New Page 1
جمر المحطات في الطريق إلى "نفحة" الصحراوي /بسام الكعبي
02/11/2010 11:12:00
1
وقف شقيقي الأسير عاصم للحظات الأولى التي خطفت بريق الزيارة، صامتا بكبرياء خلف الزجاج البارد، بين جدران قاعة الزيارة المستطيلة الواسعة في سجن نفحة الإسرائيلي الصحراوي جنوب فلسطين المحتلة. تبادلتُ معه بهدوء تأمل الملامح التي غابت عن البصر عشر سنوات منذ أن أصبح طريدا لقوات الاحتلال، وقد انتظرتُ سنوات من أجل هذه اللحظة المرتقبة، لأرى بعيني درجة تماسكه وأشهدُ بالبصر المجرد مستوى قامته ترتفع فوق عنق سجانه وسقف معتقله.
بدا الفتى اليافع ناضجا، فارع الطول، تبرق نظرته بأمل يطل من خلف ابتسامة واثقة، يرافقها فيض من الاعتذار الصامت، عن شقاء رحلتي الطويلة للقاء زمني خاطف، يشعل بريق الأمل في تحطيم قيد السجان. سابق الحوار ومضات البرق من أجل أن يوقد نار الحزن على الأسود المقيدة قسرا بين جدران تنهشها الكاميرات، والأسلاك المكهربة، وكلاب حراسة لا ينقطع نباحها ليل نهار حول مبان يتيمة معزولة في صحراء نائية. همستُ له في سري أنك تستحق أضعاف هذا الشقاء المبرمج في خطط "دولة سيغر" المسكونة بشبح الإغلاق المزمن تحت ذرائع "أمنية" دون حدود. لولا هذه المكانة المرموقة لرفاق كفاحك في سجون الاحتلال، لما تمكنتْ الأمهاتُ والآباء والأبناء والشقيقات من تحمل جَلَد هذه الزيارات القاتلة، التي يصيغ قواعدها جلاد محترف يرقص فوق "هولوكوست" الضحية، ووهم استثنائها في مسار المذبحة البشرية المتواصلة على هذا الكوكب الهش..كيف لمع الشقاء نارا فوق عقرب الدقائق طوال ست عشرة ساعة من يومي الطويل لخطف زيارة لا تزيد عن نصف ساعة، يغتال وهجها كل ثانية الزجاج البارد الفاصل بين المعتقل والأسير؟ كيف يتمكن الآباء والأمهات والشقيقات من اقتطاع هذا الوقت القاتل من عمرهم المنهك مع الموعد المتكرر لكل زيارة سجن؟
2
أنهيتُ مساء السبت زيارات اليوم الثالث لعيد الفطر في ضاحية المساكن الشعبية وهامش مخيم عسكر، لزيارة بيت شقيقي ومنزل شقيقتي، وقضيتُ وقتا بمنزل عمي "أبو غسان" في ضاحية روجيب المجاورة لبلاطة، وقد عاد من الأردن لقضاء إجازة العيد بين أفراد عائلته، لكنه لم يتمكن من زيارة نجليه الأسيرين علام المحكوم بتسعة مؤبدات وهشام بثلاثة مؤبدات. يقبع الشقيقان الأسيران في سجني شطة وجلبوع، فيما يقضي حفيده جواد سعيد محكوميته البالغة عشر سنوات في سجن "جلبوع" رغم قسوة إصابته البالغة برصاص جنود الاحتلال منذ سنوات. عدتُ بصداع نصفي إلى البيت لاستراحة ليلية قصيرة قبل التوجه فجرا لحافلات الصليب الأحمر في نابلس. كانت والدتي بمشاركة شقيقتي دنيا تعد وجبة الرحلة الطويلة غير عابئة برجائي تجاوز عبء التحضير، وتوفير تعب حمل "الزوادة" لوقت طويل، في غياب شغف تناول كسرة خبز. لم تستمع لندائي وواصلت مهمة الأمومة بتحضير وجبة "طريق الآلام":"أنت يا بُني لا تدرك حتى الآن شقاء خمس عشرة ساعة من السفر المرير، ولا بد من وجبة طعام تقتل صراخ الأمعاء".
استسلمتُ لقرارها القسري، هي أدرى بمعاناة السفر الطويل على طرق السجون: طاردت نجلها أحمد منذ أيار 1980 حتى أيار 1992 بدءا من سجن نابلس القديم مرورا بمعتقلات جنيد وجنين وعسقلان والرملة، ثم معتقلي مجدو والنقب في اعتقاله الثاني الذي قضى فيه ثلاث سنوات بعد فترة على الانتهاء من محكوميته الأولى بالسجن الفعلي لمدة اثني عشر عاما. تابعتْ نجلها عصام من معتقل الفارعة العسكري إلى النقب، وباسم من معتقل رام الله إلى نابلس القديم ثم سجني جنيد وجنين. حصلتْ على استراحة "المحارب" وغابت عن بوابات سجون الاحتلال لفترة زمنية قصيرة، قبل أن يتعرض آخر العنقود عاصم لمطاردة جنود الاحتلال مع اندلاع انتفاضة القدس أواخر أيلول العام 2000، ثم اعتقاله في كمين عسكري محكم أواخر آذار العام 2003، والحكم عليه بالسجن الفعلي ثمانية عشر عاما، بتهمة المواجهة المسلحة مع قوات الاحتلال، وعاشت أياما طويلة ينهشها القلق عليه أثناء اجتياح قوات الاحتلال لمدينة نابلس في ربيع العام 2002، وقد تمكن بأعجوبة من الإفلات من قبضة قوات الاحتلال.. إذا هي أدرى مني بقوت الطريق، لأدعها تحضره كيفما تشاء، عسى أن يخفف انشغالها به قليلا من شعورها بالعجز الصحي الذي حال منذ ثلاثة أشهر دون زيارة أحب الأبناء إلى قلبها.
لم تعدْ طاقتها البدنية كما كانت، ركضتْ خلف أنجالها الخمسة ثلاثين عاما من سجن إلى آخر، ثم استقرتْ منذ شهرين فوق سرير في المستشفى الوطني بمدينة نابلس. تعب قلبها كثيرا وكانت قلقة على نجلها عاصم المقيد في صحراء النقب القاحلة، حاولتْ جهدها أن تقنعه بزيارته للمرة الأخيرة على حمالة الصليب الأحمر عندما شعرت أنها توشك على الغياب، لكن عاصم رفض بشدة:"لا أستطيع تخيل عزيمتك تتهاوى على مرآى السجان، ولن أغفر لنفسي طول العمر رؤيتك ضعيفة. دعي صورتك القوية وتماسك إرادتك تحتل ذاكرتي متمنيا لك الشفاء".
تجاوزتْ محنتها الصحية بإسناد أفراد عائلتها، حملوها ليل نهار من مشفى حكومي إلى عيادة للرحمة، لا تعرف الرحمة، وتلمع أعلى أقسامها الطبية المتعددة دائرة المحاسبة. سددوا دون شكوى التكاليف الباهظة للأدوية، والتحاليل الطبية، والصور المقطعية من قوت أسرهم الفقيرة دون تذمر، ودفعوا بانتظام للطبيب "المجتهد" ثمن كشفيته وأدويته، خاصة وأنها وثقت على الدوام بقدرته على تشخيص مرضها منذ سنوات طويلة، لكنه فقد منذ وقت بعيد قدرته على تشخيص حالته، بتغييب تعاطفه مع المحتاجين من المرضى..ربما يحتاج بعض أطباء فلسطين في المخيمات والقرى وأحياء الصفيح في المدن، إلى شحذ ضمائرهم المهنية مجددا، لعل ضمائرهم المقعدة تتأمل مشهد الحصار القاتل الذي يفتك بالفقراء، ربما يساعد التأمل قليلا في استجلاب "التعاطف الطبقي" تجنبا لثراء يتراكم من وجع اللاجئين وقهر يوميات حياتهم.
انتصف الليل، ولا زالت والدتي تدقق في التفاصيل الصغيرة لطقوس الزيارة: أين تصريح جيش الاحتلال؟ أخشى أن يمنعك يا بُني حاجز الطيبة العسكري من المرور، أخشى أن تمنعك إدارة سجن نفحة من بلوغ زجاج الزيارة. لم يتوقف ذعرها من طارئ تعتقد أنها لم تحسب له جيدا. ربما يكون هلعها من فشل الزيارة مبررا، وهي التي شاهدت مئات الحكايات على حواجز الاحتلال وبوابات السجون، وقد كان آخرها سحب تصريح زيارة كريمتها وفاء على معبر الطيبة العسكري دون ذريعة، ومنعها من إكمال مشوارها إلى نفحة في أقصى الجنوب. ربما يكون خوفها مبررا وهي التي انتظرت بصمت سبع سنوات لأحصل على تصريح زيارة للمعتقل.
قدمتْ منذ سنوات إلى مسؤول مكتب الصليب الأحمر في نابلس صورة لبطاقتي الشخصية، على أمل الحصول على تصريح زيارة ولو لمرة واحدة، يكفلها "الحق الإنساني" للمعتقل "الأمني". مع كل وجبة تصاريح جديدة لزيارة سجون الاحتلال، كانت تبحث عن اسمي في القائمة، وعندما لا تجده تتعلق بأمل الأسماء الجديدة القادمة. هل تستعيد تجربتها في الإضراب عن الطعام لضمان ضغط المؤسسات الحقوقية بتوفير التصريح؟ أعلنتْ الإضراب منتصف أيار العام 1980 عندما أبعدها وزير الحرب الأسبق شارون وأفراد أسرتها إلى مخيم عقبة جبر قرب أريحا، تمهيدا لإبعاد قسري إلى الأردن، بذريعة نشاط نجلها أحمد بالمقاومة ضد جنود الاحتلال، ونجحتْ عقب إضرابها بالعودة إلى بيتها في المخيم، تحمل على يديها نجلها الصغير عاصم الذي لم يتجاوز الثالثة من عمره، وقد عاد من منفى المخيم حاملا لقبه الجديد "أبو جبر". شاركتْ على مدار سنوات في إضرابات التضامن مع الأسرى، لكن سلاح الإضراب الذي خبرته جيدا، استخدمته داخليا للضغط على جميع أبنائها لتوفير مبلغ من المال يساعد نجلها أحمد لاستكمال ثمن شراء بيت متواضع لعائلته في المخيم، وقد نجحت بتحقيق غايتها منذ سنتين، وأبدتْ سعادتها في انجازها.
أخيرا وبعد طول انتظار، تسلمتْ ردا عبر مكتب الصليب الأحمر في نابلس، بأن سلطات الاحتلال تحتاج لوثيقة تثبت طبيعة العلاقة التي تربطني بشقيقي عاصم. انفجرتْ بالضحك: "هل أقسم لهم أن جوف بطني المنهك الآن من المرض، استقر فيه قبل خمسين عاما حَملي الأول، لأشهد بكري بسام، ثم يتوالى بين نسيج الجوف نفسه ستة من أحباء قلبي واحدا تلو الآخر، قبل الاحتفال منذ ثلاثين عاما بالحمل الثامن والأخير، لأشهد نبض عاصم يدق على وقع قلبي، وفوق صدري، ليرافقني نورا لبصري على مدار اثنين وعشرين عاما، عاشها على ذراعي قبل التحاقه بأذرع الخلايا اليسارية للمقاومة المسلحة تلبية لنداء الوطن المحتل.. لكن لا بأس قد تفي وثيقة حكومية بالغرض وتثبت صلة الدم بين الشقيقين".
أرسلْ الجانب الرسمي الفلسطيني مذكرة للطرف الإسرائيلي، تثبت طبيعة العلاقة مع شقيقي وفق السجلات المدنية لمواطني الضفة المحتلة، وتبين أن طلب سلطات الاحتلال لم يكن استثنائيا، بل قاعدة تلجأ لها دوما بمطالبة أقرباء الدرجة الأولى للأسرى لإثبات صلة الدم!؟ وتندرج هذه الممارسة في إطار سياسة التسويف وتأخير إصدار التصاريح لأطول فترة ممكنة. لم تستسلم والدتي في متابعة الأمر، ونجحتْ أخيرا في تسلم "التصريح" منتصف شهر رمضان، وحجزتْ تذكرتي في حافلات الصليب الأحمر للمغادرة في نهاية الأيام الثلاثة لعيد الفطر تزامنا مع موعد الزيارة المقررة للسجن.
3
لم تذقْ والدتي طعم النوم طوال ما تبقى من ليل قصير، راقبتْ تقلبي في الفراش على وقع أصوات الغناء المرتفع لجهاز "الراديو" من بيت الجيران، وصراخ رب الأسرة الذي لم ينقطع على أولاده طوال ساعات الليل. كلما بذلتُ جهدا للنوم كلما اشتد تحليق النعاس طائرا نحو شباك الجيران المتفجر موسيقى وصراخا بنغمة مختلطة عجيبة. أدركتْ أنه لم يعد هناك متسع للنوم، نهضتْ بتثاقل من فراشها وأشعلتْ النار تحت إبريق الشاي، وعلى الرشفة الأولى الساخنة اعتذرتْ عن الأصوات المزعجة المنبعثة من الجوار، وبحثت لجيرانها عن مبرر "بأن الأعياد المباركة تغتال النوم في ليل فقراء المخيمات، وقد اعتادوا السهر الطويل خلال شهر الرحمة في رمضان، ولا نملك لهم سوى الدعاء بالهدوء وطمأنينة الأحياء".
غادرتُ البيت على الساعة الرابعة من فجر الأحد في الثاني عشر من أيلول برفقة والدي قاصدا مدخل المخيم، خطوتُ عتبة المنزل على وقع صلاة أمي وأدعيتها للخالق من أجل الاستجابة لطلبها اللحظي اليتيم، بأن لا تغتال ذرائع الاحتلال الفرحة المرتقبة للقاء شقيقي الأسير عاصم، لأنقل له شوقها الجارف إليه، وأطبع قلبها المتوهج على الزجاج البارد لنافذة الزيارة، وأترك بصمات صوتها على سماعة "الهاتف" التي تعرف صندوقها الأسود جيدا، ليظل صدى صوته يتردد طويلا في أذنيها.
قطعتُ شارع السوق على وقع صوت المؤذن يتلو آيات من الذكر الحكيم استعدادا لصلاة الفجر، كان المخيم خاشعا لا يكسر صمته سوى صوت الماء المتدفق من الخزانات المنهكة فوق الأسطح، التي ترتفع طبقاتها الإسمنتية المتواضعة عموديا لاستيعاب التمدد السريع لأفراد الأسرة. بدت مجموعات القطط تتنقل سريعا على عتبات البيوت، تبحث عن وجبتها الأولى في أكوام النفايات المتراكمة بمداخل الأزقة وأطراف الشوارع.
تأملتُ الجدران المتفجرة بملصقات الشهداء وشعارات التضامن مع الحركة الأسيرة ونداءات فصائل المقاومة، وتساءلت في سري كم مرة عبرتُ هذه الأزقة مع زملاء الدراسة منذ زمن بعيد؟ ولمع سؤال زميلي المقدسي الساخر في ذاكرتي: كيف تميزون بين بيوتكم المتواضعة في الحارات المتشابهة؟ تأملتُ الأزقة المعتمة جيدا وتفجر السؤال: كم مرة قضى عاصم ليله يقظا مع رفاق السلاح، مصلوبا بالبرد والجوع على هذه الجدران، طوال ثلاث سنوات من المطاردة لجنود الاحتلال؟
انتظر سائق المركبة العمومية دقيقة واحدة حتى اكتمل حجز المقاعد الأربعة لسيارته، وانطلق دون سؤال لوجهتنا:"إلى حافلات الصليب في المجمع الشرقي للمدينة، كان الله في عونكم على الإجراءات القاتلة لزيارة سجون النقب".
حجزتْ ساحة المجمع الواسعة خمس حافلات كبيرة، تستعد للمغادرة بركابها المتجهين إلى معتقل النقب الصحراوي، طغتْ المسنات على معظم ركاب الحافلات إلى جانب أعداد قليلة من الرجال والأطفال، وغاب عن مقاعد الباصات الشبان الصغار. حجز المتجهون إلى معتقلي نفحة وريمون المتجاورين حافلة صغيرة. تجمع ركاب الحافلة بسرعة، ومنحوها فرصة الانطلاق الأول بعد تدقيق مندوب الصليب الأحمر جيدا بالتصاريح، ومطابقتها بأسماء وصور وأرقام بطاقات المتجهين للزيارة عبر معبر الطيبة العسكري.
اتجهت الحافلة الصغيرة غربا نحو طولكرم قاطعة نحو ثلاثين كيلو مترا في زمن قصير، كانت الطريق خالية من حركة السيارات في غياب الإيقاع المعتاد للناس عن مداخل القرى. كان الأكثر إزعاجا رائحة المجاري الكريهة تضرب النوافذ المفتوحة للحافلة على مصراعيها، فيما تغط تحت ضغط الرائحة غالبية المسنات في نوم عميق. توقف السائق بجوار استراحة أخيرة على مشارف معبر الطيبة قرب بلدة ارتاح، وتوالى وصول الحافلات الكبيرة. غادر معظم الركاب مقاعدهم للتزود بوجبة فلافل ساخنة وخبز وعصائر ومياه معدنية وغيرها، وأشعل بعضهم السجائر على رشفات قهوة الصباح التي تبيعها الاستراحة المتواضعة بأسعار مقبولة. دفعتُ ثمن زجاجة مياه باردة وعدتُ إلى مقعدي بانتظار فتح المعبر العسكري على السابعة صباحا. انطلقت الحافلة الصغيرة لتقطع مسافة قصيرة جدا وتضع ركابها على ممرات غير معبدة للمشاة. حملتُ حقيبتي وتابعتُ خطوات المعتادين على المرور المنتظم في دهاليز المعبر، تتبعتُ الخطى بين ممرات تطوقها الأسلاك الشائكة باتجاه بوابات التفتيش. توقفتُ على البوابة الأولى مع جمهور مزدحم من العمال والعجائز والأطفال، وانتظرتُ وقتا بات طويلا. اعترض المواطنون على الإيقاع البطيء لمرورهم، ليكتشفوا أن إبريق القهوة لإحدى المسنات تعرض للكسر على قشط تفتيش الحقائب فانهمرت القهوة عليه وعطلت حركته. طال انتظار تصليح قشط الحقائب، وارتفع صوت رجل من الصفوف الخلفية، يتصبب جبينه عرقا، طالبا السماح له بالمرور إلى مقدمة المنتظرين، مؤكدا أن ضغط دمه أخذ بالارتفاع، بلغ المقدمة لكنه لم يتمكن من عبور بوابة التفتيش الالكترونية الأولى واضطر للانتظار حتى غابت القهوة عن قشط التفتيش.
وضعتُ حقيبتي للفحص الإشعاعي على فوهة القشط المتحرك وتناولتها من نهايته، وتابعتُ على بوابة أخرى لفحص البطاقات الشخصية، وبوابة ثالثة لفحص التصاريح والبطاقة، ورابعة للمرور إلى الساحة الواسعة المغلقة ببوابة كبيرة تحتجز مجموعة من الحافلات الكبيرة. تطلب قطع مائة متر من الحواجز المرور من أبواب كثيرة ليس لها إلا وظيفة واحدة: "سيغر"، الكلمة العبرية السحرية التي تعني بالعربية الإغلاق، وتقذف دوما في وجوه المواطنين على امتداد 600 حاجز عسكري في الضفة المحتلة. أنهت سلطات الاحتلال "لحسن الحظ" فجر الثاني عشر من أيلول الماضي،يوم زيارة المعتقل، إغلاقا دام ثلاثة أيام على الضفة المحتلة بمناسبة الأعياد اليهودية، رغم أن الضفة مغلقة عسكريا على جميع مواطنيها منذ عشر سنوات متواصلة، لا يحق لهم العبور نحو "إسرائيل" باستثناء أعداد قليلة جدا، وبتصاريح محددة المناطق يحصلون عليها بعد فحص "أمني" للملف الشخصي.
انتظرتُ ساعتين بجوار الحافلة الكبيرة المتجهة إلى "نفحة" قبل أن تنطلق معظم الحافلات قبيل الظهر عبر بوابة واسعة إلى معتقلات النقب. اتجهت الحافلة نحو معبر قلقيلية لاستكمال المقاعد المتبقية لزائري المعتقل، وقد كانوا ينتظرون في ساحة مغلقة في الجانب الغربي للمعبر. أطل طرف مرتفع من مدينة قلقيلية على أوجاع المارة في المعبر، لكن رقعة المدينة بدت متماسكة جيدا في مواجهة أوجاع حصارها بجدار عنصري أغلق جهاتها الأربع، وانتزع منها معظم أراضيها الزراعية.
قطعت الحافلة طريقها في الجانب الغربي للجدار الإسمنتي الطويل نحو بلدتي الطيرة والطيبة المتجاورتين، وأخذت مسارها بسرعة نحو الجنوب تسابق رائحة فاكهة الجوافة المنعشة التي اجتاحت أنوف ركاب الحافلة، وأيقظتهم من حرارة الطقس المرتفعة ورطوبة الجو، لكنهم سرعان ما استسلموا للنوم باستثناء الصغير "مناضل" الذي أشبع الممر الضيق للحافلة حركة خلال تنقله بين السائق ووالدته في مؤخرة الباص. لم ينجح الرجال في تقييد حركته وإلزامه على الجلوس هادئا في مقعده، وكلما شاهد حافلة تمتلئ بالجنود أخذ وضع الاستعداد بحركة من أصابعه الصغيرة لمواجهة ركابها الذين يغطون في نوم عميق تحت ثقل ملابسهم العسكرية والشمس الحارقة.
على مدخل مدينة بئر السبع، أطلقت سيدة صراخا خاطفا وسلمت نفسها إلى غيبوبة، انهمك الركاب في محاولة لإيقاظها، واضطر السائق للتوقف مرتبكا قرب محطة بنزين. غابت السيدة عن الوعي لدقائق معدودة، كانت كافية لتضع الجميع تحت مسؤولية واجب التصرف. تقدمت ممرضة، والدة أحد الأسرى، ونفذت واجبها المهني وقدمت لها بعض الأدوية، بعد أن مررت سيدة قليلا من العطر تحت أنف الغائبة عن الوعي، ومسحت أخرى جبينها بقطعة من الليمون. فاقت السيدة وتبين أنها تعاني من ارتفاع ضغط الدم والسكري وأمراض أخرى، وتحرص على زيارة نجلها المعتقل منذ سنوات طويلة رغم المعاناة الشاقة التي تتكبدها. أخلت صبيتان يافعتان مكانهما للسيدة المتعبة، وتركها الركاب تغط في نوم عميق بعد تناولها جرعة من حبوب مقاوم لضغط الدم.
تقدمت الحافلة جنوبا في طرق واسعة ومستقيمة، وصعدت عجلاتها فوق حجارة القرى الفلسطينية المدمرة على الجوانب المترامية للشارع العريض مخترقا بقايا قرى: مسكة، كفر سبت، جندس، النعاني، المنصورة، كشخة، حلبا، أذنبة، قزازة، تل الصافي، برقوسيا، صميل ثم الفالوجة المعروفة الآن باسم مستوطنة "كريات جات" شمال تل السبع. وفي الطريق جنوبا يتلاشى سريعا الغطاء النباتي الأخضر، لتطل كثبان رملية جرداء وتلال صفراء معلنة بوابة صحراء النقب وتلمع وسط شمالها مدينة بئر السبع. يحتجز النقب نحو 12 ألف كيلو متر مربع من مساحة فلسطين البالغة 27 ألف كيلو متر مربع، وتبدو الصحراء قاحلة مقفرة تغتال الادعاءات الإسرائيلية بتحويلها إلى "جنة عدن".
تقبع العمارات الضخمة لبئر السبع وسط الكثبان الرملية الصفراء وفي درجة حرارة مرتفعة، تبدو المدينة بعيدة من شباك الحافلة التي تمر خطفا على شوارع تطل من أطرافها بيوت الصفيح العربية بين الفينة والأخرى، فيما تخطف إشارة للمرور البصر إلى اتجاه مدينة راهط الفلسطينية البدوية..تُرى في أي اتجاه يقع تجمع "العراقيب" الفلسطيني، هل أبحثُ له عن إشارة مرور على الطرق الواسعة.. هل "العراقيب" بعيدة من شباك حافلتي؟ هل يصمد الصفيح الهش في مواجهة ظلم الهدم الإسرائيلي الرابع "للعراقيب" مستهدفا التجمعات البدوية الفلسطينية المنتشرة في الصحراء، في محاولة لابتلاع ما تبقى من ملكية عربية لأرض النقب الفلسطيني، تحت ذريعة هدم التجمعات الفلسطينية غير المعترف بها!؟
تستقطب كل إشارات المرور سائقي الحافلات لإتباع الطرق نحو المدينة الضخمة، لكنها تهمل الإشارة إلى سجن بئر السبع الذي أقيم بجوار المدينة الممتدة مطلع السبعينات. رافقتُ يافعا عمتي "أم نادر" العام 1972 لزيارة أصغر أبنائها "سامي" إلى السجن الجديد بعد نقله مع مئات الأسرى من سجون الرملة وكفار يونا وغيرها. شعرتُ بعطش المسافة التي أقطعها لأول مرة في حياتي ضمن ظروف مناخية غريبة لم أختبرها، فيما يدقق بصري بمشهد الرمال الصفراء التي تمتد منبسطة لمسافات واسعة. بدت الجدران الإسمنتية الشاهقة للمعتقل مرعبة، وتعلو بوابته الحديدية الضخمة أبراج الحراسة. انتظرتُ برفقة عمتي حتى موعد الزيارة التي تأخرت كثيرا، لأكتشف معها حجم الإصابة الفادحة في وجه ابنها، والضربات التي تلقاها مع رفاقه، بذريعة رفضهم الاستجابة لأوامر إدارة المعتقل باستكمال بناء غرف السجن. ابتسم لوالدته وطالبها ألا تقلق، وفسر لها سبب العقاب الجماعي بالضرب والعزل في الزنازين: أتلف الأسرى بطريقتهم الخاصة محركات خلاطات الباطون، فانتقمت منهم الإدارة بطريقتها الخاصة أيضا.
قضى سامي الكعبي ثمانية أعوام في سجون الاحتلال بذريعة انتمائه لقوات التحرير الشعبية التي كانت تنشط عسكريا في قطاع غزة وتشكلت من ضباط فلسطين في الجيش المصري، واتهم أيضا بالتدرب على السلاح في بيروت والتسلل إلى الأراضي المحتلة، وعقب انتهاء محكوميته تم إبعاده أواخر العام 1974 إلى الأردن، قضى في سجون عمان ثلاثة أشهر قبل الإفراج عنه بكفالة شقيقه، وغادر إلى العراق واستقر نهائيا في بغداد، وأقام مصنعا لحرفة الزجاج التقليدي. ساهم خلال مكوثه لسنوات طويلة في بغداد بتوفير مقاعد سنوية لطلبة أبناء الأرض المحتلة في الجامعات العراقية، وقد عثرتُ بفضله على مقعدي في كلية آداب بغداد لأتخصص في الصحافة المطبوعة. دمر حصار العراق مطلع التسعينات تجارته الناجحة بل قضى على شقاء العمر، فانتقلت أسرته لتبدأ مشوار كفاحها العملي من جديد في مدينة العقبة الأردنية، وظل يتنقل بين مقر عمله في بغداد وبيته في العقبة على مدار سنوات حتى وافته المنية بحادث طرق مروع، قبل سقوط العاصمة العربية التي عشقها بقبضة الاحتلال الأميركي العام 2003.
4
أشجار قليلة جدا تلتهم الأرض القاحلة حول كلية بن غوريون للبنات في النقب وتمنحها لونها الأخضر الرمادي. أقيمت الكلية بجوار قبر دافيد بن غوريون مؤسس الكيان الإسرائيلي العام 1948، وقد استقر في النقب أواسط الخمسينيات، واعتزل حياته السياسية في الصحراء حتى وفاته العام 1973. تنتصب على مسافة كيلو مترات من كلية البنات أطلال مدينة عبده النبطية، تبدو المدينة بأسوارها التاريخية بوضوح من شباك الحافلة لوقوعها فوق تلال مرتفعة، فيما يرتفع فوق حجارتها علم المنظمة الدولية للثقافة والعلوم "اليونسكو".
تجولتُ قبل عشرين عاما برفقة الدكتور كمال عبد الفتاح، أستاذ الجغرافية المرموق في جامعة بيرزيت، خلال جولاته التاريخية الجغرافية التي تغطي جميع فلسطين من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها. على مدار ثلاثة أيام من الرحلة لم يكف البروفيسور البارع من استحضار التاريخ والجغرافية معا في استلهام قل نظيره على مستوى المعرفة: هذه مدينة عبدة النبطية وقد تشكلت قبل الميلاد، وارتبطت بمدينة البتراء عاصمة الأنباط. كانت عبدة جزءا من خط التجارة على ساحل الخليج مرورا بشرق عدن، مأرب، نجران، الطائف ومكة ثم المدينة باتجاه مدائن صالح ومعان والبتراء. يتابع خط تجاري من البتراء إلى الشام وآخر إلى وادي عربة، ثم وادي الرمان وعبدة، ويتواصل نحو الشمال الغربي إلى عسلوج وبلدة الخلصة وإلى قرنب غربا ثم غزة الميناء الأخير للأنباط، قبل أن يتابع الخط التجاري القديم مساره عبر البحر المتوسط إلى اليونان وجنوب تركيا. تحولت عبدة إلى مدينة بيزنطية في القرن الثاني الميلادي، وأقيم فيها ثلاث كنائس مسيحية، وتواصل دورها في العصر العربي حتى تحول خط القوافل إلى مصر عبر البحر، فانتهت مظاهر الحياة على طول الخط التجاري القديم الذي كان ينقل البخور وريش النعام والسيوف من حضرموت والهند، والزجاج من غزة، والنبيذ وزيت الزيتون والمنسوجات من بعض مدن فلسطين في العصر البيزنطي.
لم تكد تنفض ذاكرتي غبار المعلومات القديمة عن عبدة النبطية، قبل تحولها إلى بيزنطية، ودخولها عصر الفتوحات العربية، وقد باتت تحت بصري شاهدا على رماد تاريخها، حتى استعادت ذاكرتي الحكايات الشعبية للمهجرين قسرا، وهم يسردون التاريخ الشفوي للقرى الفلسطينية المدمرة منذ ستين عاما على تواصل النكبة الكبرى، وشاركتُ مع طاقم مركز أبحاث جامعة بيرزيت في إصدار سلسلة كتب تناول التاريخ الشفوي للقرى الفلسطينية المدمرة، وأشرف على التوثيق الشفوي الدكتور شريف كناعنة. شاركتُ أيضا أواسط الثمانينات ولفترة قصيرة في مشروع ميداني لتوثيق المعلومات الأساسية عن القرى الفلسطينية المدمرة، وأشرف الدكتور كمال عبد الفتاح على الطاقم الميداني، وصدر المشروع عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في كتاب ضخم بعنوان "لكي لا ننسى" للباحث وليد الخالدي.
غادرتْ حافلة "الصليب" الشارع الرئيسي الواسع، وعبرتْ طريقا فرعية ضيقة، وقطعتْ مسافة لا تزيد عن عشرة كيلو مترات تقريبا عن مدينة عبدة التاريخية، لتقف خلف حافلتين على مدخل البوابة الكبيرة لمعتقلي "نفحة" و"ريمون"، اتجهت بعد وقت قصير حافلتان يمينا نحو ساحة معتقل "ريمون"، فيما استقرت الثالثة في ساحة معتقل "نفحة".
هذا معتقل نفحة إذا الذي شهد في الرابع عشر من تموز العام 1980 إضرابا عن الطعام استمر 32 يوما، احتجاجا على افتتاح السجن، ونقل الأسرى لاحتجازهم فيه بظروف قاسية جدا، واستشهد في الإضراب ثلاثة أسرى: راسم حلاوة، علي الجعفري واسحق مراغة.
أغلقتْ شرطة السجن البوابة الكبيرة، وطالبت الزوار التوجه لنافذة زجاجية ترتدي شبكا من الحديد الأسود لتسجيل الأسماء تمهيدا لزيارة الأسرى. تأملتُ قائمة تعليمات الزيارة المثبته على جدار الساحة، وقرأتُ نصها العربي الذي يبدأ بكلمة ممنوع وينتهي بكلمة يحظر، في إشارة واضحة لتعليمات إدارة السجن الصارمة، بمنع دخول قاعة الزيارة سوى بالملابس الشخصية المجردة من كل شيء: مال، سجائر، مفاتيح شخصية، أجهزة خليوي، حقائب يد وغيرها، على أن تبقى في الساحة، أو في صناديق خاصة لإدارة السجن، تفتح مقابل قطعة واحدة من خمسة شواقل، عندما يتم تمريرها في فتحة خاصة ليحصل الزائر على مفتاح بسيط يسمح له بالاحتفاظ به أثناء الزيارة.
تسلمتْ إدارة المعتقل جميع البطاقات الشخصية للرجال والنساء وشهادات ميلاد الأطفال وكذلك تصاريح الزيارة، وسجلت لكل أسير اسم زائره، وطلب مكبر للصوت بلغة عربية محطمة الانتظار حتى يحين موعد الزيارة. جلستُ على مقاعد خشبية بالية تحت درجة حرارة قاتلة، ورائحة كريهة تقذفها الحمامات لقلة توفر المياه، وافترشتْ مجموعات صغيرة من النساء الأرض الإسمنتية المغبرة، وأخذ بعضهن بتحضير وجبات سريعة للأطفال والمسنين. وصلتْ سيدة تزحف على قدميها المنهكتين برفقة زوجها المسن إلى البوابة الصغيرة للساحة، وطلبت مكانا للاستراحة في الظل قبل أن تخبر من تعرفهم بنقل ابنها الأسير من "ريمون" إلى "نفحة"، وتعتبر نفسها بأنها محظوظة لان الانتقال تم بين معتقلين متجاورين تماما، ويمكن التنقل بينهما مشيا تحت حراسة شرطة المعتقل..ماذا لو تم نقل نجلها إلى سجن آخر في شمال فلسطين أو النقب في جنوبها؟ من المؤكد أنها ستقضي يومها بلا ثمرة حتى انتهاء الزيارة لتعود ساكنة في المساء فوق مقاعد حافلة "الصليب".
5
مر وقت طويل على انتهاء زيارات أهل القدس لأبنائهم الأسرى، ثم ارتفع مكبر الصوت بأسماء أسرى الضفة. اجتزتُ وحيدا البوابة الالكترونية عندما سمعتُ اسم عاصم. بلكنة غربية تصبغ المفردات العربية: هل أنت وحدك للزيارة؟ نعم. ما علاقتك بالسجين؟ شقيقي. دققتْ الشرطية بالبطاقة والأوراق التي بيدها ورفعتْ نظرها نحوي: أدخل غرفة التفتيش هناك.
جهاز اليكتروني لم ينقطع عن الصفير عندما مر على كعب حذائي، طلب الحارس خلعه، وسلمته له وأخذ يتفحصه قبل السؤال: مزروع فيه "بلفون" أي جهاز خليوي بالعبرية؟ صمتُ مستغربا دون جواب. بعد تدقيق الفحص البصري، سلمني الحذاء سامحا بارتدائه والعبور به إلى قاعة الانتظار!؟. غرفتان للتفتيش واحدة للنساء وأخرى للرجال، ولكل منهما بوابة تفتح على القاعة، وكان الرجال يعبرون البوابة وهم يعيدون ربط أحزمة البنطال، فيما تعدل النساء الحجاب على رؤوسهن. لم يدم الانتظار طويلا حتى تم فتح باب جانبي، وقطعنا أمتارا قليلة فوق ممر إسمنتي يربط بين بنايتين، لنجتاز درجة واحدة إلى بوابة قاعة الزيارة.
وقف عاصم وسط مقاعد الزيارة، أشار بيده من بعيد، وبدا طويلا بقامة مرتفعة. اقتربتُ من الزجاج الفاصل بيننا، وبانفعال شديد وجدتُ نفسي للحظة أعانق الزجاج، فاستجاب مبتسما للمشهد الذي اعتاد عليه. جلستُ مقابله بانتظار فتح صناديق "الهاتف" على الطرفين. كانت أصوات الزوار ترتفع في القاعة، في حين يخيم الصمت على الأسرى. شغلت الإدارة الصناديق السوداء "للهاتف" وقد أعادت بحجمها القديم الكبير الذاكرة لحضورها في الشوارع العامة، وأصبحت بعد خدماتها الطويلة رهينة السجن. وضعت الإدارة "هاتفا" لكل أسير مقابل اثنين لزائريه. فصل بين "صناديق الهاتف" زجاج سميك معزول تماما. بدا صوت عاصم غير واضح، فانتقلت للسماعة الأخرى على يميني، لكن الصوت كان أكثر رداءة. بذلتُ جهدا لتوصيل صوتي وسماع صوته. لا أحد يستطيع التصديق بأن الأجهزة الرديئة لتوصيل الصوت غير مبرمجة..هل يعقل أن تسمع صوتا بمنتهى الوضوح من أبعد نقطة في الكوكب، ولا تستطيع سماع صوت يفصلك عنه ثلاثين سنتيمتر؟ هذه هي "دولة مغلق" التي تمتلك شغف التعذيب البارد في دائرة مغلقة بإحكام.
طار الوقت المسموح للزيارة دون التطرق لمفاصل كثيرة في حديث غاب قسرا منذ عشر سنوات، مرت الأخبار الاجتماعية للعائلة كالبرق، واطمأن على سلامة والدته وخروجها من المشفى راجيا أن لا تزعج نفسها في زيارة مرتقبة كفيلة بزيادة أعبائها الصحية. خبرني عن اهتمامه بتعلم اللغة العبرية ورغبته بالتسجيل لاحقا للدراسة في الجامعة المفتوحة، وأبدى اهتماما بمئات النماذج الكفاحية التي عايشها في تجربته الاعتقالية، وروى جانبا بسيطا من بطولاتهم: عميد الأسرى نائل البرغوثي الذي اعتقل في نيسان العام 1978 عندما لم يتجاوز عاصم الشهر الخامس من عمره. قضى عاصم 25 عاما طليقا قبل اعتقاله، ثم التقى نائل وعاش معه في المعتقل ووصف قدرته الهائلة على تماسك مواقفه، ورفضه استبدال وجبات الأكل الملزمة لإدارة السجون ببعض وجبات "الكانتين" المدفوعة بأموال الأسرى. أحمد سعدات، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، المعزول في زنزانة انفرادية منذ سنة ونصف، وقد بدأت حملة دولية تضامنية لكسر قرار عزله. اعتقل سعدات منتصف آذار 2006 من سجن أريحا بعد انسحاب المراقبين الأميركيين والبريطانيين، واقتحام قوة عسكرية إسرائيلية للمدينة، وهدم سجنها التابع للسلطة الفلسطينية بعد حصار دام إحدى عشرة ساعة، واعتقل سعدات مع مجموعة من رفاقه بتهمة الوقوف وراء اغتيال وزير السياحة الإسرائيلي رحبام زئيفي، وصدر حكم بسجنه ثلاثين عاما أواخر العام 2008. سامر المحروم من جنين المحكوم بالمؤبد منذ العام 1986 المتميز بثبات موقفه وتماسكه وإخلاصه لوحدة الحركة الأسيرة، وأيضا ابن عمه علام وصديقه أمير ذوقان وأسماء كثيرة لأسرى، لا وقت لتعدادها على زجاج الزيارة، أسرى يدافعون عن كرامة شعبهم بثبات مواقفهم وصلابة رؤيتهم.
تناول أهمية الحركة الأسيرة ودورها في وحدة الحركة الوطنية، ومدى قدرتها على مواجهة إجراءات إدارة السجون، وتطرق للوضع السياسي العام على الساحة الفلسطينية، وصعوبة تحقيق تسوية للصراع في المنطقة، وشدد على خطورة استبدال العدو للأمة العربية، وتوظيف أطراف في النظام الرسمي العربي للتكتل في حلف مع الكيان الإسرائيلي لاستهداف إيران بذريعة التهديد النووي.
بدا متابعا جيدا لتفاصيل الأحداث التي تعصف بالساحة الفلسطينية، ومهتما بالأحداث التي تدور في العالم العربي، وعودة الاستعمار المباشر والعلني للعاصمة العربية بغداد، والتهديد باستهداف أقطار أخرى بالتقسيم والاحتلال.
قبل أن تغلق إدارة السجن "حوار الهاتف"، همس عاصم متألما للزيارة التي باتت محرجة للأقلية من أسرى الضفة، الذين يعيشون مع رفاق كفاحهم من أبناء قطاع غزة، وقد حرم الاحتلال ذويهم من زيارتهم منذ ثلاث سنوات.
أغلقت الإدارة سماعات "الهاتف" مع انتهاء الوقت المفترض للزيارة، وانفصلت نهائيا الأصوات على الجانبين، وعلا صوت مسنة بجواري احتجاجا على انتهاء الوقت، وارتفعت أصوات أخرى بالجوار في حين فصل الزجاج البارد بين أصوات الطرفين، ولم يعد أحدهما يسمع الطرف الآخر، فقط لمع المشهد الأخير للزيارة: تلويح بالأيدي من خلف الزجاج على وقع احتباس الدموع والدعاء لهم بإفراج قريب، وخطوات بطيئة للزائرين تحملهم مكرهين إلى بوابة الساحة الخارجية، وتحمل الأسرى إلى غرف زنازينهم على أمل بإفراج قريب.
6
غاب عاصم عن بصري بالتدريج، وتأملتُ لحظتها سخرية الزمن عندما تبادلتُ معه المواقع، وقد حرص على زيارتنا مع شقيقي باسم وأحمد في معتقل "جنيد" العام 1988، ولم يفلح بزيارة شقيقه الرابع عصام المعتقل إداريا في سجن النقب الصحراوي في ذلك الوقت. كان طفلا في العاشرة من عمره يسابق زوار السجن لحجز المقعد الذي يريده، ثم ينطلق بلا توقف يروي لنا أخبار الانتفاضة وحكايات الأهل من خلف شبك زيارة دون زجاج، زيارة لم تكن تستغرق أكثر من أربع ساعات منذ مغادرة البيت في بلاطة وحتى العودة إليه.
بحث الأهالي عن أغراضهم الشخصية في الساحة الضيقة الخارجية للمعتقل، وتحلقوا من جديد في مجموعات صغيرة لتناول وجبة أخيرة قبل شقاء رحلة المغادرة. تناولتُ حقيبتي وتأكدتُ من سلامة أغراضي الشخصية، وبحثتُ فيها عن زجاجة الماء، وعثرتُ بجوارها على وجبة أمي، واكتشفتُ لحظتها أنها كانت على حق عندما أصرت على حمل وجبتها. قضيتُ أكثر من عشر ساعات منذ مغادرة البيت فجرا وانتهاء الطقوس القاتلة للزيارة، لم أتناول خلالها سوى الماء. حان موعد تناول وجبة سريعة، لكن طعمها سيكون رديئا في غياب حلقة صغيرة تفترش الأرض الإسمنتية للمعتقل. استجبتُ لنداء أمعائي وسلمتها جزءا من وجبة أمي. مضغتها على عجل منفردا تحت ضغط الحرج بأن مَنْ "يأكل وحيدا يختنق" في حين أن الزيارات المنتظمة للسجن خلقت شكلا من المودة بين الزوار باتوا معها يتبادلون أطعمتهم بأريحية.
طال انتظار الحافلة، وبات البحث عن قليل من الظل لتجنب الشمس الحارقة مسؤولية الأمهات لتجنيب أطفالهم حرارة الجو الخانق، أسندتُ رأسي إلى جدار هربا من الشمس التي تفترس النقب بلا رحمة، وأشفقت على مسن نابلسي جلس طويلا تحت قبعته فقط بانتظار الباص، وعندما طال الانتظار صاحت النساء عليه لتغيير مكانه والاحتماء بظل الجدار. استجاب لطلبهن وغادر مكانه إلى بقعة ظل متواضعة.
سمح حرس المعتقل على الرابعة عصرا بدخول الحافلات الثلاث بعد انتهاء زيارة سجني "نفحة" و"ريمون". صعد الركاب إلى مقاعدهم وانطلقت شمالا تسابق الريح للوصول قبل إغلاق معبر الطيبة على السابعة مساء. غط الجميع في نوم عميق، وحاولتُ جهدي لكن حركة الفتى اليافع بجواري وتنقله من مقعد إلى آخر وانشغاله بألعاب الخليوي، طيرت النعاس من عيني. هبط الليل سريعا ولم أعد أرى سوى الإضاءة المتغيرة للسيارات على الشوارع وبعض إشارات المرور، وأيقنتُ اجتياز الحافلة لصحراء النقب عندما شاهدتُ بوضوح الإشارة نحو مطار اللد. لم يدم الوقتُ طويلا حتى بلغت الحافلة حاجز "عناب" العسكري. على مقربة من طولكرم بحثتُ عن هاتفي الخليوي، وعثرت على عشر مكالمات مهدورة تفيض قلقا على عدم ردي. بجوار الحاجز العسكري توزع جميع الركاب على ثلاث حافلات: واحدة إلى طولكرم وأخرى إلى قلقيلية وثالثة توجهت إلى نابلس.
انتظرتُ قليلا وصول المركبة المتجهة إلى رام الله، تجمع ركابها بسرعة وانطلقتُ جنوبا، وعندما اجتازتْ الشارع الرئيسي فوق المخيم في طريقها إلى حاجز حوارة العسكري، أخبرتُ والدي بقراري المتابعة إلى رام الله، وهو الذي كان ينتظرني لسماع أخبار نجله ولهفة اللقاء بعد سنوات على الانقطاع القسري.
نمتُ عميقا بأحلام قاتلة، وقرأتُ صباح اليوم التالي أنباء اقتحام جنود الاحتلال لمعتقل "عوفر" العسكري قرب بيتونيا المجاورة لمدينة رام الله، ثم اقتحام سجن شطة ونقل الأسرى إلى معتقل "مجدو"، واتجاه الأسرى بالإضراب عن الطعام احتجاجا على ممارسات إدارة السجون، وإرغامها على السماح لأهالي غزة بزيارة أبنائهم الأسرى.
أعدتُ تصريح الزيارة إلى مكتب الصليب الأحمر في نابلس على أمل لقاء شقيقي محررا قبل موعد الزيارة الثانية، سلمتُ التصريح وقلبي يبرق بالتفاؤل لاستكمال نجاح شروط صفقة مرتقبة لتبادل الأسرى، تضمن حق مغادرة جميع رفاق الكفاح زنازينهم والعودة منتصرين لذويهم، لعل قلوب الأمهات تهنئ بالفرح، وتغيب من تحت أقدامهن طرق النار، وقد ذبلت بكرامة سنوات عمرهن في العبور القسري المتكرر لأرصفة "الجنون" بحثا عن معالم الزنازين المعزولة للأبناء في سجون الاحتلال.
رام الله المحتلة
|