New Page 1
سؤال الحرية في فكر هشام شرابي / بقلم عبد العزيز بومسهولي
13/10/2009 09:54:00
"إن الإرادة المتفهمة للتاريخ والقادرة على التريث في ظل التاريخ,قادرة على تفهم حتمية التاريخ، والفوز بالحرية التي يسبغها هذا التفهم". شرابي[1]
"إن الحرية مفهومة على أنها ترك الموجود يوجد تكمل و تحقق ماهية الحقيقة على شكل انكشاف لموجود".هيدغر[2]
1- سؤال الحرية, سؤال التجاوز:
إن أهمية المفكر العربي (هشام شرابي) تتمثل في كونه من أبرز مفكري المرحلة العربية الراهنة, الذين أسهموا في التأسيس لأرضية فكرية ينبني عليها نقد جديد للمجتمع العربي يقوم على استراتيجية مزدوجة تروم الانفلات من القبضة البطركية, من خلال خلخلة أسس التصور الأبيسي من جهه, و استعادة لحظة التجاوز المؤسسة لوجود مغاير من جهة أخرى,وجود ينبثق فيه إنسان جديد يستعيد إرادته المتفهمة للتاريخ,من أجل الالتحام بالحرية و تحقيق الوجود العيني للإنسان العربي, أو بالأحرى تحقيق الوجود بالحرية. إن استراتيجية النقد الحضاري الذي يدعو إليه هشام شرابي, تضع سؤال الحرية ضمن قلب اهتماماتها, و من ثم فالمنظور النقدي الذي يؤسس له شرابي, يجعل من الحرية محايثة للوجود التاريخي للإنسانية, فهي"من يترك الموجود يوجد" على حد تعبير هيدغر, هذا الوجود الذي تحايثه الحرية هو ما يؤسس لإمكانية التاريخ, حيث يظهر الإنسان على نحو منفتح خارج ذاته,بما أنه يوجد على نمط الوجود البراني.[3]
لكن المعضلة الأساسية التي تظهر في سياق صيرورة التاريخ, إنما تتمثل في فصل الكائن التاريخي عن إرادته أي عما يستطيعه, فيغدو بالتالي مغتربا عن حريته, و من ثم فانه يضحى مفصولا عن تاريخيته, بل أنه لا يغدو إلا تعبيرا عن نزعة عدمية كما يدعوها نيتشه, و هي نزعة تجد مسوغاتها في إعادة إنتاج خطاب ارتكاسي يحول دون التحام الإنسان بالحرية, و لا يمجد بالمقابل سوى القيم العدمية تلك التي تتخذ من الخطاب وسيلة لتكريس الفصل بين الإنسان وقوى الحياة, و إذا ما استعدنا موقف شرابي الفكري فإننا نجده في نقده الحضاري يتخذ موقفا إستراتيجيا من هذا الخطاب الذي يمكن وصفه بالعدمية, باعتباره يلغي الحرية لحساب قيم أبوية تمجد الطاعة و خضوع الإرادة, و من ثم فان نقد شرابي" يتجه إلى دراسة إشكاليات التعبير الاجتماعي و التحرير الذاتي"[4] ذلك لأن الخطوة الأولى و الحاسمة في التحرير تكمن كما يقول شرابي في "التحرير الذاتي", وأن بداية التحرير تكمن في التخلص من عبودية الفكر المسيطر"[5].
إن استراتيجية هشام شرابي النقدية تضع ضمن أولوياتها التاريخية استرداد الحرية أو استعادة الإنسان لقواه التي غيبتها إرادة وصية أضحت بفعل الاجترار التاريخي تمارس الحجر على الإنسان العربي,و من ثم تحول دون انبثاق مجتمع متحرر يلتحم بالحياة,و تكمن جرأة الموقف النقدي لدى شرابي في اتخاذه من التقويض وسيلة تخدم إستراتيجيته النقدية, وهو ما يعبر عنه في النقد الحضاري قائلا "أن النقطة الأساسية التي أود التشديد عليها, هي أن الشرط الأول لضمان الحرية الاجتماعية, فكرا و ممارسة, هو الإطاحة بالهيمنة الكلية لأي خطاب, بما في ذالك الخطاب العلماني أو الاشتراكي و الثوري"[6].
إن استعادة الحرية و ضمانها من خلال هذا المنظور الاستراتيجي مرتهن باستعمال مغاير للنقد يقوم على التقويض و الانفلات من الهيمنة الكلية للخطاب,فالمسألة شبيهة بما يسميه فوكو " الاستعمال المغاير للتاريخ "الذي لم يمكن يقصد به سوى التقويض الدائم لتطابقنا,لأن هذا التطابق الوهن بالرغم من كل شيء, و الذي نحاول أن نؤمن عليه و نحفظه خلف قناع ليس إلا افتعالا ذلك لأن التعدد يقطنه,و نفوس عدة تتنازع داخله, و الأنظمة تتعارض و يقهر بعضها بعضا. بمعنى أن الاستعمال المغاير للتاريخ هو انفلات عن قبضة هيمنة مفتعلة ترهن الإنسان داخل خطاب الميتافيزيقا الممجد للأصل,لكنه بالمقابل يحول دون أي اختلاف يسمح باستعادة فكر الإنسان من حيث هو كيفية أصيلة في صيرورة الوجود التاريخي.
إن شرابي شأنه شأن مفكري الاختلاف يستهدف نقده لواقع المجتمع العربي"خلخلة الخطاب السائد الذي يحجب الواقع و يموه حقيقته".[7] وذلك ببلورة مفاهيم و صيغ فكرية تستهدف العقل في الواقع من خلال تغيير وعي الواقع, غير أن خلخلة الخطاب السائد يقتضي في منظور الإستراتيجية النقدية لدى شرابي "بناء خطاب مضاد"يكشف حقيقة الخطاب السائد و يعريه و يفضحه؟ و هذا ما قام به شرابي في أعماله المتوالية التي تشكل مشروعه الفكري.
إن سؤال الحرية يشكل بالنسبة لهشام شرابي نقطة جوهرية, باعتبارها الغاية النهائية أو الغاية التي يقتضي تحقيقها, الإطاحة بنسق الهيمنة الذي يغذيه الخطاب الابوي .
إن" الأبوية " هي إذن ما يشكل حجرا على مشروع الانفتاح على التاريخ, أي على الانصهار في صيرورة الوجود حيث تغدو الحرية غاية هذه الصيرورة التي على أساسها يستعيد الإنسان كيانه أو بتعبير شرابي"يفوز بالحرية", و يغدو في صلب أنطولوجيا الحاضر,و ليس الانفلات من قبضة"الأبوية"سوى تحررا من حالة القصور والعجز التي يعد الإنسان مسؤولا عنها كما أشار كانط إلى ذلك في سؤال التنوير.
إن استراتيجية شرابي يمكن اعتبارها, منظورا فلسفيا يؤسس إلى إمكانية الحرية, و من ثم فهي تتخذ أبعاد متعددة, فهي تنخرط في قراءة أصول الخطاب الأبوي, بمعنى أنها تنخرط داخل حركة الفكر لتعيد قراءة _الأبوية_من تاريخها, لتؤسس في ذات الآن للانفصال عن البنية البطر كية,و ليس الانفصال سوى التجاوز,الذي لايتم إلا بالخلخلة والتقويض. و كما هو الشأن لدى هيدغر, فان الإعلاء من شأن التقويض إنما يعنى الإمكانية القصوى للاسترجاع التي تتيحها القراءة المضادة, و من ثم فالاسترجاع ليس رفضا للتراث و إهمالا له, و إنما تملك له, «إلا أن التملك إنما هو تملك لفراغات والأستذكارهو استذكار لنسيان.إن تاريخ الميتافيزيقا لا يمكن أن يكون إلا تجاوزا"[8
وبالمقال فان شرابي من خلال النقد الحضاري يستعيد النظر في الموروث السائد الذي يستند إلى هيمنة ميتافيزيقا تمجد الأبوية و تعتبرها الأصل التابث,كما يتيح أمامنا إمكانية قراءة مضادة نفهم من خلالها أسس البنية البطركية لنستعيد استذكار"نسيان_الحرية",إن تقويض الميتافيزيقا البطركية لا يتم إلا بتذكر هذا النسيان الذي جعل المجتمع العربي مفصولا عن قواه الحية,عن قدرته و إرادته في الحرية,فالدخول نحو التاريخ العيني يقتضي لدى شرابي التخلص من تاريخ الميتافيزيقا البطركية ,والتخلص هو تجاوز و انخراط في لحمة الوجود,انه بداية التاريخ,و استئناف لحركة الفكر الملتحمة بالحدث.
إن المسألة لدى شرابي ليست هينة و لكنها مصيرية و هذا ما يكشف عنه شرابي حينما يؤكد على أنه "إذا ما أردنا مجتمعنا العربي أن يتجاوز أزمته المتفاقمة, و أن يسترجع قواه, و يدخل ثانية مجرى التاريخ, فلابد له من القيام بعملية نقد حضاري يمكنه من خلق وعي ذاتي مستقل, و استعادة العقلانية الهادفة "[9]
إن الوعي الذاتي المستقل هو أساس الكينونة الحرة التي تحوز إرادتها الخاصة عبر استعادتها للحرية,و عبر جعل هذه الاستعادة موضع اعتراف, فاستعادة الحرية التي ثم فصلها عن الكينونة, إنما تتم على قاعدة الأخرية, و من ثم يغدو الاعتراف مدخلا للتاريخ الكوني, و مع ذلك فان حصول الوعي الذاتي المستقل يتطلب فهم تاريخية الذات العربية فهما تاريخيا, و إن "تحقيق هذه الخطوة في رأي شرابي_ليس أمرا سهلا, و إنما هو في غاية الصعوبة, إذ أن التحرر الذهني يتطلب عملية غسل دماغ جذرية وطويلة المدى, و إعادة النظر في جميع ركاِِِِئز الفكر الموروثة,و المستمدة من الثقافة وإخضاع هذا الفكر لنقد مستمر و شامل. [10
إن شرابي لطالما دعا إلى فحص الركائز التي تقوم عليها النزعة البطركية سواء في مظهرها القديم أو من خلال مظهرها المحدث, و هذه الركائز الموروثة لا تعمل سوى على تقوية و ترسيخ الهيمنة, و تحويل الوعي لا إلى انفتاح القدرة و الإبداع المرتهن بالحرية ولكن إلى نمذجة, و بالتالي فالأبوية لا تغدي إلا وعيا منمذمجا, و من ثم فخاصية الوعي المحدث كما يستنتج شرابي, إنما تتمثل في "نزعته إلى تحويل النماذج إلى أصنام".[11] وليس هناك أخطر ما يحول دون الإنسان و رغبته في الحياة سوى هذا التنصيب الذي تمارسه النزعة البطركية للنماذج التي ستغدو أصولا على أساسها يتم بناء الفكر و السلوك, لكنه فكر منفصل عن الحدث, و سلوك منفصل عن الإرادة الحرة, بمعنى أن النزعة البطركية تغدو أكثر فعالية في إنتاجها للقيم العدمية التي لا تنتج إلا الإنسان الارتكاسي.هذا الإنسان الذي يستعاد في الوعي المنذمج لا على كونه أكثر قدرة و مسؤولية و مبادرة, و إنما على أساس نزوعه العدمي نحو " المحاكاة"و"الامتثال"و من هنا فان "الصعوبة الحقيقية التي يطرحها الوعي المنمذمج غير المستقل تتعلق بأنماط التفكير أكثر مما تتعلق بمحتواه.و تبعا لذلك لا تنجح الثقافة المؤسسية بمفردها في تحقيق تغير جدي في مستوى الشعور لدى المجتمع البطركي الحديث,و الواقع فان عملية تغيير الوعي لا يمكنها أن تكون فاعلة و قادرة إلا إذا ارتكزت على الاستقلالية, أي حينما يتم اكتناه النظام البطركي الحديث و علاقته السيكولوجية و من تم تجاوزها, أو على الأقل إزالة هيمنتها"[12]
إن تأكيد هشام شرابي في استراتيجيته النقدية على التجاوز و إزالة هيمنة البطركية, يدخل في صميم انشغاله بسؤال الحرية, ذلك أن الحرية محايثة للوجود الإنساني, باعتبارها ذلك الحق الممنوح للكينونة, بل "إن الحرية لا يمتلكها الإنسان كخاصية, بل إنها كما يزعم هيدغر هي التي تمتلك الإنسان, و ذلك بشكل أصيل مما يجعلها وحدها تمكن الإنسانية من أن تخلق العلاقة مع الموجود في كليته وكما هو, وهذا ما يتأسس عليه كل تاريخ, فالإنسان المنفتح الموجود خارج ذاته وحده التاريخي, أما"الطبيعة فليس لها تاريخ"[13]إلا أن محايثة الحرية للوجود الإنساني لا يعني بتاتا تجليها العياني الدائم في ممارسته التاريخية, ذلك لأن عمق هذه الممارسة يتحول عن مساره المنفتح ليغدو تعبيرا عن علاقات السلطة, باعتبارها علاقات قوى, «تمارس قبل أن تمتلك و تتجسد, فتبسط نفسها على الكل غالبين أو مغلوبين(ما دامت تخترق سائر القوى المتواجدة)[14] ومن هنا ما تفتأ علاقة القوة, تغدو الخاصية المضادة التي تجعل الحرية مغتربة عن الكائن التاريخي, إنها تعلي من ذاتها كغاية للإنسان, فيضحى هذا الأخير مفعولا لها, بل إن قواه و إرادته تتحول عن غايتها في الحرية, لتنخرط في تحديد السلطة أو الهيمنة باعتبارها الغاية الغائية, إن"الإنسان كما يقول هيدغر يرتبط بالواقع الجاري و القابل للسيطرة حتى عندما يتعلق الأمر بما هو أساسي"[15] وإذا كانت المعضلة الأساس بالنسبة لفلاسفة الاختلاف تتمثل في الانفلات من قبضة الميتافيزيقا, فان المعضلة التي تواجه مفكرا من طراز هشام شرابي هي معضلة"الأبوية" هذه الميتافيزيقا الاجتماعية التي استعاضت عن الإنسان بقيم مفصولة عن الحياة, فجعلته رهين عبودية تاريخية ذات منحنى شمولي يختزل الإنسانية في الخضوع و الاستسلام, و من ثم فشمولية هذه الهيمنة تجعل المجتمع خارج سياق التاريخ, بل خارج سياق الحدث التاريخي, مادام هذا المجتمع بثقافته المسيطرة يخضع كل فرد من أفراده لعملية تربية و تثقيف هدفها الحفاظ على النظام القائم, و تأمين استمراره على الشكل الذي هو فيه.[16] .
إن شرابي شأنه شأن الجنيالوجي لا ينظر إلى الثقافة و المعرفة إلا من حيث كونها إرادة سلطة, و من ثم فهو يبحث عن استراتيجية هيمنة هذه الثقافة التي لا تنشد سوى القهر و الإخضاع, و إعادة إنتاج نمطي لأشكال العلاقات داخل المجتمع تقوم, على التفاوت المؤسس للطاعة, لا على التفاوت المميز للقدرات الفردية, ذلك لأن "الطابع الذي يطبع جميع هذه العلاقات هو طابع السلطة الفوقية, فصاحب السلطة في المجتمع (و من يمثله أو يمثل سلطته) هو الذي يملك و يستفيد, بينما باقي الناس تقبل وترضخ وتتمثل, و"الكبير "في مجتمعنا هو دوما الذي يحكم ويتسلط ويسيطر. فالقرارات تؤخذ "من فوق "بمعزل عن الأكثرية التي تشكل هدف هذه القرارات. ليس الكبير صاحب السلطة والمركز في المجتمع إلا صورة مكبرة للأب في العائلة _ بتصرفاته ونظرته لنفسه وعلاقته بمن هم دونه. أنه يجد السلطة التي يختبرها كل منا أول ما يختبرها في العائلة قبل أن يعيشها إلى أخر حياته في المجتمع. إن الإرهاب والقهر والرضوخ التي يعانيها كل منا في المجتمع هي نفسها التي عانيناها في طفولتنا وفي تربيتنا وتثقيفنا "[17]
إن المعضلة الأساس في هذا النمط من الهيمنة إنما يتمثل فيما تنتجه من أشكال علاقات لاتقوم على الاعتراف بالكائن الإنساني الذي يشكل أساس أية علاقة اجتماعية أو اطيقية, وإنما يقوم على قيم ما قبل حداثية, ورغم انفتاح المجتمع البطركي الحديث على تقنيات الحداثة, إلا انه ظل محافظا على ترسيخ علاقات المجتمع بالطاعة, وبالتالي فهو لا يعمل إلا على إعادة نتاج ثقافة لا تخدم إلا النزوع الارتكاسي الذي يحد من الفعالية والإنتاج والتحرر, بمعنى أنه لا يستعيد سوى الثقافة اللامسؤولة تلك التي يتهرب فيها الإنسان عن صنع مستقبله و إعمال عقله والتحامه برغبته و إرادته وهذه الوضعية لا تنتج سوى الاتكالية والعجز والتهرب وتلك هي السمات الأساسية للقيم الارتكاسية التي تفصل الجسد عما يستطيعه فبخصوص "الأتكالية "يلاحظ شرا بي إنها ليست خاصية عرضية بل لها أصول اجتماعية وثقافية عميقة, مثال ذلك أن تربية الطفل في بيئة تتميز بالمنافسة تؤدي إلى اكتساب الطفل أخلاق المنافسة, في حين أن البيئة التي تحدد سلفا مركز الفرد ودوره في المجتمع تجعل الفرد ميالا إلى الخضوع و «الاتكالية".[18]
إن ثقافة كهذه لا تأخذ التربية بمعنى "توجيه العقل " نحو هدفه في تحصيل الوعي بالإرادة, ولكنها تأخذ معنى "التربية" بوصفها ممارسة للحجر على الفرد للحيلولة دون أن يصبح "آخر" ومعنى ذلك أن الكائن يترك مصيره دائما بيد آخرين, إن الاتكالية أو العجز عن قيادة الذات والالتحام بالعقل هما المسؤولان برأي كانط عن حالة القصور التي ينوب فيها الغير عن التحكم في الآخر."إن العجز والتخاذل (أو الاتكالية )هما السببان اللذان يدفعان كثيرا من الناس بعد ما حررتهم الطبيعة منذ مدة طويلة من أي تحكم خارجي- ليظلوا بطريقة طوعية طيلة حياتهم في حالة القصور مما يجعل آخرين يفرضون أنفسهم بسهولة كأوصياء عليهم."[19]. إننا إزاء سؤال التنوير فعلا, ذلك إذا ما فهمنا هذا السؤال على أساس انطولوجيا نقدية لذواتنا كما مارسها شرابي في نقده للبطركية, بمعنى أننا إزاء ما يسميه فوكو موقفا أو سلوكا ايطيقيا و حياة فلسفية حيث يكون نقد ما نحن عليه تحليلا تاريخيا للحدود التي تفرض علينا, واختبارا لتجاوز ها الممكن.
2- سؤال الحرية, سؤال التنوير:
إن حالة القصور تتأسس بالنسبة لكانط على العجز, والتخاذل فالمسؤول عنهما هو الإنسان نفسه, إن تخاذله وعجزه هما اللذان يجعلانه في الأخير في حالة قصور قد يعجز عن التخلص منهما طالما استكان طوعا أو قهرا إلى وصاية الآخر, وبالتالي فان الوصاية تضحى استراتيجية يدبر من خلالها العقل الوصي حياة الافراد القاصرين, (ليس بمعنى غير البالغين سن الرشد القانوني), ويوجه سلوكاتهم وينمط قيمهم التي لاتعيد إلا أخلاق الوصاية المبنية على الأوامر والنواهي, لا على المسؤولية الموكولة للذات, لان المسؤولية بذاتها تمت الوصاية عليها لصالح "راع يقود رعيته "وهو الوحيد المسؤول عنها بينما الآخرون فوضعهم كرعية يجعلهم مفتقدي عقل يحدد مسؤوليتهم وما داموا كذلك فهم محرومون من الاستعمال العام للعقل, و لعل هذه الوضعية هي ما يسم البطركية بوصفها حالة قصور. وإذن, فهل يعني التنوير عند شرابي, الخروج و التخلص من حالة القصور كما هو الشأن لدى كانط؟
إن كانط يجيب بشكل حاسم عن سؤال ما هي الأنوار فيقول" إن الأنوار هي خروج الإنسان عن حالة القصور, التي هو المسؤول عنها. إن حالة القصور هي العجز عن استخدام العقل دون تحكم الغير "[20] .
إن القصور بهذا المعنى هو ترك مسألة تدبير الذات بواسطة العقل للغير,فهو حالة رعاية تشمل العاجزين عن مسؤولية اتخاذ القرارات التي تهم مصيرهم و مستقبل وجودهم. و إذا ما اعتمدنا هذا الفهم منطلقين من حالة الإنسان العربي في الوضع البطركي, فإننا نستنتج مع شرابي بان البطركية هي أساس سلب هذا الإنسان رشده, إن تجدر بنيتها يبقيه في وضع وصاية تحول دون استعادة وجوده الحر, و من ثم ضرورة طرح نقد حضاري يمكن اعتباره أنواريا, و هنا يمكننا أن نتساءل مع فوكو"لست أدري هل يصح أن نقول اليوم بأن العمل النقدي يعني مرة أخرى الإيمان بالتنوير؟ انه ما يقتضي منا على ما أظن الاشتغال دوما على حدودنا, مما يتطلب عناء صبورا يمنح صيغة ما لكل تلهف للحرية"[21]
إن الربط بين العمل النقدي عند شرابي يستعاد كتنوير مادام يفصح عن نفسه كتغيير, و مادام يسترجع أساس انبثاق مفهوم التنوير, و من ثم فهو يؤكد على أن النقد الحضاري" نتيجة طبيعية لعقلنة التاريخ و وعي المجتمع الإنساني لذاته مع بروز العقل و بداية عصر التنوير في عصر التنوير في أو آخر القرن الثامن عشر"[22] وفي ذات السياق يعتبر أن المعرفة التنويرية التي"ترمي ليس إلى تفهم الواقع بل إلى تجاوز الواقع وتغييره, معرفة عقلانية تحريرية في آن"[23] و إذا كان كانط نفسه قد اشترط للخروج من حالة القصور ان يقوم الفرد بإجراء تغيير على نفسه, فان شرابي يؤكدان المعرفة الذاتية هي الشرط الأساسي للتغيير الذاتي, في الفرد في المجتمع[24]
إذن هناك علاقة بين التنوير_التغيير من جهة و بلوغ المعرفة الذاتية لدى هشام شرابي و تلك العلاقة نجدها أيضا لدى كانط الذي"يؤكد على أن هذا التنوير يعتبر بمثابة قاعدة أو شعار,و الحال إن هذا الشعار علامة مميزة من خلالها نعرف بأنفسنا, أنه أيضا, نصيحة نقتدي بها في نفس الوقت الذي ندعو فيه الآخرين إلى الإقتداء بها فما هي إذن هذه النصيحة؟"لتكن شجاعا وجريئا على بلوغ المعرفة"[25]
إن الجرأة على معرفة الذات شرط أساسي للتنوير, انه هو بداية التخلص من حالة القصور, و شرابي شأنه شأن كانط يعتبر أن المجتمع الذي يرمي إلى تغيير ذاته"لا يستطيع النجاح في هذه العملية دون أن ينفذ أولا إلى عملية معرفة الذات... و لا تكون هذه المعرفة نظرية بل "معرفة نقدية " قادرة على اختراق الفكر السائد, و النفاذ إلى قلب القاعدة الحضارية التي ينطلق منها سلوكنا الاجتماعي... و لا يمكن تغيير الواقع إلا بالكشف عن حقيقته, و ما عملية الكشف هذه إلا عملية المعرفة النقدية الهادفة إلى تغييره"[26] .
إن النقد عملية تقع في صميم التنوير من حيث كونه فاعلية تجعل من المعرفة تجليا للكشف و ليس للاستذكار يسهم في أن تتلمس الذات دروب التغيير التي ستسلكها بفضل عمل النقد,و هنا نود أن نشير مع فوكو إلى"تجدر نوع من السؤال الفلسفي داخل التنوير,سؤال يشكل في آن واحد كلا من مسألة الارتباط بالحاضر,و مسألة نمط الوجودالتاريخي, و مسألة بناء الذات بوصفها مستقلة...كما أن الخيط الذي قد يربطنا بالتنوير على هذا النحو ليس هو الوفاء لمبادئ المذاهب بقدر ما هو بالأحرى التفعيل الدائم لموقف ما,أي تفعيل روح فلسفية يمكننا أن نحدد ها من حيث هي نقد مستمر لوجودنا التاريخي".[27]
إن التنوير بمعنى جوهري هو نمط وجود الحاضر الذي يتجلى من خلال روح فلسفية كامنة في النقد, "هذا النقد الذي يسعى إلى الدفع ما أمكن بالعمل اللامحدود للحرية بعيدا و في كل الأنحاء"[28] .
إن سؤال التنوير بعبارة أخرى هو سؤال الحرية تلك التي نسعى على أن نجعل منها اثيقا الوجود, التي تنتزع الحاضر عن هيمنة أي ميتافزيقا توحيدية تلغي الحق في الحاضر, كما تفصل الكائن عن الحدث, فتحول دون قدرته على الوجود النوعي_الحدثي "فما لا يحدث لا يوجد"على حد تعبير الكباص[29] إن الحدث هو ما يستطيعه الفرد و الكائن البشري الذي تخلص من حالة القصور التي تعممها و تنشرها النزعات الكليانية, بما فيها النزعة البطركية, و التي لا تقصد في سبيل ضمان استمرارية هيمنتها سوى استئصال الحرية من خلال فصلها عن الكائن الإنساني,و بالتالي إحداث انقلاب في إرادة الإنسان, فلا تغدو هذه الإرادة اثباتية بقدر ما تضحى ارتكاسية منقلبة على ذاتها, تمارس بفعالية سلبها لوجودها العيني الخاص المؤسس على الحرية, بمعنى أنها لا تنشد سوى الخضوع, ما دامت القدرة على الحياة. بما هي إبداع تتطلب جهدا و معاناة, لا يستطيع الكائن الارتكاسي أن يغامر في سبيلها, و بالتالي فان وضع الوصاية يبقى بالنسبة إليها حماية, لكنها خارجة عن تدبير الذات بل إنها من تدبير الآخر. و ليس هذا الآخر خارجيا فحسب, بل انه قد يكون ذلك الآخر الساكن في الذات و هو السبب غالبا في انقلاب الإرادة على نفسها,إن وصايته تطال مصيرالإنسان و ترهنه داخل نسق لا يستطيع الانفلات عنه إلا إذا حصل التنوير, فيتحرر الكائن الإنساني من ذلك الآخر المهيمن الذي ينخر كيانه, و من أخلاقه القسرية المفارقة ليلتحم بالمبدا الأيطيقي المحايث.[30]
إن سؤال الحرية في مشروع شرابي الحضاري يرتهن بخلخلة جذرية للبطركية تسمح بولادة التنويرمن جهة و بموت الأبوية من جهة أخرى, و اقتران هذه الولادة بالموت هو أساس انبثاق الحرية, و بزوغ الفرد المستقل, داخل مجتمع خارج عن أية وصاية.
|