New Page 1
أنانية الجغرافية وانعكاسها على التاريخ/أحمد ابراهيم الحاج
21/09/2010 09:46:00
في معادلة هذا الكون الجغرافية هي الرقم الثابت والتاريخ هو الرقم المتغير الذي يتغير من أجل تحقيق التوازن بين المخلوقات في هذه الحياة الدنيا. فالجغرافية كالمادة ثابتة الكم ، ربما يتغير شكل المادة من صلبة الى سائلة الى غازية وربما تتحول الى طاقة لكنها تبقى بمجملها ثابتة القيمة. والجغرافية كذلك تتغير في شكلها بفعل العوامل الجوية وأسباب التعرية وبفعل فاعل هو الإنسان وباقي المخلوقات الحية. والتغير في الجغرافية يمكن أن يرقى ويصير الى الأحسن أو يتخلف ويصير الى الأسوأ، ويعتمد ذلك على الإنسان الذي يتحكم بمسار التاريخ على هذه الأرض.
أما التاريخ فقد درجت العادة على فهمه أنه وحيٌ من الماضي، وهذا بالقطع فهم خاطيء لدى الناس، فالتاريخ كالنهر الجاري، ينبع من بدء الخليقة ويجري على مدار الساعة والكون ويصب في نهاية الحياة الدنيا ولا يتوقف عن الجريان. فالتاريخ ماضٍ وحاضر ومستقيل. أما الجغرافية فهي حاضر وواقع ملموس ما دام الإنسان يعمر هذا الكون ويستمر الى يوم الدين. وما يحرك التاريخ هو الإنسان مستخدماً الأدوات التي تدفع حركة التاريخ قدماً للأمام أو تشده دبراً الى الخلف، أو توقفه مؤقتاً عن الجريان. وأدوات الإنسان التي يستخدمها في حركة التاريخ هي مثلث (الإيمان والعلم والعمل). وهي متدرجة في أولويتها كما سار على نهجها وبرنامجها سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. حيث كفر بما يعبده الناس من أصنام، واعتزل الناس بالغار في بطن الجبل يتفكر في هذا الخلق، وعمر قلبه هاجس الإيمان بواحد أحد، وهذا الهاجس بالإيمان تحقق واقعاً مع نزول جبريل عليه السلام ليخبره اليقين ويوصيه بالعلم (إقرأ باسم ربك الذي خلق) ويأمره بالعمل لنشر الرسالة وذلك على لسان خالق هذا الكون سبحانه وتعالى. والنصر التام والكامل تحقق على يديه فقط على مدار التاريخ بهذا المثلث المتكامل والمتطابق الأضلاع (الإيمان أولاً كقاعدة للمثلث والعلم والعمل ضلعاه الآخران ثانياً وثالثاً).
ولكي تعم الفائدة على الأرض لخدمة الإنسان، فقد فتح الله بابي العلم والعمل مشرعين لكل مخلوقاته من الجن والإنس ليتسابقا في تسخير هذا الكون لخدمة الإنسان الذي كرمه الله وفضله على كل مخلوقاته. حيث قال تعالى في كتابه العزيز"يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا الى أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون الاّ بسلطان". أما الإيمان فهي علاقة روحانية بين الإنسان وخاالقه لا ترى بالعين المجردة ولا تسمع بالأذن، ولا يعلم بها الاّ الله . ويخضع فيها الإنسان الى حساب يوم الدين. فيتكشف أمر المنافق من المؤمن الحق. ويبقى الناس على وجه الأرض في سباق على ميادين العلم والعمل. ومن ثقلت موازينه في هذين الضلعين فسوف تكون له الغلبة والسلطة والحكم على هذه الأرض. ومن خفت موازينه في هذين الضلعين فسوف يهوي بمقدار وزنه كالريشة التي تتقاذفها الرياح. ودليل ذلك أن الله لم يهب لأي نبي من أنبيائه أو رسول من رسله النصر دون الإمساك بناصية العلم بعقله ومعول العمل الجاد الدؤوب بيديه. وكثيرة هي الآيات التي تدعو الى التفكر والعمل والسعي في مناكب الأرض. أما الإيمان فهو العامل الذي يتحكم في الفترة الزمنية التي يدوم بها السلطان والحكم، فكلما كان ايمان الأمة المسيطرة بأدوات العلم والعمل راسخاً وقوياً كلما استمرت سيطرتها على مقاليد الحكم بميزان الإيمان بالله وأخلاقه ومبادئه وفحوى رسالته الخاتمة. لذلك كانت الإمبراطورية الإسلامية أكثر الإمبراطوريات بقاء وعمراً.
الجغرافية بمثابة الجسد والتاريخ بمثابة الروح، فالجغرافية ستموت كما يموت جسد الإنسان يوم القارعة عندما تفارقه الروح، مصداقاً لقوله تعالى " وتكون الجبال كالعهن المنفوش" والتاريخ كالروح سيصعد الى عالم البرزخ ينتظر البعث والحساب في يوم الدين تماماً كما يخضع الإنسان بتاريخه على الأرض للحساب يوم القيامة.
إذن فالجغرافية والتاريخ للأمة هما وجهان لعملة تلك الأمة التي تعبر عن قيمتها وتأثيرها وثقلها، فإن كانتا أي الجغرافية والتاريخ في حالة خصام وعداء وشد وجذب ومد وجزر فسوف يتسبب هذا الصراع بينهما في انهيار عملة هذه الأمة وسقوطها. وبالتالي فقدان الأمة لوزنها وثقلها نظراً للشد العنيف والقوي بين وجهي عملتها. والعلاقة بين حال الأمة ما بين قوة وضعف تتناسب طردياً مع مقدار الخصام بين تاريخها وجغرافيتها. وهذا ما تعيشه أمتنا العربية اليوم.
ويتلخص حال الأمة اليوم في أنانية الجغرافية وجورها وظلمها للتاريخ وعدم توافقها معه وعنادها له. حيث انقسمت خلية الجغرافية الواحدة للأمة الأصل ذات التاريخ المشرق انقساماً سرطانياً بفعل عوامل خارجية وداخلية، وتكاثرت تكاثراً تآكلياً مدمراً للتاريخ ومسيئاً له. وكل خلية سرطانية ناتجة عن هذا الإنقسام تتصرف بأنانية سالبة حيث تفضل مصالحها الجغرافية الضيقة على شرف التاريخ والجغرافية للخلية الأصل وكأنها فاقدة للصفات الوراثية عن الخلية الأم. وهذا ما زاد في ضعفها وتقهقرها وتراجعها وهوان حالها. فلم تعد قادرة على حل مشاكلها بمواردها وقواها الذاتية المؤثرة المبعثرة على تعدادها الجغرافي قليل البركة. ونشأت لكل خلية سرطانية مشاكلها الذاتية فأصبحت الأمة صيداً سهلاً لكل متربص بها وطامع في خيراتها. ونهشتها وأدمتها وحوش الغاب.
وخير مثال تطبيقي لهذه الحالة المزرية هو تعامل الأمة مع قضيتها المركزية والأساسية وهي قضية فلسطين. فقد فشلت الأمة منذ نشوء المشكلة وعلى مدى قرن من الزمان في معالجتها وحلها حلاً مشرفاً وعادلاً. وفقدت من أبنائها الكثير من الخيرين دون تحصيل الثمن لدماء شهدائها الأبرار الذين قضوا في أتون الصراع. وذلك نتيجة لسوء ادارة الصراع وفقدان الوعي وقصر النظر وعدم الإجماع والإنقسام حول طريقة العلاج نظراً لأنانية الجغرافية على حساب التاريخ وتفضيل المصلحة الجغرافية السرطانية على المصلحة العامة.
إذ ينقسم العالم العربي بجغرافيته السرطانية اليوم حيال القضية الفلسطينية الى معسكرين رئيسيين، وكل معسكر ينقسم الى عدة معسكرات وأحلاف متضادة لا تقيم وزناً للجوار والأخوة والعشرة وعوامل اللحمة المشتركة من عقيدة ولغة وتاريخ، ونتيجة لذلك فقد ألقى هذا الإنقسام بظلاله على الفلسطينيين وشتت قواهم في مقاومة الإحتلال. وفوق ذلك تسود حالة من النفاق على إعلام كل جغرافية سرطانية حيث تتغنى وسائلها الإعلامية بالأمة ووحدتها وتاريخها والحرص على قضاياها وتوهمك بأنها الحاملة للواء وحدة الأمة واستعادة أمجادها وبعث النور في تاريخها من جديد.
المعسكر الأول "معسكر الحل السياسي بالمفاوضات كخيار استراتيجي واسقاط الخيار العسكري الى أجل غير معلوم"وتتزعمه القوة العربية الرئيسية والفاعلة في الصراع. مستأنسة ومستغيثة بالنوايا الأمريكية والغربية القاصرة على فرض الحل العادل والمشرف. وحقيقة الأمر فهذا المعسكر يملك أدوات وأوراق الضغط على المجتمع الدولي لفرض الحل العادل، ولكنه لا يستطيع استخدامها وتوظيفها لما يعانيه كل طرف من هذا المعسكر من هشاشة في العظام ومشاكل جغرافية وسياسية واجتماعية داخلية وخارجية وتحديات وتهديدات. ونتيجة للفعل المضاد من قوى الإحتكاك المعاكسة الذي يقوم به معسكر الممانعة من أجل المماحكة والتعطيل. لذلك فإن هذا المعسكر يطرح خياراً دون التحضير والإستعداد والجرأة الجادة في طرح أوراقه وأدواته الفاعلة على طاولة المفاوضات. مثله كمثل الساعي الى الهيجاء بدون سلاح ومن هنا لا نجد طاقة أو ثقباً من التفاؤل ننظر منهما لنستطلع آفاق الحل المشرف للقضية على وقع هذا الواقع المتشرذم الأليم.
المعسكر الثاني "معسكر الممانعة واعتماد المقاومة كطريق وحيد لفرض مفاوضات بشروط أفضل للحل" وهذا المعسكر تتزعمه دولة من دول الطوق ومن حولها دول عربية بعيدة عن مركز الصراع متمسكة بعذريتها تجاه القضبة الفلسطينية وكذلك منظمات وحركات فلسطينية خارج فلسطين وداخلها تعتمد في تمويلها على قوىً اقليمية تحاول استعادة دورها بالمنطقة وأمجادها التاريخية كإمبراطورية بائدة تستخدم هذا المعسكر كمخلب القط مثيرة للفتن في داخل الأمة الواحدة من أجل فرض هيمنتها على الأمة العربية بتمزيقها وزيادة تكاثرها السرطاني للإستئثار بمنافع شخصية لا تعني الأمة في شيء. والدولة الرئيسية في هذا المعسكر ومن لف لفها لا تتورع في إجراء المفاوضات إن اتيحت لها الفرصة المواتية لاستعادة حقوقها المغتصبة التي لا تقوى على انتزاعها بالقوة. وتدعم الممانعين الآخرين في هذا المعسكر لاستخدامهم كورقة من أجل ألاّ تخرج من المولد بلا حمص. لذلك فهي غير جادة ومبادرة في المقاومة بعكس ما نسمعه من إعلامها. وهذا المعسكر منقسم على نفسه ويعيش تحالفات مؤقتة وتكتيكية سياسية شاذة وبعيدة عن الإستراتيجية وتتقاطع مصالح اطرافه في هذا النهج المعلن بالإعلام والمجرد من التطبيق. ولا يتورع أطراف هذا المعسكر من إفشال أية محاولة للوصول الى تسوية عن طريق المعسكر الأول.
كلا الطريقين يمكن أن يوصلا للحل بشرط اجماع الأمة على استراتيجية واحدة وتوظيف إمكاناتها ومقدراتها لدعم القرار العربي الموحد وتوجيه كل الجهود نحو الهدف المجمع عليه. فإن اجمعت الأمة على طريق المفاوضات ووظفت طاقاتها وإمكاناتها لخوض هذا الطريق فستصل الى ما تصبو اليه وتستعيد جزءاً كبيراً من حقوقها وأراضيها ومقدساتها وهيبتها الى أن يأذن الله بعودة كامل الحقوق المسلوبة والأراضي المغتصبة.
وإن اختارت الأمة وأجمعت على طريق المقاومة ووظفت امكاناتها وطاقاتها لدعم هذا الطريق فسيوصل هذا النهج كذلك الى مفاوضات تنصف جزئياً في نتيجتها ومحصلتها الحق العربي الى أن يأذن الله ويستعاد كلياً.
على وقع هذا الحال العربي والفلسطيني يحق لنا أن نتشاءم من نجاح ايّ من المعسكرين وعدم نجاعة أيّ من الطريقين بالرغم من تمنياتنا في نجاح أي منهما وايصالنا للهدف.
إذن فأنانية الجغرافية العربية السرطانية الضعيفة المتشرذمة هي التي تكمن وراء الفشل في حل قضايا الأمة وعلى رأسها القضية الفلسطينية. لأنها بهذا الحال لا تمسك بأي من ضلعي المثلث اللذان يجلبان القوة وهما العلم والعمل. ونتيجة لذلك فإن قاعدة الإيمان لدى الأمة غير ثابتة بفعل غياب الضلعين الآخرين الذيْن يمسكان بها وهما (العلم والعمل). وما لم يكتمل مثلث الأمة بضلعيه الآخرين لن تستعيد الماضي المشرق من تاريخها.
أتى هذا المقال من جريدة الصباح - صحيفة فلسطينية سياسية شاملة
www.alsbah.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
www.alsbah.net/modules.php?name=News&file=article&sid=28806
|