New Page 1
شعب وشاعر: صوت محمود درويش / ابتسام بركات
10/08/2010 21:42:00
كولومبيا، ميزوري، الولايات المتحدة الامريكية – بعد ظهر يوم السبت التاسع من آب/أغسطس، كنت أستعد لإلقاء محاضرة عن شجر الزيتون الفلسطيني أمام تجمع من المؤلفين والمفكرين في كلية "كي ستون" في ولاية بنسلفانيا. لتقديم عنوان ملهم للمحاضرة، قسمت كلمة زيتون بالإنجليزية (أوليفOlive /) إلى شطرين لتصبح: أو – ليف (O’ live!) وكي يصبح معناها فَلِنَحيا". إلا أن الموت اعترضني.
قبل مغادرة غرفتي بقليل لإلقاء المحاضرة، رنَّ جرس الهاتف. كان المتصل صديقي الموسيقي سائد محسن، يتحدث من سان فرانسيسكو. كان صوته عميقاً مثل وادٍ، بالكاد يمكن سماعه. "هل سمعتِ الخبر؟" سألني. حذرني متابعا: "إنه خبر صعب"، ثم اباح: "لقد توفي محمود درويش اليوم".
انفجر قلبي بالبكاء. اعتصره ألم جراح جميع الخسائر الفلسطينية التي تتراكم، والتي تقفز إلى الذاكرة مع كل خسارة جديدة، تلك الخسائر التي لم تضع كليَّة لان درويش اخذها كي تعيش في شعره.
"أنا من هناك، ولي ذكريات
كتب درويش ما لا يقل عن ثلاثين كتاباً من الشعر والنثر، تُرجِمَت إلى عشرين لغة على الأقل.
ولد محمود درويش عام 1941، ونشر كتابه الأول في الشعر قبل أن يبلغ العشرين من عمره. ألهم الشعراء الفلسطينيين والعرب لمدة تزيد على أربعة عقود، فأشاروا إليه وقلّدوه وتجادلوا حول شعره.
ننتمي أنا وصديقي سائد إلى جيل م (Generation M) وهي هوية اخترعناها قبل بضع سنوات. نَشَأتُ انا في الضفة الغربية تحت الاحتلال الإسرائيلي، أما سائد فهو مواطن إسرائيلي. كلانا فلسطيني، وكانت لكل منا حياته المختلفة. ولكننا اكتشفنا أننا نشترك في عالم داخلنا له نفس خصائص الحرمان والجوع للحرية ولعالم أجمل. وأشبعنا جوعنا بشعر محمود درويش، لهذا اخترنا لانفسنا لقب جيل م.
في غياب الوطن، حوّل درويش اللغة إلى خيمة واسعة، لنا ولكل من يحتاج وطناً. حوّل الحنين إلى مكان لقاء اذ يقابل الفلسطينيون أمهاتهم من خلال أمه، فقد اعطانا درويش أماً توحدنا في قصيدة تتسع لنا جميعا:
أحن إلى خبز أمي
وقهوة أمي
ولمسة أمي
انتقى كلمة "أحن" المشبعة بالرقة والتي تثير عاصفةً من الاحاسيس معاً، بما فيها بريق لهب الشوق الذي لا يطيق المزيد من الانتظار.
في العام 1982 قال درويش كلمته الباقية: "لست وحدك" لعرفات عندما نُفِيَ الفلسطينيين خارج بيروت. قالها ايضا لكل من هو على هذه الارض مجبر على العيش المتواصل في المنافي.
أما سؤاله "أين تطير العصافير بعد السماء الأخير؟" فقد جعلني اتخيل عدداً لا نهاية له من السماوات الجديدة، مرصوصة فوق بعضها بعضاً مثل فراش يتسع لان ينام عليها كل اللاجئين في العالم.
تعني كلمة درويش الانسان الروحاني البسيط الهائم. وهذا تماما ما كان درويش بالنسبة لنا. تنقَّل بين السماوات وعبر الحدود، بين فلسطين وإسرائيل وروسيا وفرنسا والأردن ولبنان ومصر وغيرها من الدول. واينما ذهب وحيثما حل، كانت الكلمات في يديه فانوساً سحرياً ينام فيه جني اللغة العربية. أطلق درويش سراح هذا الجني. كان يعرف تماما قلب الفلسطينيين. يعرف أن لهم رغبة واحدة يطلبونها من الجنّي. حنين واحد يطلبونه في لغتهم: "الوطن".
لدرويش، كما يُرى من شعره ولغته، رؤية وعاطفة عارمة لإحقاق العدل. ساعد في كتابة خطاب عرفات الشهير الذي القاه امام الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 1974، وفيه ناشد عرفات العالم، مكرراً عبارته ثلاث مرات: "لا تُسقِطوا الغصن الأخضر من يدي".
قام درويش في العام 1988 بصياغة إعلان الاستقلال الوطني الفلسطيني الذي قال فيه أن السلام يمكن تحقيقه من خلال حل الدولتين - دولة فلسطينية وأخرى يهودية. كتب أن السلام ممكن، "على أرض الحب والسلام".
أكد، بإلهام من رؤيته للتسوية، أن فلسطين سوف تكون مجتمعاً يزدهر بحقوق الإنسان والمساواة والديمقراطية والمسؤولية الاجتماعية والاحترام الكامل للجميع، وخاصة المرأة ومعتنقي الديانات على تباينها.
استقبله الجمهور في آخر أمسية شعرية له في رام الله في تموز/يوليو 2008 وكأنهم يتوقعون أنها ستكون المرة الأخيرة التي يرونه فيها. وقفوا مثل شجرة صنوبر أنيقة باسقة، من الاشجار المزروعة في شعره. "فكر بغيرك" قال لهم.
عندما تعد فطورك فكر بغيرك. لا تنس قوت الحمام
وأنت تقود حروبك فكر بغيرك. لا تنس من يطلبون السلام
وأنت تسدد فاتورة الماء فكر بغيرك. من يرضعون الغمام
وأنت تعود لبيتك فكر بغيرك. لا تنس شعب الخيام
وأنت تنام وتحصي الكواكب فكر بغيرك. ثمة من لم يجد حيزاً للمنام
وأنت تحرر نفسك بالاستعارات فكر بغيرك. من فقدوا حقهم في الكلام
وأنت تفكر بالآخرين البعيدين فكر بنفسك قل ليتني شمعة في الظلام.
اعترَفَ درويش لصحيفة الحياة في حديث عن الموت قائلا "لم اعد اخشاه كما كنت من قبل. لكنني اخشى موت قدرتي على الكتابة وعلى تذوق الحياة."
وكتب عن صراعه المتواصل كي يدرك غاية فنه: "كنت أعتقد أن بإمكان الشعر أن يغير كل شيء، أن بإمكانه تغيير التاريخ وإضفاء الإنسانية ... الان، أعتقد أن الشعر لا يغير إلا الشاعر".
عزيزي محمود درويش: شعرك غيَّرَني.
###
18 أغسطس/آب 2008
* ابتسام بركات مؤلفة كتاب Tasting the Sky: A Palestinian Childhood "تَلَمُّس السَّماء: طفولة فلسطينية" 2007 http://us.macmillan.com/tastingthesky)). قامت بتدريس أخلاقيات اللغة بكلية ستيفنز، وهي مؤَسِّسَة حلقات "أكتب حياتك" الابداعية. يمكن الإتصال بابتسام بركات من خلال موقعها على الإنترنت www.ibtisambarakat.com. كتب هذا المقال خصيصاً لخدمة Common Ground الإخبارية، ويمكن الحصول عليه من الموقع www.commongroundnews.org
|