New Page 1
الأمة وجلد ذاتها/ أحمد ابراهيم الحاج
03/06/2010 13:46:00
إن من أصعب الأمور على النفس البشرية هو أن يلجأ المرؤ الى جلد ذاته، لأن جلد الذات هو تعبير عن الفشل في إدارة ومواجهة الإنسان لأزماته الداخلية أو الخارجية التي يتعرض لها، وهو هروبٌ من المسئولية الى التعلل بمسببات أزماته، وهو كذلك هروب من الأزمة التي يتعرض لها الى حضن أزمة أخرى يغزلها من نسيج خياله كفتاة الأحلام بعيداً عن واقعه المبعثر، ويفتعلها أكذوبة، فيصدقها ويستظل بها من لهيب العجز والفشل، أو هي بمثابة شماعة يعلق عليها أسباب فشله، ليبريء نفسه من مسئولياته. وأزمة الأمة هي عبارة عن تكامل سالب وموبوء لأزمات مكوناتها من الأطياف السياسية والإجتماعية والإقتصادية. وإن تناحر وفرقة الأطياف التي تشكل نسيج الأمة يؤدي الى خلل في المعادلة التكاملية فيما بينها. وبالتالي فلن تصل الأمة الى حلول لأزماتها ما دامت أطيافها غير متكاملة ومتفاضلة في خدمة مصالحها وأهدافها.
وإن الأزمة الأخيرة التي تعرضت لها الأمة بمهاجمة اسرائيل لأسطول الحرية لفك الحصار عن غزة وردة الفعل العشوائية المنقسمة على نفسها، والعرس الإعلامي المتناقض المتخبط والذي نشهده اليوم على قنواتنا الإعلامية هو خير دليل على العجز والفشل في مواجهة الأزمات. ويتحمل مسئولية هذا الفشل والعجز جميع مكونات الأمة بتصنيفاتها وتقسيماتها ومحاورها على كل الصعد، من محور الإعتدال الى محور الممانعة ومن محور المقاومة الى محور المفاوضات كطريق وحيد للحل.
وما شاهددناه من رقص على جراح الأمة، وردح واتهامات بالتقصير والعجز وفرز ما بين مقاوم ومستسلم ما هو الاّ ترسيخ لهذا المفهوم، ألا وهو جلد الأمة لذاتها في تعبير عن عجزها وفشلها. وهنا فإن المسئولية موزعة بين الفرقاء بالتساوي لا يسلم منها كل فريق، أو محور أو طيف، أو حاكم أو محكوم. والقيادات هي افرازات من واقع الأمة، فالأمة هي التي تفرز قياداتها وهي التي تمنحها الديمومة والجلوس على كرسي الحكم الى ما لا نهاية، وسوء القيادة هو من سوء تصميم صناع مركباتها، وجلد القيادات هو جلد للذات. وجلد الذات هو سمة رئيسية للأزمة النفسية التي تعاني منها النفس البشرية. ولو اتعظت الأمة بتجارب غيرها من الشعوب لما وصلت الى ما هي عليه الآن من تخبط وتوهان عن الأهداف والمصالح العامة. وخير تجربة ماثلة أمامنا اليوم هي التجربة التركية الرائدة، ولو قارنا ما بينها وبين التجربة المصرية كنموذج عربي رائد، لأدركنا مدى الخلل في إحداث التوازن ما بين الأيدلوجية والواقع.
تركيا كغيرها من الأمم تحن الى زمن امبراطوريتها واستعادة تاريخها المشرق ولمعانه وبريقه لتنقل اشعاعه من الماضي الى الحاضر. وهو حلم مشروع لا أحد يستطيع انكارها حقها فيه. وها هي تختط مشوارها في صعود السلم درجة درجة وبحكمة وروية واتزان وتوازن. ومصر الحضارة القديمة من حقها أن تتطلع الى ماضيها بعين الواقع والحاضر كدرع واقٍ للأمة التي تتطلع لقيادتها. والتاريخ يشهد لها بأنها الفزاعة لبلاد الشام ولفلسطين بالذات منذ القدم. لأن فلسطين هي بوابة أمجادها على مر التاريخ وهي المفصل التي يربطها بأمتها العربية، وصمام الأمان لأمنها القومي، وهذا ما أجمع عليه زعماؤها منذ القدم على الرغم من اختلاف توجهاتهم وأفكارهم الاّ انهم تقاطعوا بهذا المفهوم.
عندما قامت ثورة 23 يوليو بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر، التفت الأمة المصرية والعربية حول هذه الثورة، وصارت انموذجاً يحتذى به في كل الدول العربية التي تعاني من الإستعمار. وفي بواكير حكمها حدث الصدام ما بينها وبين الحركات الأيدلوجية، الإسلامية منها والشيوعية والتي سبقت تنظيم الضباط الأحرار في نشأتها وتأسيسها وتجربتها النضالية، وكان من بين الضباط الأحرار نسبة لا يستهان بها ممن ينتمون الى الحركات الإسلامية آمنوا بالفكر المقرون مع الفعل. ولا يختلفون في أيدولوجيتهم مع التوجه العام للأمة، وهنا تصادمت الحركات الإسلامية تصادماً دموياً مع الثورة المصرية الرائدة، وتصادماً معنوياً مع توجهات الجماهير المصرية والعربية التي كانت تتطلع بعين الرضا والحب والشوق للثورة المصرية الفتية. وطرحت هذه الحركات نفسها بديلاً عن الضباط الأحرار. ودخلت في صدام مع السلطة الحاكمة كقوة احتكاك ضد تيار الأمة الهادر من المحيط الى الخليج. وأحدثت تشويشاً وإرباكاً على مسيرة الثورة مما أوقع الثورة في أخطاءٍ وممارسات ما زالت آثارها السلبية ممتدة الى اليوم على شكل صراع خفي ومستتر تارة ومعلن تارة أخرى. وبذلك أفقدت مصر دولة وشعباً توازنها واستقرارها وعطلت هذه الصدامات من قوة زخمها مما سهل من عملية إجهاضها من قبل الأعداء المتربصين بها قبل الولادة الطبيعية. ووضعت مصر اليوم في موقف سلبي محايد من قيادة الأمة كدولة طليعية بالمنطقة يشهد لها التاريخ.
وبالمقابل قامت في تركيا ثورة أتاتورك بأيدلوجية مضادة للتوجهات العامة للشعب في عملية فصل جراحية بين الدين والدولة، ولاقت من يلتف حولها من أطياف الشعب التركي وخاصة من الطيف العسكري ودعماً وزخماً من القوى المعادية للأيدلوجية الإسلامية. وأحدثت تياراً قوياً جارفاً ومضاداً أدركته بعقلانية التيارات الإسلامية في تركيا وتعايشت معه ونأت بنفسها على أن تكون قوة احتكاك وإرباك للمسيرة نحو التطور والتحديث من منطلق درء المفاسد أولى من جلب المنافع التي يتطلعون اليها بمنظورهم. وهل هنالك مفسدة أكثر من التناحر بين أطياف الأمة الواحدة في وطن واحد. وتحلت القوى الإسلامية بالصبر والحكمة والواقعية والثبات والعمل الدؤوب الى أن وصلت اليوم الى سدة الحكم بالتفاف شعبي حولها عجز العسكر عن معارضته والوقوف في وجهه. ولما وصلت للحكم لم تطرح نفسها بديلاً عن القوى العلمانية، إنما طرحت نفسها شريكاً لها في خدمة الوطن والمصالح الوطنية وبذلك وضعت تركيا كدولة طليعية رائدة بالمنطقة.
هذا ما لم تعيه التنظيمات الإسلامية العربية ولم تستوعبه بعد، وما زالت تطرح نفسها بديلاً عن النظم الحاكمة التي تستولي على كل المقاليد متمسكة بالسلطة بأسنانها وأظافرها نظراً للعلاقة الصراعية بينها وبين التيارات الإسلامية ، خوفاً من إقصائها إن وصلت القوى الإسلامية للحكم. وهذا ما حدث في سوريا حيث قام النظام باجتثاث الحركات الإسلامية وخلعها من جذورها وإقصائها نهائياً من الساحة السورية السياسية.وما حدث كذلك في الجزائر التي تمزقت وتأخرت بعد أن كانت مرشحة لأن تكون دولة قوية نامية باضطراد وثابتة ومستقرة، وما يحدث باليمن، .......الخ. وتكرر في فلسطين فيما نشهده اليوم من تنافر وتقاذف واتهامات متبادلة بين الحركات الإسلامية والأطياف السياسية الأخرى. ففتح قامت على أكتاف رجالٍ من انتماءات اسلامية، وها هي اليوم يصنفها الإسلاميون بالعدو الذي يجب إقصاءه من الساحة. وتتناغم الحركات الشيوعية الأيدلوجية متقلبة في مواقفها المتأرجحة بين الإسلاميين وغير الإسلاميين من الوطنيين. فنشأت تحالفات سياسية غريبة وشاذة في منطقتنا العربية ، لا يجمعها الفكر ولا الأيدلوجية ولا التوجهات السياسية. فأصبح الشيوعي الملحد حليفاً للإسلامي المتشدد، والعلماني حليف للأيدلوجي المتدين. والقاسم المشترك بينهم هو المصالح الخاصة الضيقة في حين أن الجميع يشترك بالمصلحة الوطنية الجغرافية العامة.
لا يمكن أن نطلق على المفاوض ونصفه بأنه خائن وعميل، ولا يمكن أن نصدق شعارات المقاومة بعيداً عن الفعل المقاوم الجاد وغير المسيس. للمقاومة وجهان، وجه سياسي مقبول عالمياً يحاور العالم ويحفظ استمرارية الحياة للناس، ووجه عملي بفعل مقاوم. وكلاهما وجهان لعملة وطنية واحدة وموحدة. المقاوم يخدم السياسي ويساعده في الوصول الى الهدف، والسياسي في خدمة المقاوم بحمايته والدفاع عنه. وهذا ما يغيب عن الساحة الفلسطينية اليوم. وبالتالي أدى الى عقم التزاوج بينهما والتفكير بالطلاق البائن. حيث يبدو الصراع اليوم على من سيكون السياسي المفاوض وقد أسقط الطرفان من أجدنتيهما موضوع المقاومة الممنهجة المرشدة والعاملة للمصلحة الوطنية العليا.
2/6/2010م
|