New Page 1
مناضلات ومناضلون وليسوا ضحايا../أحمد ابراهيم الحاج
13/04/2010 01:57:00
مناضلات ومناضلون وليسوا ضحايا..
عائشة عودة
قبل شهرين من الآن أو يزيد، اتصلت معي فضائية الجزيرة لإجراء مقابلة وتعليق على خبر يقول:
- المناضلة الجزائرية الكبيرة "جميلة بوحيرد"، تتسول في الشوارع من أجل علاجها.
شكّل الخبر صدمة، فأسرعت في الرد درءاً للتهمة عن المناضلة الكبيرة، التي شكل نضالها مصدر إلهام لكل المناضلين العرب. وخبر كهذا وبرنامج حوله، يحوّل نضالها من مصدر الهام إلى مصدر خوف ووعيد وندب، والاعتزاز فيها يتحول إلى شفقة عليها!
فقلت:
-المناضلة جميلة، مناضلة كبيرة لا يمكنها التسول في الشوارع، حتى لو ماتت من الجوع.
كان ذلك ما أؤمن فيه. وفكرت؛ لماذا تريد قناة الجزيرة الترويج لمثل هكذا خبر إن صح؟ هل يتوجع قلب الفضائية على المناضلة؟ فلماذا إذن لم تسارع في إسعافها؟
ألم يكن بإمكان الفضائية أن ترعاها وتدخلها إلى أهم مستشفي في أي دولة كان، بدل أن تجرح كبريائها وهي التي شكلت رمزا للمقاومة العربية؟. أم أنها ترى في ترصد المناضلين حين يسقطون من التعب فضيلة؟، فتعرضهم على الفضائيات، ليصبحوا ضحايا بعد أن كانوا رموزا للمقاومة؟ كيف يتم السطو - بوعي أم بدون وعي- على القيم والرموز النضالية من أجل كفشة إعلامية، وربما نكاية في نظام سياسي؟.
ما أنهيت المكالمة حتى حضرتني صورتي في برنامج "للنساء فقط"، على شاشة الفضائية نفسها، في تشرين الأول عام 2005م. وكيف صحوت من النوم بعد البرنامج أبكي، ولم أستطع التوقف عن البكاء إلا بعد ساعة من الزمن، فقد كانت حالة خارجة عن إرادتي.
كتبت في حينها واجتهدت في التفسير. لكنّي الآن أعود لأطرح التساؤل، فما اعتقدته سببا في حينه، لم يعد الآن كافيا، ويحتاج لتوضيح جديد.
فهل كان البكاء حقا بسبب عدم اندمال تجربة التعذيب كما تضمنها مقالي في حينه؟
وأتساءل الآن:
لماذا حين أفقت من غيبوبتي في تلك الليلة الجهنمية من ليالي التعذيب، وكان الألم ما زال طازجا، لم أفق أبكي؟ بل العكس، صحوت على فرح شفيف وكانت روحي تسبح في سماء من صفاء ونور كما جاء في كتاب "أحلام بالحرية"؟
إجابتي واضحة وجازمة على هذا التساؤل؛ ففي لحظة الصحو تلك، كانت تدرك روحي انتصارها. فأضاءتها فرحة الانتصار، وروعة المعادلة الجديدة التي ثبتُّها في تلك الليلة وهي: إرادتي المستندة إلى إرادة شعبي في الحرية والكرامة والتحرر من الظلم، هي التي انتصرت رغم أني كنت وحيدة ومعزولة ومحاصرة ويسقط على جسدي وروحي، كل جبروت انحطاطهم. تلك معادلة تم تثبيتها عمليا وفعليا في ساحة صراع قاس ومر. لم تكن المعادلة شعارا يتم التغني فيه. بل كانت فعلا محققا وتأسيسا لحقبة وتاريخ. كانت حقيقة تم تثبيتها ليس في وعيي فحسب، ولكن في وعي الطغاة كذلك.
بالانتصار على الألم وعلى جبروت الظلم، تلألأت الروح.
وعودة لما حصل في الدوحة، أدركه الآن بوضوح. رغم تحذيري من قَبْل خروجي من فلسطين المحاصرة، بأني لن أتحدث عن التعذيب. إلا أن مذيعة أثناء البرنامج، أصرت مرارا وتكرارا على نكء الجراح من أجل كفشة إعلامية بالحديث عن تعذيب غير تقليدي، وتكون محصلة الكفشة الإعلامية أن تغيب المناضلة وترسّخ صورة الضحية!
هذا إذن؛ أرادوني أن أكون الضحية تحت غطاء جهدهم في فضح أساليب العدو وجرائمه، رغم أن هذا العدو هو مدلل الفضائيات العربية!.
إذن كان البكاء في الدوحة، لأن روحي أدركت المطب في حينه، ولم يدركه وعيي، ففاض بكاؤها في ذلك الصباح رغم ظهوري من على أهم شاشة فضائية في الوطن العربي، رغم الغرفة الفاخرة والفندق الفاخر الذي كنت فيه.
يا آه؛ يعمل الإعلام العربي (أشدد؛ الإعلام العربي) ليثبت في الوعي بأن المناضل/ة ليس/ت إلا ضحية؟.أيوجد عنف أو تخريب أكثر من هذا؟ بجرة قلم، بصرخة بوق، بكفشة إعلامية، يشطب المناضل/ة وتثبت صورة الضحية! أي فعل خطير؟ أي وعي يصنّع؟ وأي سم يوضع في الدسم؟
وأتساءل، لماذا تصر وسائل الإعلام أن تتحدث عن التعذيب وأهواله كأنما لو أن واجبها تثبيت آثاره؟
أتذكر الآن، أول (وآخر) مؤتمر صحافي كان معي على أثر وصولي للأردن بعد إبعادي؛ تحدثت فيه عن صمودنا واشتقاقاتنا لمعادلات صمود ونضال باستمرار، ولم أتوقف عند التعذيب إلا لماما، وكانت مفاجأتي أن ما كتبته الصحف كان شيئا آخر، فقد حذف معظم ما قيل في الصمود والنضال، وتم تهويل التعذيب بما لم أقله!
نحن مناضلون ومناضلات فاعلون وفاعلات، ولسنا ضحايا.
كنت وحدي، وكان الأعداء يحيطونني ويشنّون حربهم القذرة على جسدي وروحي. كنت وحدي بالمطلق في ذلك الجو الرهيب. كنت غائبة عن كل العيون وعن كل وسائل الإعلام، ولم يكن هناك من فضائيات. لكن شعبي وأمتي كانتا في قلبي وروحي، أدفع عنهم الذل والهزيمة، وأصر على المقاومة والانتصار. فانتصرت روحي وانتصرت هذه الإرادة، لأنها إرادة شعبي وروحه الممتدة عبر التاريخ منذ آلاف السنين. انتصرت مقاومتي رغم هول الألم والعذاب ورغم جبروتهم. فتلألأت روحي، وصحت من غيبوبتها وهي تسبح في سماء من صفاء ونور.
أنا مناضلة ولست ضحية، لي تجربة اعتقال وتجربة إبعاد وحصار وملاحقات. وأنا مناضلة، ولست الأسيرة المحررة التي كثيرا ما يتم التعريف عليّ بهذه الصفة. ليتوقف صبغ المناضلين والمناضلات بصبغة اسمها (أسير/ة محرر/ة)، ذلك أنه يتم تجريد المناضل/ة من صفاته وتجاربه كلها، ويبقى له ثوب الأسر يلبسه طوال حياته، من خلال اشتقاقات لغوية، تعبر عن وعي يضيع منه الجوهر، ويتشبث بصفات الضحية.
وأتساءل؛
لماذا لا يكون واجب الإعلام أن يحفر عميقا وباستمرار ليستدل على منابع القوة في إرادة المناضلين واشتقاقاتهم في النضال، لنستطيع تحويل الحالة
الهشة والرخوة التي تعيشها الأمة، إلى حالة من القوة التي لا بد أن تنصر على ضعفها؟.
وأقول:
إن الإنسان ينتصر بالمعاناة التي تهز أعماق روحه، وجوهر وجوده، فتخلقه من جديد. بينما البرامج الفضائية، قد تحوله إلى فقاعة من السهل انفجارها.
|