New Page 1
قراءة في كتاب: "حدائق النّور" لأمين معلوف ... بقلم : سيمون جرجي
07/09/2009 21:19:00
قراءة في كتاب: حدائقُ النّور، أمين معلوف، ترجمة د. عفيف دمشقيّة، دار الفارابي، بيروت- لبنان، الطّبعة الثّانية 2001 (الجزائر).
Les Jardins de lumière
روايةٌ تاريخيّةٌ فلسفيّةٌ دينيّة في ثلاثمائة صفحة من تأليفِ اللبنانيّ أمين معلوف، تحكي قصّة رجلٍ يُدعى" ماني" وُلدَ في ماردين، وحملَ رسالةً دينيّة طافَ بها حيثما استطاعَ الوصول! سنحكيها في موجزٍ يذكّر بأهمّ أحداثِها، ثمَّ نعرضُ ما رأينا فيها وما أحببناه وما أبغضناه. يقسمُ الكاتبُ روايته إلى تمهيدٍ فأربعة أقسام ثمّ خاتمة قصيرة، سنتبعها واحدة تلو الأخرى.
تمهيد:
كانَ والدُ ماني، ويُدعى "باتيغ"، يبحثُ عن الحقيقة، وهو بارتيّ من طبقةِ المُحاربين، وأصلُه من "أيبكتان". اعتادَ على الحجِّ في كلِّ عام إلى معبد "نبو" القائمِ على تلّةٍ تُشرفُ على جسر "سلوقية" في المدائن عاصمة بابل. وهناكَ يتعرّفُ على شيخٍ تدمريٍّ يرأسُ طائفةً طينيّة تُقيمُ منعزلةً في بستانِ نخيلٍ في شمالِ بلاد بابل. وأمامَ دعوة هذا التدمريّ "سيتايي" يخضعُ باتيغ فيهجر امرأتَه الحبلى بطفلِه الوحيد "ماني" وينضمَّ إلى تلك الجماعة التي تلبسُ الأبيض وتُحرّم الخمرَ واللحمَ والنّساء! معتقداتُها خليطٌ من اليهوديّة والمسيحيّة وبدعة عند كلا الفريقين.
القسمُ الأوّل: بستان النّخيل وأصحاب الملابس البيضاء
في الرّابع عشر من شهر نيسان سنة 216، على عهدِ أرطبان ملك المدائن وكركلا إمبراطور روما، وُلدَ ماني ابنُ باتيغ من مريم في مدينة ماردين. وبعدَ ثلاثة أعوامٍ يُحضَر للإقامة في وسط جماعة بستان النّخيل. هناكَ ينمو ويتعلّمُ وبعدَ مرورِ أعوامٍ يصدفُ أن يصنعَ معروفاً مع صوريٍّ سمينٍ يُدعى "مالكوس" منتمٍ إلى الجماعةِ شكلاً، عُوقبَ لأنّه تجاوزَ القوانين، ومنذ ذلك الحين كنَّ له هذا الصوريُّ مودّةً وإخلاصاً دامَ عليهما طوال حياته.
وفي أحد الأيّام يتعرّف ماني إلى فتاةٍ يونانيّة يُحبّها مالكوس وتُدعى "كْلوويه"، وهذه تُحبّ ماني، لكنّه يردعها بحجّة العهود التي قطعها على نفسِه! وبعدَ زمنٍ يعلمُ ماني أنَّ مالكوس وكلوويه تزوّجا وأقاما في المدائن.
بعدَ صبرٍ طويلٍ، وفي الرّابعةِ والعشرين من عمره، يتلقّى ماني من شفتي توأمه (الرّوحي) الكلمات التي طالما أملَ في سماعِها: "ها قَدْ أزفّت السّاعة لكي تتجلّى لعيون العالم، وتترك بستان النّخيل هذا... ". وفي أحد صباحات نيسان من سنة 240 قرّر الرّحيلَ باحتفالٍ كما قرّرَ أن يسلخَ عنهُ هذا الجلدَ الأبيضَ الذي غلّفه لعشرين عاماً.فدخلَ احتفالَ الصّلاةِ بثيابٍ ملوّنةٍ استفزّت الجميع، وبعدَ حوارٍ قصيرٍ مع أبيه باتيغ، خضعَ لمحكمة الجماعة حيثُ كشفَ عن رسالته كما تكلّم بالسّوء على أصحاب الملابس البيضاء ومعتقداتهم، وتعرّض لهجومٍ بالوحل من قبل بعضِهم وأخيراً رحلَ.
القسم الثّاني: من "دجلة" إلى "السّند"
المدائن محطّة ماني الأولى، أكبر مدن وادي "دجلة" وعاصمة الملوك البارتيّين سابقاً والساسانيّين لاحقاً. فيها أمضى ماني ليلته الأولى في منزلِ صديقيه مالكوس وكلوويه بعدَ ترحيبٍ حارّ. وفيها أيضاً يباشرُ ببعضِ تعاليمِه ممّا يتسبّب في مخاوفِ مالكوس الذي يحدّثه عن الملك الجديد "أردشير" وتحريم العبادات المختلفة ونشر عبادة النّار دين الساسانيّين الوحيد. في هذه الأثناء يصلُ باتيغ والدُه ويُحاول إقناعَه بالعودة إلى بستان النّخيل، لكنّه بدلاً من ذلك يُقنع أباه بالبقاءِ معه، فيُصبحُ هذا الأخير، بعدَ أن وضعَ ماني يدَه على رأسِه، أوّل مريديه.
يستمعُ ضابطٌ إلى إرشاد وتعليم ماني ويعلمُ أنّه وأباه من سلالة البارتيّين، فيهدّد مالكوس ويطلبُ منه رحيلهما عن المدائن. وقبلَ أن يخبرَ هذا صديقَه بذلك، يقرّر ماني الرّحيلَ فيرافقه باتيغ ومالكوس حتّى شاراكس. لم تكن الرّحلة البحريّة من هذه المدينة وحتّى وادي نهر السّند (الهند) هادئةً ومطمئنّة، فقد تعرّضوا خلالها لمهاجمة الحيتان ثمَّ لإعصارٍ عنيفٍ في اليوم الثّالث يمرُّ دون ضرر. وفي أثناء الرّحلة البحريّة تنشأُ مودّةٌ بين ماني وربّان السّفينة فيرافقه هو وصاحباه في مأكله ومشربه وحتّى في أفكارِه وخططه. أخيراً وصلوا "دَبْ" المدينة القائمة في دلتا نهر "السّند" وحالما بلغوها توجّه ماني إلى الكنيسة وكانَ يومَ أحد! بعدَ الصّلاة والعظة التي يلقيها ماني يستضيفهم كاهن الكنيسة في منزله برفقة أحد وجهاء الطّائفة، وهذان يعلمانهم خلال الطّريق أنَّ والي المدينة وحاميتها قد هجروها تاركينها في يدِ الفاتح الجديد الأمير هرمز حفيد أردشير الملك، وهو بعسكره على مسيرة يومٍ واحدٍ منهم، بينما سكّان دَبْ مرتعبون خائفون. وبعدَ جدالٍ قصيرٍ يتكلّمُ ماني معلناً عن ذهابِه للقاءِ الأميرِ بنفسِه!
في خيمةٍ من قماشٍ فاخرٍ يلتقي بطلُنا بالأمير هرمز وهناك تدورُ رحى نقاشٍ حامٍ بين ماني وبين الأمير هرمز والموبَذان كردير. الأوّل يُحاولُ أن يمنعَ مذبحةً على وشك الوقوع في حقّ سكّان دَب، والموبذان يؤكّد للأمير على أنّها إرادة السّماء ورغبة رجالِه. فجأةً تقتحمُ المجلسَ ديناغُ وهي فتاةٌ تهتمّ برفقة ابنة الأمير بعد وفاة والدتها، لتخبرَه أنَّ ابنتَه وقعتْ وغابتْ عن رشدِها. يعرضُ ماني المساعدةَ كطبيبٍ ويشفيها بعدَ قضاءِ ليلةٍ من السّهرِ والمراقبة. لقاء ذلك يعرض عليه الأميرُ مكافأةً ذهبيّة إلا أنَّ ماني يرفضَها ويطلبُ بدلاً منها الفتاة ديناغ وهي ابنة قائدٍ أنقذَ الأمير هرمزَ في إحدى المعارك وماتَ بدلاً منه، وإكراماً لبذلِه كفلها الأميرُ كابنته. بعدَ عناءٍ يستجيبُ هرمزُ ويهبها له ويعدلُ أيضاً عن ذبح ونهب أهل دَب جزاءً لما فعله.
عادَ ماني ورفاقُه إلى مدينة دَب من جديد وقرّر الإقامةَ في قصرِ الحاكمِ الهارب. وفي نهاية القسمِ الثّاني هذا نقرأ بعض التعاليم الأساسيّة التي يلقيها ماني على السّائلين كما يُحدّثنا المؤلّف عن دخول الساسانيّين دَب ثمَّ موت أردشير ملك الفرس.
القسم الثّالث: بجوار الملوك
في المدائن يدخلُ ماني على ملكِ الملوك مرفقَاً بكتابٍ مجيدٍ بحقّه كتبه الأمير هرمز إلى أبيه، ويعرضُ رسالته في البلاط وهناك يُرى بين الحضور كردير المُوبَذان الذي يُسارعُ إلى اتّهامِ ماني (كونه ناصريّاً) بإهانة الفرس وعباداتهم ومعتقداتهم، وما أن يهمُّ الملكُ بالحكمِ عليهِ، حتّى يُخلّصه مُربّيه "بادهام" طالباً الاستماعَ إلى دفاعِه! بعدَ ذلك سيوافقُ الملكُ شاهبورُ على رسالة ماني ويُصدر تشريعاً يسمحُ له فيه بنشر ديانته في كلّ مكانٍ وزمانٍ كما لو كان رسولَه الخاصّ.
يبدأ ماني رسالتَه في بيت لابات وهي إحدى قرى سوزيانا (خوزستان اليوم) وحيثُ طائفة مسيحيّة نشطة، لكنّه لا يلقى فيها التّرحيبَ بتعاليمِه المتعلّقة بالتّساوي بين جميع الطبقات وإلغاء امتيازاتها. وهذا التعليم بالذّات كانَ إحدى الحجج القويّة التي سعتْ لإفساد سمعته لدى الملك شاهبور. ومن جهةٍ أخرى تضاعفَ عددُ أتباعِه بين الحرفيّين والتجّار والغرباء والمهجّنين.
يقرّر ماني فجأةً زيارة أيكبتان عاصمة ميديا ومسقط رأس والده، وحيثُ إقطاعة الكهنة منذ القِدَم. وفي الوقت نفسِه يقرّر عدوّه كردير زيارتَها مصطحباً حليفَه بهرام ابن شاهبور البكر وعدوّ ماني الثّاني. وهناك يُضيّق الجندُ حرّاس القلعة بأمرٍ من بهرام على ماني وديناغ لثلاثة أيّامٍ يقعُ بطلُنا في آخرها مغشيّاً عليه. على أثر هذه الحادثة يُعاقبُ شاهبورُ ابنَه بهرام بحبسه في أحد الأجنحة المُخصَّصة لرحلات الصّيد ويرسل في أثر ماني طالباً منه المثولَ أمامه.
في قصرِ الملك، في حجرةٍ اعتياديّة لا علاقة لها بقاعة العرشِ وقوانينها، يلتقي الملكُ بالرّسولِ ويتحاوران حولَ ما قامَ به بهرامُ وما فعله ماني حتّى اليوم. كما ويتركُ الملكُ لنفسِه الحريّة في حديثٍ سلبيٍّ طويلٍ عن الكهنة وأفعالهم في طول الإمبراطوريّة وعرضها. وأخيراً يُخبره أنَّ عليه الكفّ عن التجوال والتبشير تاركاً تلامذته يفعلون ذلك، فأمّا هو فسيرافق ملك الملوك في كلِّ مكانٍ بعدَ أن يُخصَّص لهُ مقعدٌ مميّزٌ في جميع القصور.
يخرجُ ماني من هذا اللقاء ليحبسَ نفسَه في غرفته في منزلِ صديقِه مالكوس ساجداً صائماً متأمّلاً لثلاثة أيّامٍ يخرجُ بعدَها معلناً لتلامذته أنَّ النصرَ قريبٌ، ثمَّ يُرسلهم إلى أقاليم الإمبراطوريّة الأربعة ويكتبُ مئات الرّسائل والأناشيد والمزامير وأحد أهمّ كتب تلك الحقبة شارحاً فيه تعاليمَه بالرّسوم والتّصاوير.
في المقطع الخامس من هذا القسم يستفيضُ الكاتبُ في ذكرِ الوقائع التاريخيّة المرتبطة بالإمبراطوريّتين الفارسيّة والرّومانيّة داخليّاً وخارجيّاً ويُبعدنا بهذا قليلاً عن صلبِ الأحداثِ المتعلّقة بابن بابل وتعاليمه الجديدة. ويُنهي حديثَه فيه بمعاهدة السّلام التي وقّعها إمبراطورُ روما فيليبوس العربيّ وملك الفرس شاهبور لقاء مئة ألف قطعةٍ ذهبيّة تدفعها روما كلّ عام جزيةً لفارس.
يُقتل فيليبوس العربيّ ويواصل خلفه دسيوس دفعَ الجزية علناً هذه المرّة لكنّه يُقتل هو الآخر بعدَ سنتين، ويعجزُ المتنازعون على العرش على الاستمرار في دفع تلك المبالغ الكبيرة، ممّا يدفع بشاهبور إلى إعداد الجيش للحربِ ويطلبُ من ماني مرافقته ومناصرته وهذا يرفض.
القسم الرّابع: طردُ الحكيم
انطلقَ شاهبورُ إلى الحربِ برفقةِ حاشيته وجيشٍ جرّار واجتازَ أرمينيا فاتحاً المناطقَ والمدنَ حتّى أنطاكية بعدَ تخريبها ونهب أكثرها، بينما كانَ ماني طوال الحرب يسعى في فتوحٍ من نوعٍ آخر، وينشر تعاليمَه المنافية لكلّ حربٍ وقتل. يخسرُ الرّسول في أعوام الحرب مكانَه في البلاط ويزدادُ عداءُ كهنة النّار له ولتعاليمه! وفي العام الرّابع لإعلان الحرب يصعدُ إلى عرشِ روما فاليريانوس ويمرضُ الملك شاهبور فيصرف الجيش على إعادته بعد عام.
تسقطُ أنطاكية في يدِ الرّومان من جديد، ويبحثُ ملكُ الملوك عن ماني، بينما يكون هذا في ماردين في زيارة قبر والديه حيثُ يتداعى ويمرض ويعود إلى المدائن منهوك القوى محمولاً على الأكتاف، وعلى الطّريق يبلَّغ استدعاء الملك فيتخلّف بسبب تعبه لكنّه يلبّي مرغَماً عندَ الاستدعاء الثّاني.
في القصرِ دارَ حوارٌ حزينٌ مؤثّرٌ بين شاهبور الذي شعرَ بتخلّي ماني عنه بسبب قرار الحرب، وبين الأخير الذي اتّخذَ موقفَ الصّديق المعزّي دونَ كلامٍ كثير، وينتهي الحوارُ بعدما يحصلُ ملكُ الملوك على ما يُريده بالحيلة، أي مرافقة ماني في الحرب الجديدة. ولا بُدَّ، قبل الانتقال إلى الجزء الثّالث من هذا القسم، من ذكر ضفيرة ديناغ وأهميّتها عندَ تلامذة ماني وخاصّة بعدما يشاهد مالكوس الرسولَ وهو يعقدُ ضفيرة تلميذته المحبوبة.
في الجزءِ الثّالث نشهدُ معركة الرّها بين امبراطوريّتين عظيمتين يكسبها الفرسُ على يد شاهبور الذي يأسر فاليريانوس إمبراطور روما ويفتّت جيشَها بمعونة كبيرة يُقدّمها له خائنٌ من ضبّاط الرّومان. قبلَ الحرب نشهدُ خسارةً أخرى في بلاط ملك الملوك كانت من نصيبِ ماني الذي صمتَ أمام سؤال شاهبور عن الإقدام على الحربِ أم لا!
ينتصرُ ملكُ الملوك نصراً لا مثيل له، ويعودُ مظفّراً إلى عاصمته حيث يُقامُ احتفالٌ كبير يعظ فيه كردير رئيس كهنة النّار ويلعن ماني ويشتمه فيُسكته الأمير هرمزُ (ملك أرمينيا). وفي هذه اللحظات بالذّات يتّسعُ الخرقُ بين شاهبور الملك وماني الرّسول، فالأوّل لن يغفرَ لماني أنّه كادَ، بصمتِه قبل المعركة، أن يحرمه من أعظم انتصارات ملكه؛ والثّاني لن ينسى لشاهبور صمتَه أمام لعنات وشتائم كردير.
طالَ الفراقُ بين الاثنين وبعدَ أحد عشر عاماً يُستدعى ماني للمثولِ أمام الملك في بيت لابات التي أصبحتْ "غونديشاهبور". في هذا اللقاء يطلبُ العاهلُ من طبيب بابل أن يرسمَه في كتابِ رسومِ أجداده وهكذا يفعل ماني طوال سبعة أيّام على مدى ساعتين كلَّ يوم لينهي الرّسمَ الذي يتركَ الملكَ في حسرة! ينتقلُ الكاتبُ بعدَها ليُحدّثنا عن علاقة ماني بزنّوبيا ملكة تدمر بعدَ أن تلتقي بهِ في الحلم لتستيقظ وقد شُفيَت تماماً من مرضٍ أتعبَها، فتعتنق المانويّة السّمحة على أثرها وتسمح بعبادة جميع الأرباب.
يُفتتَح الجزءُ الخامس من هذا القسم الأخير بموت شاهبور، وإعلان ولده هرمز ملكاً لفارس من فم كردير بالذّات، وفي وسط الأهازيج يبحثُ الملكُ الجديد عن ماني ويراه دون أن يلفتَ نظرَه بينما يذهبُ هذا للقاءِ جثمان شاهبور ووداعه! يلتقيان في صباح اليوم التّالي ويطلبُ العاهلُ الجديد من الرّسول السّماحَ له بإعلان معتقده دينَ الإمبراطوريّة الجديد، فيرفضُ ماني خشية إخفاقٍ آخر ويسأل الملكَ الحكمَ بالعدلِ وحريّة نشر معتقده السّمح، وهكذا يبقيان صديقَين كلّ في طريق. تشهدُ المانويّة عصرها الذهبيّ تحت حكم هرمز القصير.
يحلّ عيد النوروز ويُحتفل بتنصيب الملك الجديد وفي نهاية الاحتفال يشربُ هرمزُ كأساً مسمومةً أعدّها كردير فتفيض روحُه ويُختارُ أخوه بهرام ملكاً بدلاً منه. أوّل ما يفعله هذا عندَ دخول المدائن هو طردُ الحكيم ماني من أراضي الإمبراطوريّة. يتقبّل الرّسولُ الأمرَ ويقصدُ الهندَ لتبشيرٍ جديد وخلال الطّريق يوقفه توأمُه ويُعيده من حيث جاء. يرسلُ بهرامُ جنداً لاعتقال ماني بينما يذهبُ هذا دون اعتقال للقائه، وهناك، وبعدَ انتظارٍ طويل، يلتقيان بحضور كردير الذي صارَ المستشار الأوّل فيُتّهم الرّسولُ بشتّى الاتّهامات ويعلمُ من كلّ ذلك أنَّ شاهبورَ كان قد أرسلَ في طلبِه وهو على فراش الموت. وفي المكان نفسه يُخضَع ماني لمحاكمة شكليّة حُكمَ عليه فيها بالعذاب حتّى الموت.
يُكبّل ويُربَط بسلاسلٍ ثقيلة في وسط فناءٍ مبلّط عندَ أحد مواقع الحراسة، ولم تُمنع عنه الزّيارات، لكن عن بعد معيّن وحتّى غروب الشّمس موعدِ إغلاقِ باب الفناء. في اليوم الثّالث يزوره بهرام الملك ليسأله عن سرّ ذاك الصّوت السماويّ وعن سرّ إعجاب أخيه وأبيه به، فيقصّ عليه ماني حكايته منذ البداية وحتّى اللقاء الأوّل مع شاهبور. ويتحادثان دون أن يذكرا بكلمة عذابَ ماني أو العفوَ عنه! وفي اليوم الثّامن يزورُه "زراف" عازف العود وموسيقيّ أردشير وشاهبور، وهو أحد المعجبين بتعاليمه، ويعزفُ بالقرب منه أرقّ ألحانه. وفي الليلة نفسِها يقضي نحبَه قبلَ أن تمتدَّ إليه يد الملك الظّالم.
في اليوم الرّابع عشر يبكي ماني، وفي التّاسع عشر، حيث ظُنَّ أنّها النّهاية، فاه ببعض التعاليم التي سكبت العزاءَ في قلوبِ مريديه. وفي اليوم العشرين يأمر أتباعَه بالرّحيل بعيداً عن الاضطهاد، بينما يحملُ هؤلاء وصيّةً مختلفة تقضي بكتابةِ اسمِه في كلّ مكان.
وفي اليوم السّادس والعشرين انطفأ سراجُ النّور وكانَ ذلك في يوم الاثنين الواقع في الثّاني من شهر آذار سنة 274 للميلاد. يأمرُ الملكُ بتعليقِ جثمانه العاري المحشوّ بالقشّ على مدخل بيت لابات دليلاً على موته.
خاتمة
يدافعُ فيها الكاتب عن ماني ودعوته ويهدي الكتابَ الذي يترجمُ له إليه.
نظرة موجَزة:
لغةُ الرّواية لغة فلسفيّة حكميّة أكثر منها جماليّة تصويريّة، فالرّواية كما تبدو منذ بدايتها تاريخيّة تُترجم لأحد أشهر معلّمي القرن الثّالث. يستخدم المترجم بعض المفردات والتعابير غير المألوفة على قرّاء عربيّة اليوم، ممّا يزيد من رهبة القراءة والتمهّل فيها، إلى درجةٍ أعدتُ فيها قراءة بعض الجمل لأكثر من مرّة! اللغة جزلة متماسكة خالية تقريباً من الأخطاء الإملائيّة والنحويّة التي تعجُّ في الكتب المطبوعة، أتأليفاً كانت أم نقلاً عن لغةٍ أخرى. وهذا دليلٌ على حرصِ الكاتبِ والمترجم على إخراج الرّواية في أبهى صورة ممكنة من حيث اللغة والإخراجُ الطباعيّ، وهذا كلّه لا ينفي السّهوَ المرتكب أحياناً في إنقاصِ حرفٍ أو إضافة آخر، أو وجود عيبٍ إملائيٍّ أو نحويٍّ وغالبيّتها تُعزى إلى الإشراف الطباعيّ! وإذ حاولَ الدكتور دمشقيّة جهدَه في الحفاظ على لغة النصّ الأصليّة، إلا أنّه أخطأَ في نقلِ أسماء بعض الأماكنِ والأشخاص، فوضعها برسمِها الفرنسيّ على خلاف المتعارف عليه في العربيّة منذ قرون.
حاولَ الكاتب أيضاً أن يكونَ أميناً للتاريخ بشكلٍ واضحٍ في طول الرّواية وعرضِها من خلال ذكرِ الأحداث والأعوام بالتفصيل، وكأنّنا أمام عملٍ تاريخيٍّ من نوعٍ جديد، إلا أنَّه لم يستطع أن يتفادى بعضَ الثغرات سآتي على ذكرِها بالتتابع:
- بعدَ أن يغفل ذكرَ الهزيمة التي مني بها شاهبور على يد الإمبراطور غورديانوس الثّالث الذي استعادَ أنطاكية من يد الفرس في سنة 242 م.، يقولُ كاتبنا معلوف إنَّ ملك الملوك شرعَ في الحربِ على الرّومان بعدَ مقتلِ الإمبراطور دسيوس خليفة فيليبوس العربيّ، وكانَ هذا في سنة 251، ثمَّ يكمل في مكانٍ آخر ويتحدّث عن صعود الإمبراطور فاليريانوس إلى عرش روما في العام الرّابع على دخولِ الحرب، بيدَ أنَّ التّاريخ يؤكّد على إمبراطوريّة هذا الأخير في سنة 253، أي بعدَ عامين فقط على الحرب!
- فأمّا عن الأسر فيُذكر أنَّ الإمبراطور فاليريانوس وقائد جيشه التقيا بشاهبور من أجلِ عقدِ اتّفاق سلام، فيه يُؤسران؛ بينما يتحدّث المؤلّف عن خيانة أحد الضبّاط الرّومان توقع بهما وبعددٍ كبيرٍ من الجنود!
- ثمَّ يذكرُ مصدرٌ مسيحيّ كتبه لَتّانسيوس أنَّ الملك الفارسيّ يستخدم فاليريانوس بعدَ أسرِه كمسندٍ لرجليه عندَ امتطاء جواده، يقتله لاحقاً ويسلخ جلدَه ليملأه قشّاً ثمَّ يضعه في أحد المعابد ذكرىً لانتصارِه! بينما تتحدّث المصادر الفارسيّة عن إرسالِه إلى مدينة "بيشاهبور". إلا أنَّ الكاتبَ يضعُ الإمبراطور على رأس مجموعة من الجنود الأسرى في بناء سدّ عُرفَ لاحقاً باسم "سدّ القيصر"!
- وإذا عُدنا إلى اللوحة التذكاريّة التي شُيّدت ذكرى لذاك الانتصار الكبير، يصفُ المؤلّف شاهبور على صهوة حصانِه ويده اليُسرى على مقبض سيفِه المغمَد، وذراعه اليُمنى ممدودة بأمارة الرّحمة نحو فاليريانوس الجاثي على ركبتيه، وإلى جانبِه يقفُ رومانيٌّ آخر هو الضابط الخائن "سيرياديس"! بينما ما زالَ هذا النّقش محفوراً في الصّخر يوضح فاليريانوس شبه جاثٍ على ركبةٍ واحدة فقط (على عادة الرّومان) بينما يتلقّى شاهبور الملك بيده اليُمنى الجزية من فيليبوس العربيّ الرومانيّ الثّاني في هذه اللوحة.
يذكرُ لنا التاريخ المسيحيّ أنَّ مار أفرام السريانيّ كانَ السبّاق إلى الوقوف في وجه المانويّة، عندما وضعَ بعضَ الأناشيد فنّد فيها ماني ومذهبه. ومن خلالِها فسّر المانويّة وثنائيّتها التي تضعُ الإنسانَ بين النّورِ والظّلام، منقسماً على ذاته، مسجوناً في جسدِه. وراحَ أفرام يُدافعُ عن نفس الإنسان وحريّتها، وخطّأ ماني في نسبِ الخطيئة الأولى إلى صدفة الخلق والاختلاط الكونيّ، وعزاها إلى حريّة الإنسان، كما عزا اختلاط الخير بالشرّ إلى إرادة الإنسان نفسه!
وهكذا أختمُ هذا العرض الموجَز لسيرة ماني كما رآها أمين معلوف، تلك التي قادتني معها عبر حدائق النّور، وجعلتني أنحازُ إلى بطلنا الأعرج هذا، وأفرحُ وأحزنُ معه، وأنفعلُ في أثناءِ حوارِه الحزين مع ملك الملوك قبل بدء الحرب، وأبكي معه على قبرِ مريم وباتيغ والديه، وأبكي من جديد عندَ لقائه الأخير بشاهبور بعد أحد عشر عاماً من الغياب، وألعن أخيراً بهرام وكردير على ما فعلاه!
|