New Page 1
عندما وقف اليهودي الوحيد في الحكومة البريطانية ضد وعد بلفور ( 1/2 ) / داود تلحمي*
21/11/2010 11:02:00
تلحمي*
*مؤسسو الحركة الصهيونية لم يكونوا متدينين أصلاً. لكن اختيار فلسطين، «أرض الميعاد» في الميثولوجيا الدينية اليهودية، يمكن أن يجعل إمكانية استقطاب الجمهور اليهودي العادي أسهل، في نظر مؤسسي الحركة
* كانت مشاعر المجتمعات اليهودية أثناء الحرب العالمية الأولى أكثر ميلاً للتعاطف مع المحور الذي تقوده ألمانيا، وذلك لكون المحور الآخر يضم روسيا القيصرية، البلد الذي ارتبط اسمه بحملات اضطهاد مواطنيه اليهود
قد توحي القوة الحالية للحركة الصهيونية السياسية، ولدولة إسرائيل التي أقامتها على أرض فلسطين في العام 1948، وكأن هذه الحركة كانت دائماً، منذ نشأتها في أواخر القرن التاسع عشر، قوة سائدة ومسيطرة في أوساط المجتمعات اليهودية في بلدان العالم المختلفة. ولكن ذلك لم يكن صحيحاً طوال العقود الأولى لنشوء هذه الحركة، وحتى وصول النازيين الى الحكم في ألمانيا، ثم الجرائم التي ارتُكبت خلال الحرب العالمية الثانية. فقد كان عدد كبير من المواطنين الأوروبيين، وغير الأوروبيين، من أصحاب الديانة أو الخلفية اليهودية معارضين أو غير مؤيدين أو غير مقتنعين بالمشروع السياسي الصهيوني. وهو المشروع الذي أطلقه، بشكل رئيسي، النمساوي تيودور هرتزل، خاصة عبر كتابه الشهير «الدولة اليهودية» الذي صدر في العام 1896.
ولا شك أن مناخات اضطهاد المواطنين اليهود في المناطق التي كانت تسيطر عليها روسيا القيصرية، وهو اضطهاد تصاعد في أواخر القرن التاسع عشر، وخاصة بعد اغتيال القيصر ألكساندر الثاني في العام 1881، ساهمت في دفع أعداد من يهود هذه المناطق، وبلدان أخرى، لتبني الفكرة الصهيونية السياسية، المتمثلة بإقامة دولة خاصة لليهود، كما بلورها هرتزل في كتابه، بعد أن طرحها آخرون قبله بصيغ متعددة. هذا، في حين كانت أعداد أخرى من سكان هذه المناطق تختار الانتماء إلى القوى الثورية ذات التوجه الأممي المناهض لكل أشكال التمييز، وهو ما يفسّر انحياز قسم ملموس منهم للتيارات اليسارية الجذرية هناك، بما في ذلك الحزب البلشفي. وكانت هناك دائماً، من جانب آخر، قطاعات يهودية متدينة تعارض الصهيونية السياسية لأسباب عقيدية مرتبطة بمفاهيم دينية يهودية، ومنهم، على سبيل المثال، تلك الجماعة المعروفة باسم «ناطوري كارتا»، والتي لها أتباع اليوم في بلدان مختلفة، وتعتبر قيام دولة إسرائيل عملاً متناقضاً مع مضامين الدين اليهودي، مما يجعل أعضاء هذه الجماعة لا يعترفون بالدولة الإسرائيلية، ولا يشارك المقيمون منهم في المناطق التي أُقيمت عليها هذه الدولة في الانتخابات النيابية، لا بل هم يعتبرون أنفسهم فلسطينيين، ويعلنون الولاء علناً للقيادة الفلسطينية.
خيارات «الدولة اليهودية»...
وكان الخيار الأول للحركة الصهيونية الجديدة لمكان إقامة الدولة اليهودية هو فلسطين، التي كانت آنذاك تحت السيادة العثمانية، لكون رواية الكتب الدينية اليهودية تربط تاريخ الشعب العبراني القديم بهذه المنطقة... مع أن هناك نقاشات وجدل بين المؤرخين المعاصرين، وبعضهم من اليهود، حول صوابية هذه الرواية من الناحية الواقعية التاريخية. مع العلم بأن مؤسسي هذه الحركة، بمن فيهم هرتزل، لم يكونوا متدينين أصلاً. لكن اختيار فلسطين، «أرض الميعاد» في الميثولوجيا الدينية اليهودية، يمكن أن يجعل إمكانية استقطاب الجمهور اليهودي العادي أسهل، في نظر مؤسسي الحركة. إلا أن هذا الاعتبار لم يمنعهم من تدارس ومناقشة خيارات جغرافية أخرى، حيث طرح هرتزل نفسه في وقت مبكر خيار إقامة الدولة في الأرجنتين. وكل ذلك كان يجري في مرحلة من التاريخ الأوروبي شهدت، في آنٍ واحد، انتعاش واتساع نطاق الحركات القومية في أنحاء أوروبا، وكذلك اتساع نطاق العمليات الاستعمارية الأوروبية في أنحاء العالم، في سياق المرحلة الجديدة من التوسع الرأسمالي التي يتم عادةً توصيفها بمرحلة الإمبريالية، وهي المرحلة التي يتحدد بدؤها عادةً مع أوائل الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
وهكذا، في السنوات اللاحقة على انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول، بإشراف هرتزل نفسه، في مدينة بازل السويسرية في العام 1897، جرى التداول في خيارات مختلفة لمكان إقامة الدولة. وكان من بينها مقترح تقدمت به أوساط حكومية بريطانية في العام 1903 يقضي بإقامة الكيان القومي اليهودي في شرق إفريقيا، الواقعة آنذاك تحت السيطرة الاستعمارية البريطانية، وهو الخيار المعروف باسم «مشروع أوغندا»، مع أن المكان المقترح كان أقرب إلى موقع كينيا الحالية. وكان هرتزل يميل إلى عدم إهمال هذا الاقتراح. وبالفعل، جرت مناقشته في المؤتمر الصهيوني السادس الذي انعقد في بازل أيضاً في العام 1903، وتمكّن هرتزل من الحصول على أغلبية الأصوات (295 مع و178 ضد) لصالح دراسة الفكرة. لكن المؤتمر الصهيوني السابع الذي انعقد في العام 1905، بعد وفاة هرتزل في العام السابق، تخلى عن هذه الفكرة. وبقيت هناك مجموعات أخرى تدعو لخيارات مختلفة لمكان إقامة الدولة. لكن الجسم الرئيسي للحركة الصهيونية اتجه، بعد ذلك، للتركيز على خيار فلسطين.
وكان هرتزل، في إطار مساعيه للدفع بفكرة الدولة اليهودية إلى الأمام، قد التقى، في أول زيارة له لتلك المنطقة، مع قيصر ألمانيا فيلهلم الثاني خلال زيارةٍ للأخير إلى الأراضي المقدسة في العام 1898. من جانب آخر، تمكّن هرتزل، بعد محاولات سابقة غير ناجحة، من الالتقاء بالسلطان العثماني عبد الحميد الثاني في العام 1901، لكن الأخير رفض فكرة إقامة الدولة اليهودية في فلسطين. كما حاول هرتزل استصدار موقف مؤيد لمشروعه من قبل الفاتيكان، لكن المسؤولين هناك أبلغوه بأنهم لا يستطيعون إعلان تأييد لليهود... طالما هم لا يعترفون بالمسيح!
ومع اندلاع الحرب العالمية (الأولى) في صيف العام 1914، والتي تشَكَّل فيها حلفان رئيسيان، أحدهما يضم بالأساس بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية، وانضمت الولايات المتحدة الأميركية إليه في وقت متأخر (نيسان/أبريل 1917)، والثاني يضم بشكل رئيسي ألمانيا وإمبراطورية النمسا-هنغاريا والسلطنة العثمانية، بدأ نشطاء الحركة الصهيونية يتحركون لمحاولة الاستفادة من مناخ الحرب لتحقيق اختراق في مشروعهم لإقامة هذه «الدولة اليهودية».
وأجرى عدد من قادة الحركة الصهيونية، ومن ضمنهم حاييم وايزمن، الكيميائي المولود في روسيا البيضاء، الواقعة آنذاك ضمن مناطق سيطرة روسيا القيصرية، والذي هاجر إلى بريطانيا عام 1904 وحمل جنسيتها منذ العام 1910، جملة اتصالات بأطراف الحرب المختلفة لتحسين فرص تقدم المشروع الصهيوني بعد الحرب.
وكانت مشاعر المجتمعات اليهودية أثناء الحرب أكثر ميلاً للتعاطف مع المحور الذي تقوده ألمانيا، وذلك لكون المحور الآخر يضم روسيا القيصرية، البلد الذي ارتبط اسمه بحملات اضطهاد مواطنيه اليهود. وهذا الاضطهاد الروسي القيصري هو الذي يفسر كون الحملات الأولى من الهجرات اليهودية المتلاحقة إلى فلسطين في تلك الحقبة جاءت بشكل رئيسي من روسيا والمناطق التي يسيطر عليها نظامها القيصري، وهي كانت تشمل أوكرانيا وروسيا البيضاء وبولندا.
فمن المعروف أن عدداً كبيراً من مؤسسي الحركة الصهيونية ورموز الدولة الإسرائيلية التي أُنشأت في العام 1948 أتوا من تلك المناطق، أي من المناطق التي كانت تقع تحت سيطرة روسيا القيصرية: هذا كان حال دافيد بن غوريون، المولود في بولندا والذي هاجر إلى فلسطين في العام 1906 وأصبح أبرز قادة الحركة الصهيونية هناك، ولاحقاً أول رئيس حكومة للدولة الإسرائيلية، التي قرأ هو الإعلان عن قيامها في أواسط أيار/مايو 1948. وهذا كان حال ثاني رئيس للحكومة الإسرائيلية موشيه شاريت (شيرتوك)، المولود في أوكرانيا، والذي هاجر إلى فلسطين في العام 1906 أيضاً. وهو حال رئيس الحكومة الثالث ليفي إشكول، المهاجر في العام 1914 من أوكرانيا أيضاً، وكذلك حال الرئيسة الرابعة للحكومة (بين العامين 1969 و1974) غولدا مئير، المولودة في أوكرانيا كذلك، والتي انتقلت إلى الولايات المتحدة ثم هاجرت الى فلسطين في العام 1921. وهو أيضاً حال رئيس الحكومة بين العامين 1977 و1983 مناحيم بيغن المولود في بريست ليتوفسك (روسيا آنذاك)، وكذلك حال الرئيس الحالي للدولة الإسرائيلية شمعون بيريس، المولود في بولندا... وغيرهم وغيرهم.
لكن تعاطف الجمهور اليهودي الواسع مع المحور الذي تقوده ألمانيا لم يمنع قادة الحركة الصهيونية من إجراء اتصالات واسعة مع القوى المختلفة لم تقتصر على أطراف هذا المحور، بل شملت المحور الآخر، وبشكل خاص بريطانيا، الدولة الأقوى في أوروبا والعالم آنذاك. وفي بريطانيا، أقام حاييم وايزمن، أحد زعماء الحركة الصهيونية كما سبق وذكرنا، والذي سيصبح بعد قيام إسرائيل أول رئيس للدولة الجديدة، لقاءات واتصالات واسعة مع رجال السياسة والاقتصاد والصناعة في بريطانيا، من بينهم ديفيد لويد جورج الذي سيصبح في أواخر العام 1916 رئيساً للحكومة البريطانية أثناء الحرب العالمية، ويحتفظ بهذا الموقع حتى العام 1922. وكان وزير خارجيته بين العامين 1916 و1919 هو آرثر بَلفور، الذي سبق وشغل مهمة رئاسة الحكومة بين العامين 1902 و1905، وكان كذلك نائباً منتخباً عن مدينة مانشستر، التي كان وايزمن يعلّم الكيمياء في جامعتها، مما وفّر فرصة التعارف المبكر بينهما أثناء حملات بلفور الانتخابية هناك. وبلفور نفسه هو الذي وضع لاحقاً توقيعه، باسم الحكومة البريطانية، على الرسالة الشهيرة التي وجهت يوم 2/11/1917 إلى اللورد والتر روتشيلد، أحد كبار الأثرياء البريطانيين اليهود، ومن خلاله إلى «المنظمة الصهيونية في بريطانيا وإيرلندا»، وهي الرسالة التي كان يسعى حاييم وايزمن إلى استصدارها منذ وقت مبكر، وإن كان رغب بأن تكون صياغتها أكثر جزماً باتجاه وعد بريطاني واضح بدعم إقامة دولة يهودية في فلسطين.
مونتاغيو: الصهيونية عقيدة مؤذية
وكانت الصيغة الأولى للرسالة، كما طُرحت للنقاش في الحكومة البريطانية، أقرب الى التجاوب مع رغبات وايزمن. وكان كل من رئيس الحكومة لويد جورج ووزير خارجيته بلفور يميلان لدعم مطلب وايزمن. لكن المعارضة لهذا الموقف جاءت بشكل أساسي من البريطاني اليهودي الوحيد، آنذاك، في تلك الحكومة، وهو اللورد إدوين صامويل مونتاغيو، الذي قدم مذكرة داخلية مكتوبة إلى الحكومة البريطانية في آب/أغسطس 1917 توضح موقفه وأسباب معارضته لمجمل المشروع الصهيوني، ولدعم بريطانيا له عبر مشروع رسالة بلفور إلى اللورد روتشيلد، الذي كانت آنذاك قيد التداول في الحكومة.
ومما جاء في مذكرة مونتاغيو هذه، الموجهة بعد أسابيع قليلة من تسلّم الحكومة البريطانية لرسالة روتشيلد التي تدعو لاستصدار الإعلان الخاص بدعم مشروع «الدولة اليهودية» في فلسطين:
«إن الصهيونية كانت تبدو لي دائماً كعقيدة سياسية مؤذية، لا يمكن قبولها من أي وطني في المملكة المتحدة... ويبدو لي أنه من غير المعقول أنه في الوقت الذي يتم فيه الاعتراف بحقوق الروس اليهود ويتم منحهم كافة الحريات (في إشارة منه إلى ما جرى بعد ثورة شباط/فبراير 1917 التي أطاحت بالقيصرية في روسيا) يجري الاعتراف رسمياً بالصهيونية من قبل الحكومة البريطانية، وأن الحكومة تسمح للورد بلفور بأن يقول بأن فلسطين ينبغي أن يتم إعادة تشكيلها كـ«وطن قومي للشعب اليهودي». وأنا لا أعرف ماذا سينجم عن ذلك، لكني أفترض أنه يعني أن المحمديين (وفق تعبير بلفور) والمسيحيين يجب أن يتركوا مكانهم لليهود وأن اليهود يجب أن تكون لهم كل مواقع التفضيل... أنا أؤكد أن ليس هناك شعب يهودي... وإذا كان صحيحاً أن فلسطين تلعب دوراً كبيراً في التاريخ اليهودي، فالشيء ذاته يمكن أن يقال عن التاريخ المحمدي المعاصر، وبعد مرحلة اليهود (يقصد العبرانيين القدامى)، هي تلعب دوراً أكبر من أي بلد آخر في التاريخ المسيحي«... وأضاف:«بقيام الوطن اليهودي فيها ستصبح فلسطين أكبر غيتو في العالم...».
وفيما فشل مونتاغيو في تعطيل صدور «الإعلان»، إلا انه تمكّن من تحقيق تغييرات على الصيغة الأولى له، التي كانت أوضح تأييداً للمشروع الصهيوني. ومن بين هذه التغييرات إضافة العبارتين الخاصتين بمراعاة «الحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين»، ومراعاة «الحقوق والوضعية السياسية التي يتمتع بها اليهود في أي بلد آخر»على النص النهائي لإعلان بلفور. وكان حاييم وايزمن، قبل صدور رسالة بلفور، يواصل تدخلاته وجهوده لاستصدار هذا الإعلان. فذهب إلى حد إبلاغ وزارة الخارجية البريطانية، في 10/6/1917، وفق ما أورده المؤرخ البريطاني جوناثان شنير، بأن ألمانيا على أبواب إصدار وعد، من جانبها، بدعم مشروع «الدولة اليهودية»، وأن اليهود بدؤوا يتساءلون إذا ما كان من الأفضل بالنسبة لهم تحقيق هدفهم هذا عبر بريطانيا أو عبر ألمانيا وتركيا، مضيفاً بانه هو شخصياً مخلص لبريطانيا التي يحمل جنسيتها، ولكنه أوحى بأن غيره من اليهود ليسوا، بالضرورة، كذلك، وبالتالي يمكن أن يطرقوا الباب الألماني. هذا ما جاء في مقالة نشرها المؤرخ شنير في موقع مجلة «فورين بوليسي» الأميركية الشهيرة بتاريخ 8/9/2010، تحت عنوان مثير: «كيف ساعدت اللا سامية في ولادة إسرائيل».
وبما أن الحرب كانت، في النصف الثاني من العام 1917، تدخل عامها الرابع وهي في مرحلة ضبابية، حيث لم يكن واضحاً أيٌ من الحلفين الكبيرين ستكون له الغلبة، فالهاجس الرئيسي عند الحكومة البريطانية كان محاولة تجميع ما أمكن من الأوراق لصالح بريطانيا أولاً، ولصالح التحالف الذي تشارك فيه ثانياً. و«أولاً» هنا مهمة. فبالرغم من التحالف الوثيق أثناء الحرب مع فرنسا، مثلاً، إلا أن ذلك لم يمنع الحكومة البريطانية من خداع الحلفاء الفرنسيين، من بين الأطراف العديدة التي تم خداعها في هذه القضية.
حيث كانت حكومتا البلدين قد توصلتا إلى اتفاق سريّ في 16/4/1916 لتقاسم مناطق شرق المتوسط العثمانية في حالة تفكك السلطنة بعد الحرب، وهو الاتفاق الذي عُرف بعد ذلك باسم موقّعَيه، البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، والذي تم عرضه بعد ذلك على الحليف الروسي القيصري الذي وُعد بحصة في الكعكة من خلال التعهد بإتاحة سيطرته اللاحقة، بعد هزيمة السلطنة العثمانية، على القسطنطينية (إسطنبول) والأناضول. ومن سوء حظ البريطانيين والفرنسيين أن حساباتهم هذه بدأت بالتضعضع بعد أن خسروا الحليف الروسي عندما قامت ثورة أكتوبر 1917 البلشفية، وقام قادتها بكشف الاتفاقيات السرية للنظام القيصري وحلفائه، ومنها اتفاقية سايكس- بيكو، وذلك في الشهر الأخير من العام 1917، مما شكل صدمة لأطراف أخرى كانت موعودة من قبل البريطانيين بحصص من كعكة ما بعد الحرب، ومن بينهم الشريف حسين بن علي، أمير مكة في حينه، والملك اللاحق للحجاز بين العامين 1917 و1924.
وكان الشريف حسين قد اتفق مع البريطانيين في العام 1916 على مشاركة عربية في التمرد على العثمانيين على أرضية وعد بريطاني بمنحه مملكة عربية تشمل المناطق الناطقة باللغة العربية الواقعة شرق المتوسط، أي بلاد الشام والعراق. وبعض المصادر الرسمية البريطانية تشير إلى أن الوعد اشتمل على ذكر واضح لفلسطين. وهذا الاتفاق غير المعلن كان قد تم التداول به في المراسلات الشهيرة المتبادلة بين الشريف حسين والسير هنري ماكماهون، المندوب السامي البريطاني في مصر، بين أواسط العام 1915 وأوائل العام 1916، وهو ما قاد إلى مشاركة قوات من الحجاز في القتال مع البريطانيين منذ أواسط العام 1916. أما الورقة التي تم الاتفاق عليها في مطلع العام 1919، أي بعد انتهاء الحرب، بين حاييم وايزمن والأمير فيصل، ابن الشريف حسين، والتي تضمنت تفهماً من قبل الأمير العربي لتطلعات وايزمن والحركة الصهيونية في فلسطين، فلم تصبح سارية المفعول، لأن التزام فيصل كان مرتبطاً، كما ورد في النص، بتنفيذ وعد قيام الدولة العربية شرق المتوسط. وهو الأمر الذي لم يتحقق بعد ذلك، كما هو معروف. حيث جرى تقاسم المناطق المشرقية العربية بين فرنسا وبريطانيا، وقام الفرنسيون بطرد الأمير فيصل من سوريا في العام 1920 وسيطروا عليها بعد معركة ميسلون الشهيرة، بعد أقل من أربعة أشهر على تنصيبه ملكاً عليها. ومعروف أنه أصبح لاحقاً ملكاً على العراق، الذي سيطرت عليه بريطانيا.
وهكذا، فقد تم اقتسام مناطق شرق المتوسط، العثمانية سابقاً، بين بريطانيا وفرنسا، وحصلت بريطانيا على حصة الأسد، مع هذه السيطرة على العراق، البلد الواعد بالنفط في ذلك الحين، والمتاخم لإيران التي سبقته باستخراج النفط في وقت أبكر. واستطاع البريطانيون ضم منطقة الموصل إلى الكيان العراقي الذي سيطروا عليه، بعد أن كان الفرنسيون موعودين بتلك المنطقة في صيغة سايكس- بيكو. كما حصلت بريطانيا على انتدابها وحدها على المناطق الواقعة بين العراق والبحر المتوسط، والتي تشمل فلسطين والأراضي الواقعة بين العراق ونهر الأردن، حيث أقامت في العام 1921 إمارة شرق الأردن بزعامة الأمير عبد الله، الابن الآخر للشريف حسين. وكان البريطانيون يراهنون على أن الدولة، أو المحمية (الكومنويلث) اليهودية التي ستقام هناك بناء على وعد بلفور ستكون ركيزة أساسية للنفوذ البريطاني لحماية سيطرتهم على قناة السويس، القناة المائية الإستراتيجية في المواصلات الدولية في ذلك الحين، من جهة، ومن جهة أخرى، حماية طريق الهند، «درة التاج» البريطاني، كما كانت تُسمّى في ذلك الحين. هذا، علاوة على حماية مناطق النفط المكتشفة حديثاً في تلك المنطقة، المادة الخام التي بدأت أهميتها في الصناعة والمواصلات والحروب تتزايد في تلك الآونة.
ويبدو، هكذا، أن البريطانيين ناوروا ووعدوا أكثر من طرف بالأراضي العربية الواقعة إلى الشرق من البحر المتوسط، بما في ذلك فلسطين، التي كان من المفترض وفق اتفاق سايكس- بيكو السرّي أن يكون لفرنسا حصة فيها. لكن البريطانيين، في النهاية، خدعوا أيضاً حلفاءهم الفرنسيين، وليس فقط الشريف حسين بن علي وأبناءه، ففضّلوا إدخال الحركة الصهيونية على الخط، على أمل أن يكون الكيان الصهيوني العتيد محمية لهم، وبالتالي نقطة ارتكاز بريطانية في المنطقة، كما ذكرنا. ولكن، بالطبع، تطورت الأمور لاحقاً بشكل مختلف في الأربعينيات، مع خروج بريطانيا من الحرب العالمية الثانية منهكة وضعيفة، وحلول الولايات المتحدة مكانها كالدولة الغربية الرأسمالية الرئيسية، التي ستمد شبكة نفوذها بعد الحرب، بشكل تدريجي، إلى كافة المناطق العربية المستعمرة سابقاً، والى الدولة الصهيونية نفسها.
وكان قادة الحركة الصهيونية الرئيسيين قد اختلفوا مع بريطانيا بعد إصدارها للكتاب الأبيض في ربيع العام 1939، إثر الثورة الفلسطينية الكبرى التي بدأت في العام 1936، وهو الكتاب الذي تعهدت فيه بريطانيا بالحد من الهجرة اليهودية إلى فلسطين في السنوات اللاحقة. فاختار عدد من أبرز قادة الحركة الصهيونية، وخاصة دافيد بن غوريون، الاتجاه المبكر نحو القوة الصاعدة في سماء المنطقة والعالم، الولايات المتحدة، إثر انخراطها في الحرب العالمية الثانية بعد الغارة اليابانية المدمرة على الأساطيل الأميركية في مرفأ بيرل هاربر في أواخر العام 1941. حيث عقد القادة الصهيونيون مؤتمرهم الثاني والعشرين في فندق بيلتمور في نيويورك في أيار/مايو من العام 1942، وأعلنوا صراحة عن معارضتهم للسياسات البريطانية القاضية بالحد من هجرة اليهود الأوروبيين إلى فلسطين، وأوضحوا توجههم نحو إقامة الكيان اليهودي الخاص في فلسطين.
وهكذا، سيكون قد أتى دور الولايات المتحدة، بعد ثلاثة عقود تقريباً من صدور «وعد بلفور» البريطاني، لتواصل حمل المشروع الصهيوني ودعمه في المراحل الأخيرة من التحضير لإقامة الدولة، بدءا من الدفع بقوة لإعادة فتح باب هجرة اليهود الأوروبيين بدون قيود نحو فلسطين، وانتهاء بدعم مشروع تقسيم فلسطين في أواخر العام 1947، عبر الضغط على عدد كبير من الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة للتصويت لصالحه، ثم الإسراع للاعتراف بقيام الدولة الإسرائيلية بعد 11 دقيقة من الإعلان أحادي الجانب من قبل دافيد بن غوريون عن قيامها، لتكون الولايات المتحدة الدولة الأولى التي تقدم اعترافها الواقعي بالدولة الجديدة.. ( يتبع )
*عضو القيادة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ـ رام الله
|