New Page 1
الإعلام ليس الساحة المناسبة لحل الخلافات/ د. غازي حمد
25/02/2010 09:26:00
الإعلام من الأسلحة الفتاكة التي يمكن أن تحيي أو تقتل أو تحدث مفسدة عظيمة, لذا فان الإسلام عظم من دور الكلمة وخطرها " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يلقى بها في جهنم سبعين خريفا" ,وقد تحيي الكلمة القلوب وتحول الخصم اللدود إلى صديق حميم "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ".
قصة إعلامنا الفلسطيني- خاصة الحزبي منها - مؤلمة ومحزنة , وسيرتها تنكأ الجروح وتدمي القلوب وتنخر في جسد شعب منهك ومرهق من كثرة الطعنات والضربات !!
كان من المتوقع أن يكون الإعلام- ونحن في مرحلة التحرير والمعاناة - بلسما وعنوان رحمة وساحة للالتقاء والانفتاح والحوار .. وان يرتق الخرق ويضمد الجرح ويلم الشعث ويزرع الأمل ويقارب بين وجهات النظر, لكنه مع الأسف سار في طريق مغاير واتجاه معاكس تماما , وجرنا
في متاهات بعيدة وصحاري مقفرة.
ما كان الإعلام إلا حرابا مسنونة وسيوفا مشرعة وبنادق مصوبة وسهاما موجهة !!
لقد خدش صورتنا وكشف سترنا وشوه نضالنا وأظهرنا بمظهر المتناحرين المتخاصمين دوما , الكارهين لبعضنا ,المتهمين لأنفسنا بأسوأ أنواع الاتهامات..
** ليس ساحة للحل.
المعضلة المستعصية في المجتمع الفلسطيني تكمن في أن هناك من يعتقد أن كل القضايا يجب أن تكون مستباحة في الإعلام وأنه يمكن نشرها وطرحها ومعالجتها , مهما صغرت أو كبرت, بدءا بالقضايا السياسية الكبرى وانتهاء بأصغر المشاكل اليومية , من خلال تصريح قوي وحاد أو مقابلة تلفزيونية أو بيان شديد اللهجة أو مقال ناري.. لكن النتيجة العملية أنبأتنا بان الأمور تتفاقم وتزداد تعقيدا !!
لقد ثبت أن الإعلام يوسع الأزمة ويعمق الخرق ويباعد في الهوة.. والمرء إذا كثر كلامه كثر سقطه وتتابعت زلاته !!
ما إن يصدر تصريح من فلان إلا وتجد ردا عليه في سرعة البرق.. وما إن يطرح موقف هنا أو هناك إلا وتجد مصطلحات الرفض والتشكيك جاهزة .. وما إن تقع من مشكلة إلا وتجد الناطقين الإعلاميين يتسابقون أيهم يدلي بدلوه ،وأيهم يسجل قصب السبق في التعليق والرد , حتى أن بعض الخطوات الايجابية التي أنجزت على صعيد العلاقة بين طرفي المشكلة والسير باتجاه المصالحة وجدت من يفسرها سلبا ويحللها خطأ ويتشدق ويتقعر في الكلام حتى يضيع بهجتها.
إن قضايانا ومشاكلنا أصعب واعقد من أن تحل وتعالج ضمن تراشقات إعلامية هنا أو هناك .إنها تحتاج إلى فهم عميق وفكر مستنير وحلول واقعية ورؤية وطنية وخطوات عملية بدل كثرة "القيل والقال".
لقد غابت روح التأني والتأكد والتحقق وتغليب المصلحة العامة على "الماراثون" الحزبي الإعلامي وحلت محلها ردود الأفعال المتسرعة غير المدروسة مما كان له اكبر الأثر في خلق الفوضى والإرباك والتفسخ الاجتماعي وانتشار ظواهر الإشاعات والتسريبات الكاذبة .
لقد أصبحت كل قضايانا مستباحة منهوبة منهكة في مقصلة الإعلام من اجل أن نتجاذبها ونشدها من أطرافها ومن ثم نقضي عليها بالضربة المميتة ... لذا تجد أن اغلب قضايانا المهمة مجمدة , تراوح مكانها أو تتراجع إلى الخلف.
هل يدرك القادة والمتحدثون الإعلاميون والكتاب والصحافيون بان هناك طرقا أجدى واقوي أكثر فعالية لحل الخلافات بدل الصخب الإعلامي غير المجدي؟
ألا يعلمون انه يوجد هناك شيء اسمه" دبلوماسية" أو "اتصالات" أو سياسة ما "تحت الطاولة " وما "خلف الكواليس" لحل الخلافات بهدوء وروية ودون "شوشرة" أو تهييج للشارع وتحريض للنفوس ؟ ألا يدركون بأن منهج الإسلام يقول "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان" , وليس بالصراخ والجهر بالصوت المجلجل وكيل الاتهامات أمام من يفهم ومن لا يفهم, ( انك ما تحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كانت فتنة لهم ).
ألا يدركون انه من الخلق والمنطق السليم والفهم الوطني الصحيح ألا ننشر غسيلنا على الملأ صباحا ومساء , وننقض غزلنا بأنفسنا من بعد قوة أنكاثا, ونصبح "مضغة" لوسائل الإعلام كي تستقطب المشاهدين على أنغام خلافاتنا واتهاماتنا لبعضنا البعض ؟** الإعلاميون يسبقون السياسيين في بعض الأحيان تجد أن القضايا تطرح وتعالج وتطبخ في وسائل الإعلام قبل أن يقرر القادة والسياسيون ماذا يفعلون بشأنها, ثم يجد القادة أنفسهم رهائن المواقف الإعلامية المتسرعة المتواترة فيضطرون إما إلى مسايرتها بطريقة تدفع إلى توسيع الهوة واشتداد الأزمة , وإما إلى السكوت والتسليم.. لقد "تمرمطت " المصالحة وشوهت المقاومة ووئدت الوحدة وضاعت لغة الحوار .. وصور البعض الفلسطيني بأنه شيطان رجيم والبعض الآخر بأنه ضائع رخيص.. كل ذلك من خلال من داء "الإسهال" و"السعار " الإعلامي الذي نخر في فضائياتنا ومواقعنا الالكترونية ومقالات كتابنا .
لقد قلب الإعلام موازين الصدق والكذب ,والصحة والخطأ, حتى بتنا لا نعرف من أين نستقي صحة الخبر ولا نعرف الحقيقة من الزيف
لقد وقع الإعلام ضحية للخلاف والانقسام السياسي ,لكنه أيضا جعلنا – نحن الفلسطينيين– ضحايا للخداع والكراهية والتحزب الأعمى .. انه المتهم الرئيس الذي يجب أن يحاكم على كثير من الموبقات التي تسبب بها وخلق ندوبا وجروحا لا تندمل .
إن الكثير من القائمين على الإعلام مندفعون متسرعون مستبقون للنتائج متلهفون للرد وكأننا في سوق أو مزاد علني .
لا نكاد نجد من يتأنى ويتقصى ويوازن الأمور بعقلانية ويتحدث بروح الأمل ويبشر بالانفراج ويفسح الطريق أمام فرصة لسبر الحقيقة ومعرفة آثارها وتداعياتها .
ان الإعلام الفلسطيني كما الرصاصة المندفعة التي لا تجد كابحا أو سدا يمنعها أو يبطئ اندفاعها وهيجانها.
أقولها بصراحة إن الإعلام لعب دورا سلبيا, فبدل أن يكون جزءا من الحل أصبح يشكل نقطة تفجر يومية .
** غياب الثقافة واللباقة والدبلوماسية
إن الإعلام ليس مجرد إطلاق تصريح أو إجراء مقابلة أو ترسيم مقال ..انه تعبير عن ثقافة وفهم ووعي وحس وطني .. انه القدرة على إقناع الجمهور بصحة طرحك ومواقفك. لذا فان الإعلام ليس مجرد هواية أو أداة خداع أو تسويق شعارات بقدر ما هو زرع ثقافة ووعي وتغيير . انه صناعة واحتراف وفن وعلم .. وقبل كل شيء هو أمانة ثقيلة .
إن كثيرا من الناطقين الإعلاميين تغيب عنهم الثقافة السياسية واللباقة الدبلوماسية والقدرة على الإقناع( بالمعلومات الموثقة المؤكدة ) وسوق الحجج والبراهين , ومن ثم يستبدلون كل ذلك بالهجوم الكاسح والنقد الجارح و"مباطحة "الخصم بأي وسيلة كانت .
يكون الهم كيف تكسر خصمك وكيف تسجل نقطة عليه, لا أن تبحث عن نقطة التقاء أو طريقة لتجاوز الأزمة , بل نتحول إلى "ديكة" نتصارع أينا يعود مبتهجا منتشيا انه قدر على استفزاز خصمه !! كل هذا والقضية الفلسطينية تضيع وتنسل من بين أيدينا ..كل هذا والمستوطنات والجدار تبلع من أرضنا ودمنا يسيل على الأرض !!
تشعر أحيانا أن الإعلام يطعمنا معركة وهمية لا أصل لها ولا جذور, لأنها تخاطب العواطف أكثر مما تلامس العقول , وتجعلنا نعيش في عالم من "النشوة" والإحساسات الخادعة !!
غالبا ما يشعرك الإعلام الحزبي الفلسطيني برزمة من الأمراض والعلل ما بين القلق والتوتر والغضب والإحباط والإحساس الدائم بفقدان الأمل والسير في طريق مسدود.
تنصت فلا تسمع أذنك إلا هجوما لاذعا أو نقدا جارحا أو حناجر مجلجلة .
انه إعلام تصيد الزلات واقتناص الخطأ والتربص وانتظار لحظة الهجوم والفتك .انه ليس إعلام – كما أمر الله ورسوله – بستر العورات والبحث عن مكامن الخير والتسديد نحو الأفضل وبث روح الخير والطمأنينة, "بشروا ولا تنفروا وسددوا وقاربوا ".
ينبغي ألا يكون إعلام تهييج للمشاعر وبث الكراهية ..
ألا يكون الإعلام الذي يجعلنا ننام على هم وغم ونصحو على هم وغم ..
ألا يكون الإعلام الذي يعلمنا كيف نكره لا أن نحب ,ويعلمنا كيف نقسو بدل أن نرحم ,ويدربنا كيف نصطاد في المياه العكرة بدل أن نعفو عن الزلات ونعلو على الصغائر..
ألا يكون الإعلام الذي يعلمنا حب الحزب على حساب حب الوطن ...
ألا يكون إعلام مديح لطرف وذم لطرف آخر ...
ألا يكون الإعلام الذي لا يرى إلا بعين واحدة ولا يبصر إلا من خلال نظارات ملونة..
** نصيحة لوجه الله
أقول لإخواني جميعا القائمين على ثغرة الإعلام إن تأثيراته وتداعياته خطرة جدا إلى درجة أنها إما أن ترفعنا إلى السماء أو تهوي بنا في واد سحيق!! ,لذا انتبهوا جيدا وكونوا حذرين محتاطين.. لا تغالوا, لا تتسرعوا ..وقبل كل ذلك لا تعتقدوا بان الخلافات والصراعات يمكن إن تحل من خلال "الشطارة" الإعلامية .قللوا قدر الإمكان من سيل الإعلام واضبطوه بضابط المصلحة الوطنية وتحقيق الأهداف وحل المشاكل لا تعقيدها.
إن الإعلام - كما هو الدواء - يجب أن يعطى بحسب الحاجة, وقد نحتاج منه إلى قطرات وقد نحتاج أن نصوم عنه ,لكنه إن زاد عن حده غمرنا بالأمراض والعلل ,كما هو حالنا اليوم
اتقوا الله في شعبنا ولا تجعلوه ضحية ونهبا للهواجس ,وألزموا أنفسكم بالصدق "يأيها الذين امنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين "....
ألزموا أنفسكم بالتحقق والتبين قبل أن تقولوا وقبل أن تكتبوا, "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا "..
ألزموا أنفسكم بالحساسية المرهفة لكل كلمة تقال "إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم "...
ألزموا أنفسكم بالحق " قل الحق ولو كان مرًا "
اتق الله يوم يوقفك الله تعالى للحساب "هاأنتم جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا "؟؟؟.
هناك حكمة رائعة تقول: "يجب أن تكون حكيما قبل أن تكون صادقا" حتى تضع الكلمة في مكانها وفي وقتها .
لا ترهقوا شعبنا بسيوف الإعلام وسكاكينه وشفراته الحادة وسياطه المؤلمة .. حولوه إلى يد حانية وأعطوه جرعة من أمل بدل جرعات "النكد" اليومية .. بثوا في روعه أن الفرج القريب وانه مهما طال الزمان أو قصر فان الانقسام سيغور ويذهب مع الريح فلا مقام له في أرضنا..
كونوا عونا لا عدوا , وكونوا حكماء لا مغالين , وكونوا دعاة خير لا دعاة فتنة ..كونوا مفاتيح للخير مغاليق للشر , وسدوا الباب أمام كل ناعق وطالب للشر ومسعر للحرب بين أبناء الوطن .
|