن، ورغم النقد الجذري على المجتمع المدني في الغرب وهو الذي تهيمن عليه إيديولوجيا طبقة معينة، فإن الفرد في التحليل الأخير محكوم تصرفه بجماعة ما، وليس كوكباً يطوف الفضاء على رسله. فالفرد جزء من جماعة، من طبقة من إثنية، من طائفة...الخ. لأن للمجتمعات والطبقات أطرها وتجمعاتها، أما الفرد فله نفسه.
متى تنقلب الصورة؟
في غياب المجتمع المدني، بل في حالة المجتمع المدني المتخيَّل وليس الحقيقي، كما هو حالنا، يمكن للفرد أن يُنيب نفسه عن المجموع دون تخويل، مثلا: كأن اقول أنا لي الحق أن أطلب من الشعب الفلسطيني إسقاط حق العودة. أو أن لي الحق في بيع ارضي في يافا، أو لي الحق في شجب الكفاح المسلَّح ضد الاحتلال، وخاصة العمليات الاستشهادية! وفي المستوى الثقافي يمكن لفرد أن يقول: أنا أطالب بإسقاط حق العودة، وأطالب بممارسة التطبيع الأكاديمي مع إسرائيل لأنني أنا كفرد مثقف أعي أكثر مما يعي الناس، أرى ما لا يرون وأن لا حاجة كي أشرح لهم ما أرى، فهم قد لا يرتقوا إلى الفهم المركَّب والمعقَّد الذي وصلت أنا إليه. أنا افكر لهم!
في هذا السياق يحل الفرد محل مؤسسات المجتمع المدني. وفي مثل هذه الحالة يكون المجتمع في مأزق الانفصال/الفُصام بين الفرد وبين المجتمع، ويصبح المجال مفتوحاً لكل فرد بأن يرى نفسه عبر ذاته، ويصبح الحق العام، المصير العام مفتتاً بين الرؤى الذاتية للأفراد.
لقد عايشنا قيادات سياسية حزبية تكتفي بأن يكون الزعيم وحده المؤهل فكرياً، وما على البقية إلا أن يستمعوا لما يقول، وأن ينفذوا ما يطلب حتى لو لم يفهموا ما يقول. وهذه مثابة ملوك في الأحزاب. وحيث تدهورت الحزبية إلى حد كبير، أصبح بوسع مثقف دون حزب، أن يقول ما يريد، وأن يتحدث باسم المجتمع حتى في اكثر القضايا مصيرية، وفي أحسن الأحوال تكون إجابته إن سُئل: أنا حر!
من يقرأ حال الفلسطينيين في هذه المرحلة، يمكن أن يخرج بمثل هذا الانطباع، سواء قيام فرد أو أفراد بالتطبيع مع الكيان الصهيوني الإشكنازي، أو تسويق بضائعه في السوق المحلي مما يطرد مؤسسات الإنتاج المحلية من السوق، أو يؤدي إلى توقف الفلاحين عن الزراعة وبالتالي إهمال الأرض، أو قيام البعض ببيع ارض للاحتلال بحجة أن هذا سوق، أو ترويج يساري لعلاقة له مع يساري إسرائيلي باعتبار الأخير اقرب إليه من إسلامي فلسطيني، أو قيام مؤسسة محلية بتأجير مبناها لفرقة فنية تطبيعية صهيونية أيدت العدوان على غزة، أو قيام فرد أو مجموعة بالمتاجرة مع الاحتلال معللة ذلك بأن الأعمال يجب أن لا تنتظر حتى يتفق رجال السياسة...الخ.
لعل أول ما يبرز إلى الذهن بناء على الأمثلة أعلاه هو: هل هذا المجتمع مجتمع مدني؟ هذا المصطلح الذي يكرره ربما كل من يكتب من الفلسطينيين؟ ليس هذا المقال عن المجتمع المدني، ولكن، لا يمكن في المجتمع المدني أن يكون الفرد منفلتاً إلى هذا الحد، لأن المجتمع المدني، اي نوع من المجتمع المدني يقوم على وجود مؤسسات مجتمعية تنظم العلاقة بين الدولة الوطنية وبين المواطنين من جهة، وهي عملية انتظام تحول دون ضرب القيم والمكونات الأساسية للمجتمع.
ولكن، هل كان وضع الفلسطينيين هكذا في الماضي القريب؟ بالطبع لا.
فالانتفاضة الأولى قدمت مثالاً صارخاً على التماسك الاجتماعي الوطني عبر مقاطعة العمل والاستهلاك من الاحتلال. وكان الذي طُرد من السوق هي منتجات الاحتلال، لم تدر النساء العاديات والأولاد البسطاء، أنهم يقومون بعمل وطني اجتماعي اصبح نموذجاً تنموياً يُحتذى، هو التنمية بحماية الشعب، "التنمية بالحماية الشعبية". وكان هذا الإجماع العفوي ولكن الرصين والأصيل ديمقراطي وحر تماماً قام فيه الناس كل الناس بأدوارهم دون ضغط أو قمع. آنذاك كان المجتمع أعلى من مجتمع مدني. مارس الشعب آنذاك ديمقراطية شعبية داخلية لم تتمكن من قمعها أداة القمع الاحتلالي.
وحتى قبيل اشتعال الانتفاضة الأولى، أي ما بين حزيران وآب 1987، قال أحد كبار الأدباء الفلسطينيين لجريدة يديعوت أحرونوت الصهيونية، إن الشعب الفلسطيني جاهز للتفاوض مع إسرائيل والاعتراف بها. ودار حوار صحفي ساخن إثر ذلك، وبرز مثقفون وطنيون وقوميون واشتراكيون لمواجهة هذا التوجه الذي كانت له لا شك ارتباطات سياسية، وانتشر الحوار ليصل إلى عدة كتاب عرب، وفي النهاية كان اغتيال ناجي العلي. والدرس المستفاد من هذا، أن روح المقاومة حتى لسلوك الفرد والقلة كانت عالية. لم يكن للاغتيال أن يحصل لولا ان هناك تناقضا بين طرفين لكل موقفه الحدِّي.
فهل ما زال الوضع الفلسطيني اليوم على ما كان عليه آنذاك؟
يمكن التعامل مع هذا السؤال من مدخل قراءة المناخات التي تفكك مجتمع ما، و/أو تركِّب ذلك المجتمع أو تعيد تركيبه هي نفسها بعد تفكيكه على يدها او يد غيرها.
تفيد قراءة الأمثلة السابقة أن المجتمع الفلسطيني في الأرض المحتلة لم يعد بكل ذلك التماسك. فالتطبيع بمختلف الوانه الثقافية والسياسية والفنية والاقتصادية يتواجد وينتشر في مختلف بنى المجتمع. بل وصلت ممارسة التطبيع إلى قيام أفراد بذلك دون أخذ بالحسبان موقف ومصلحة المجتمع. بكلمة أخرى، صار بوسع فرد أن يغرق سوق مدينة بالمنتجات الإسرائيلية. وبوسع فرد أن يقف في مواجهة حملة رفض التطبيع الأكاديمي في البلد ليقوم بالتطبيع الأكاديمي مع الاحتلال، ويضع الجامعات الأجنبية المتضامنة مع الفلسطينيين في حرج. وصار بوسع فرد أن يعتبر العمل في مؤسسات غربية رسمية ميزة شخصية له اختير من قِبَل هؤلاء السادة لأنه "متميزاً" مهما كان نوع التميز، لا يَهُم! وبوسع نقابي أن يرفض مقاطعة نقابات الاحتلال، ويُحرج بالتالي الحركة النقابية بل العمالية المحلية والعالمية المتضامنة معنا.
لا شك أن هذا تعبير ظاهري وشكلي عن شعور الفرد أن بوسعه أن يكون "حراً". فليس اسهل على مطبع فرد أن يقول لك: "أنا حر". ولكن جوهر هذا السلوك الفردي المعلن والمتحدي يرتد في الحقيقة إلى تهالك، بل غياب، البُنى الجماعية التي تشكل المجتمع المدني، تهالك الحركات السياسية، والنقابات والجمعيات واتحادات الطلبة والعمال والمرأة، والمؤسسات الثقافية وحتى الدينية.
قد يقول البعض، لولا تهالك هذه البُنى لما كان للفرد/الأفراد أن يصلوا إلى هذا الحد. وهذا إلى درجة ما صحيح. ولكن، هل يحق للفرد عالماً أو بسيطاً أن يتجاوز على الحق العام؟ أن لا يرتبط بقيم عامة؟ هذا يذكرنا مرة أخرى بموقف هيجل أعلاه. وكيف لنا أن نقول ان هذا مجتمعاً إذن، فما بالك بمزاعم البعض انه مجتمع مدني! وهل تكوين مؤسسات مجتمعية يأتي من السماء، أم ياتي به افراد وجماعات؟ فلماذا لا يتم ذلك من جديد على يد أفراد جدد؟ لماذا لا يشعر كل منا بواجبه في إعادة بناء المجتمع. ولماذا يكتفي الكثيرون بالرقابة في أفضل الأحوال وبالتشكي والصراخ الممرور في أعلى الأحوال؟ لماذا ينفلت الأفراد من أواصر العمل الجماعي من علاقات الفريق، ويتحولون إلى كيانات سلبية وحنى ضارة؟ ولماذا تعجز المؤسسات والفرق والجماعات عن الاحتفاظ بهم؟ لماذا يصل بعض الأفراد إلى حالة من التعالي الصوفي (بالسالب طبعاً) بحيث يشعر انه مميز. ولماذا حين يتبين له انه ليس مميزاً كما يتخيل، يتحول إلى الشعور باللاقيمة، إلى عدواني وعبثي بدل أن يكون ذلك درساً تربويا له؟ أليس كل إنسان منا معلِّماً في مستوى وتلميذاً في مستويات لا تُحصى؟
لحظة مقارنة
لم نعش مع الاحتلال منذ عام 1967، بل أُرغمنا على ذلك، ولم يعش أهلنا في الاحتلال الأول 1948 مع الاحتلال بل أرغموا على ذلك. وهذا يطرح السؤال التالي:
هل الكيان الصهيوني الإشكنازي مؤسسة جماعية كليانية أم مجاميع مفككة، بل افراداً؟ أم هي هذا وذاك. وإذا كانت هذا وذاك معاً، فأية صفة هي الأساسية؟
قد يجيب البعض ان المؤسسة الصهيونية محكومة بإيديولوجيا صهيونية عنصرية تجمعية إدماجية في داخلها وإقصائية استثنائية في علاقتها بالآخر...الخ. وقد يكون هذا صحيحاً، بل هو صحيح. ولكن لماذا لم يولد هذا عندنا إيديولوجيا جماعية غير عنصرية لكنها قادرة على خلق تماسك اجتماعي. لماذا لا نتعلم من آلية العمل وليس من عنصرية الخطاب؟ قد تكون الإجابة الفضلى هنا هي تهالك المشروع الوطني وتحوله إلى عدة مشاريع وطنية حيث تعددت الرؤى لكل حزب أو حركة أو طبقة أو مؤسسة وحتى لكل فرد. هذا صحيح بالفعل، ولكن لهذا نقاش آخر.
إنما، ونحن نتحدث عن الفرد، أسوق هنا واقعة:
كنت وأسرتي في لندن عام 1985، وذهبنا ذات يوم إلى حديقة الحيوانات. دخلت ابنتي سمر وكانت أقل من عشر سنوات إلى حانوت صغير فيه رجل عجوز لشراء شيىء ما للأكل. سألها الرجل من اين انتم؟ قالت من فلسطين. فقال لها، هذه إسرائيل، أعطني عنوان أبيك. بعد شهر جائتني من الرجل العجوز رسالة يقول لي فيها: أنتم تعلمون اولادكم أكاذيب، هذه أرض إسرائيل. لم يكن خلف الرجل العجوز مخفر شرطة يراقب ضعف انتمائه! بل فعل ذلك، لأن الشرطة لا تحيط بعقله وجسده. بالمقابل، ما الذي يجبر فلسطيني على الإصرار على التطبيع، وهو يرى الاحتلال يأكل حتى موتانا!
مناخات انفلات الفردية
ما هي مناخات التفكيك المجتمعي والانفلات الفردي؟ ما الذي يجمع الأفراد وما الذي يفكك المجتمع إلى أفراد، وأفراد فقط؟
تُجمع القراءات النقدية للمجتمعات البشرية، ولا سيما في العصر الحالي على أن من يمسك بالسلطة السياسية يمكنه تغيير كل شيء. وهذا يعيدنا لبداية هذه الُعجالة، بأن من يسود، اي من يهمين، يركِّز القرار بيده ويغير ما لا يتوافق مع نظرته، مصالحه، إيديولوجيته...الخ.
وهذا يفتح على سلطة الحكم الذاتي على مستويين:
الأول: هل هي سلطة حقيقية بالمعنى السيادي؟ والإجابة لا.
والثاني: إذا لم تكن السلطة سيادية، فهل هناك سلطة بديلة، اي سلطة المقاومة؟ والإجابة لا أيضا.
فسلطة الحكم الذاتي تمثل حالة انسداد مقصود. فهي تقطع الطريق على الدور القيادي السري والفاعل للمقاومة، ولا تمارس هي سيادة، على الأقل لسببين:
الأول: أنها ليست سلطة مقاومة، بمعنى أنها تتبنى شعار "الحياة مفاوضات"!
والثاني: لأنها مقيدة باتفاقات التسوية.
إلى جانب ضعف العامل السياسي في إعادة بناء البلد، بل دوره في التفكيك والإحباط، هناك العامل الثقافي، وهو العامل الذي يفتح ربما اكثر من غيره مناخات للفردية. فالسياسي حتى لو ديكتاتوراً محكوم بعلاقة ما أو مرجعية ما بقطاعات من المجتمع لأن الديكتاتور، حتى الديكتاتور لا يحكم كفرد فقط، بينما "يتمتع" المثقف بفرصة التفرد الذاتي، أو فرص الانفلات. ولكن السؤال هنا ليس المثقف كفرد، أو المثقفين كمجموعة من الأفراد. بل المشكلة في تأثير روح استدخال الهزيمة على الثقافة الوطنية مما قاد إلى تراجع التقيد والإيمان بالقيم الوطنية والقومية ببساطتها وعموميتها، وتراجع الالتزام بالقيم الفكرية والثقافية للمجتمع مما جعل من السهولة بمكان على الفرد/المثقف خرق القيم والانفلات في التطبيع، وعدم المقاطعة، والدعوى للاعتراف بالكيان الصهيوني الإشكنازي...الخ.
ولكن، كيف يتم هذا؟ هل هناك حالة من الفراغ وانعدام الوزن بين المثقف والثقافة؟ كيف يمارس المثقف الفرد/الفردي عملية خرق الموقف الثقافي وتجاوزه؟ ما هو الجسم المادي الذي يتوسط بين المثقف والثقافة، فيعززها أو يهزها وينقضها أو يبهِّتها؟
هنا يحضرنا الوجود المادي الموضوعي للقوى الاجتماعية السياسية والمؤسسات الاجتماعية. قد يحلو للبعض تسميتها بقوى ومؤسسات المجتمع المدني، وقد لا يطيب للبعض ذلك. إنما المهم أن غياب هذه القوى والمؤسسات، هو الذي يخلق حالة الفراغ التي يتم ملؤها بالنُتف والتفتتات الفردية. وبدون هذا المعيار، اي وجود القوى والمؤسسات الاجتماعية بين الفرد والثقافة، لا يمكننا قياس خطيئة الفرد وانحرافه. فهو كفرد لا يعيش بدون الناس.
والإتيان على ذكر العامل الثقافي لا يعني أسبقيته على العامل الاقتصادي/المادي من أجل الدقة. بل تم ذلك لأن قدرة المجتمع، وخاصة قواه التي نتحدث عنها على المواجهة الثقافية يجب أن تكون اقوى من قدرته على المواجهة الاقتصادية/الإنتاجية. هذا رغم أن المستوى الثقافي والسياسي يتأثر وقد يكون انعكاساً خلاقا للاقتصادي الاجتماعي. أنما المقصود بوضوح، أن بوسع الثقافي المقاومة أكثر من الاقتصادي لأن استقلالية الثقافي في بلدنا تحت الاحتلال هي أعلى من الاقتصادي. ولكن...
ولكن، ضعف الثقافي أتٍ هذه المرة من ضعف السياسي وقراره عدم المقاومة، وهذا ما نسميه الديالكتيك المرتد والسالب لكل من الثقافي والسياسي، بما هما الخاصرتان الأضعف للمجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال.
لقد فتك الاحتلال باكراً بالعامل الاقتصادي الإنتاجي في الأرض المحتلة وألحق بنيتها التحتية باقتصاده، وهو ما ترتب عليه إلحاقا قسريا للبنية الطبقية المجتمعية باقتصاد الاحتلال. فحين تُفرغ السوق من البضاعة، تقوم فئة مجتمعية بالشراء من سوق الاحتلال، ببساطة لأن الاحتلال قطع كافة منافذ التصدير والاستيراد وأخضعها لمصالحه وقراره، ومن يريد الاستزادة فليقرأ اتفاق باريس الاقتصادي. وحين تغيب المواد الخام تقوم فئة أو شريحة أصحاب المعامل بشراء هذه المواد من سوق الاحتلال...وهكذا.
ولأن العلاقة بالاحتلال هي علاقة صراع وتناقض تناحري، فإن هدف الاحتلال هو تفكيك مختلف المواقع والبُنى المحلية التي تخلق تكتلات جماعية. تفكيك المصنع، مصادرة الأرض، أي تفكيك مختلف مواقع الإنتاج. وهذا الأمر بالتحديد هو الذي دفع بقوة العمل المحلية للتدفق غلى مواقع اقتصاد الاحتلال لتصل في فترات متعددة إلى أكثر من 40 بالمئة من قوة العمل المحلية. كانت تذهب هذه القوة إلى هناك كأفراد لا كطبقة أو شريحة/شرائح.
بين سياسة الاحتلال في تقويض البنية الإنتاجية، وتشجيع الاستهلاكية، وتوفير فرص التموُّل من الأجنبي والتعيُّش عليه، وبين ضعف الخاصرتين الثقافية والسياسية في الأرض المحتلة وخاصة لدى السلطة الفلسطينية، تحولت الشرائح والطبقات، من حيث حدود وضرورة تماسكها الداخلي، إلى أفراد مبعثرة بدل ان تكون قوة جمعية متماسكة. لذا لم نعد نرى حركة عمالية او طلابية أو نسوية...الخ. وإن وجدت فهي ليست في وضع من يقود الأكثرية العمالية او الطلابية او النسوية...الخ. وربما لهذه الأسباب يجوز للبعض الجدال: هل هناك طبقات في الأرض المحتلة؟ سؤال أكبر من هذه الأسطر.
الجهوية وتفكيك الهويات
كما سبق، ليس هذا بحثا في الهوية. والهوية مسألة أقرب إلى التخيُّل منها إلى التجسيد المادي، وقد تكمن تخيُّليتها في كونها تقسم على فرد واحد، له هويته، أو على أمة باكملها، أو على الأممية. أليست الهوية الإنسانية أممية؟ ولكن، رغم ذلك للهوية سحرها ولها حضورها ولها معناها. بل الأخطر أن لها معانيها. وربما بسبب هذه المعاني المركَّبة والمعقَّدة للهوية فإنها توفر مناخاً للفردية التي هي شاغل هذا المقال.
من سحر الهوية، أن الناس، المجتمعات، تستدعيها حين الأزمات. بدورها تعرضت الهوية العربية الفلسطينية هنا ولا تزال لهجمة منهجية من الاحتلال من جهة ومن قوى سياسية محلية من جهة ثانية. فيما يخص الاحتلال، أُلقي على وعي القارىء/ة العبارة التالية للتفكير فيها: "إن التسوية مع الاحتلال، هي من وجهة نظره طبعة أخرى من الحرب على الوجود والهوية العربية الفلسطينية". وبغض النظر عن مقاصد كل طرف، كان الهدف من هذه الحرب والهجمات أو الضربات تفكيك كل ما هو مشترك لإيصال المجتمع لكل ما هو فردي ومضيَّع. لقد بدأت الهجمة ضد المشترك القومي سواء من الاحتلال أو من قوى القطرية والإقليمية. وبعد أن جرى شبه فك للهوية الفلسطينية عن العمق الثقافي العربي بمكونية الإسلامي والمسيحي، وطبقا لما يجري الآن من فك الهوية الفلسطينية عن ارتباطها الثقافي الإسلامي، يتم الآن تفكيك الهوية الفلسطينية من داخلها إلى هويات حزبية وإلى هويات مناطقية وإلى هويات عقائدية ويمكن لهذا الانشطار المتسلسل تنازليا أن يوصلنا إلى تحول كل فرد إلى هوية قائمة بذاتها!
والحقيقة أن هناك تعدد في الهويات، فكل منا مثابة هوية مركَّبة. فأنت عربي وفلسطيني، وقومي...الخ. ولكن، في مناخ معين وفي فترة معينة وأمام تحديات معينة، لا بد ان تطغى الهوية الجمعية على الهويات الأخرى الجانبية المتمفصلة معها لكي تقوم هناك حالة تماسك اجتماعي وطني قومي للحفاظ على الوجود الجمعي. هذا ما يؤكد لدائنية الهوية. ولكن، طالما نخلق نحن الهويات، فبوسعنا إذن توجيهها، وبوسعنا الحيلولة دون اختزال هوية المجتمع في نزوات الأفراد.
|