ثالثا : العـقـل السياسي العربي
بالجزء الثالث يكون الجابري قد استكمل دراسته المطولة ومشروعه الفكري الكبير عن "نقد العقل العربي"، فهو يبدأ بتوضيح بعض المفاهيم التي يرى أنها ستساعده في أغناء تعريف" العقل السياسي" فمفهوم " اللاشعور السياسي" والذي يتمثل في أنواع من السلوك تصدر عن الفرد بدون إرادة، وهي تختلف عن ردود الفعل الآلية في كونها هادفة تلبى حاجات معينة وتنزع إلى تحقيق رغبات خاصة، ومع ذلك فهي لا تخضع لمراقبة "الأنا" .
وإذا كان " سيجموند فرويد" قد أولى أهمية خاصة لـ " اللاشعور" واعتبره مسئولا عن قسم كبير من سلوك الفرد البشري، فأن "يونغ" يعطيه أبعادا أخري، تجعله يضم ليس فقط غرائز الفرد ومكبوتات طفولته، بل أيضا بقايا نزعات وعواطف جمعية تنتمي إلى ماضي البشرية، لتشكل نوعا من " اللاشعور الجمعي" .
ويشير الجابري إلى أن ريجس دوبرى Regis Debray ميز بين مفهوم اللاشعور الجمعي وبين مفهوم " اللاشعور السياسي" حيث جعل من الأخير مفهوما مستقلا بما أنه يقتصر على الجماعات المنظمة، كالقبيلة والحزب والأمة، كما فرق بينهما من حيث أن الأول يكتسي طابعا سيكولوجيا، بينما يتخذ الثاني طابعا سياسيا أيديولوجيا .
ويوضح دوبري فكرته في إطار شرح مفهوم اللاشعور السياسي حيث يرى أنه يوجد في جذور الظاهرة الاجتماعية قوة غير مراقبة، قوة تبدو في الظاهر لا عقلانية تفسد قوانين المنطق،تشكل الديانات والأيديولوجيات أكثر أعراضه وضوحا، وهذه القوة لا تتحكم في تأثيرها وفعلها لا المخططات ولا الإرادة الصريحة للأفراد، أنها شيء من قبيل السحر تنتمي إلى عالم الأسرار .
ويشير الجابري إلى أنه لا يستعير مفهوم " اللاشعور السياسي" من دوبرى بنفس مضمونه، ذلك لأن دوبرى يكتب وهو يفكر في المجتمع الأوروبي الذي أصبحت فيه العلاقات الاجتماعية من نوع العشائرية والطائفية تقع خلف العلاقات الاقتصادية، أما في مجتمعاتنا العربية، فلأمر يكاد يكون بالعكس من ذلك تماما، فالعلاقات الاجتماعية ذات الطابع العشائري والطائفي لا تزال تحتل موقعا أساسيا وصريحا في حياتنا السياسية، بينما العلاقات الاقتصادية / علاقات الإنتاج، لا تهيمن على المجتمع إلا بصورة جزئية .
وهكذا فإذا كانت وظيفة مفهوم "اللاشعور السياسي" عند دوبرى هي أبراز ما هو عشائري وديني في السلوك السياسي بالمجتمعات الأوروبية المعاصرة، فإن وظيفته بالنسبة إلينا ستكون بالعكس من ذلك أبراز ما هو سياسي في السلوك الديني، فالتجربة الحضارية العربية الإسلامية قديما وحديثا يكون فيها النسق الاجتماعي مؤسسا للنسق السياسي، والسياسي يؤسس الأيديولوجي، والأيديولوجي يؤسس التمذهب الديني .
المفهوم الثاني هو " المخيال الاجتماعي "Imaginaire Social وقد عرفه " ماكس فيبر" بكونه نشاطا يحمل معنى يقوم بشد الفاعلين الاجتماعيين فينظمون سلوكهم بعضهم إزاء بعض على أساسه، وبعبارة أخري فإن الممارسة الاجتماعية، بوصفها تنظم شتات تصرف الأفراد وتوجهه نحو أهداف مشتركة، تفترض وجود بنية معقدة من القيم والاندماج المحمل بمعاني ودلالات،
يخلص الجابري من ذلك إلى أن مخيالنا الاجتماعي العربي هو الصرح الخيالي المحمل برأس مالنا من المآثر والبطولات وأنواع المعاناة، الصرح الذي يسكنه عدد كبير من رموز الماضي مثل امرئ القيس وحاتم الطائي وعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وهارون الرشيد وألف ليلة وليلة وصلاح الدين والأولياء الصالحين وأبي زيد الهلالي وجمال عبد الناصر، إضافة إلى رموز الحاضر مثل المارد العربي والغد المنشود .. الخ .
وهكذا يمكن تلمس أن العقل السياسي كممارسة وكايدولوجيا، يجد مرجعيته في المخيال الاجتماعي وليس في النظام المعرفي، فهذا المخيال هو مجال اكتساب القناعات الذي تسود فيه حالات الأيمان والاعتقاد، وهو الذي يعطى للايدولوجيا السياسية في فترة تاريخية بنيتها اللاشعورية .
المفهوم الثالث هو "المجال السياسي" ففي إطار المقارنة بين التطورات السياسية في أوروبا، حيث قامت دولة المؤسسات التي تستمد شرعيتها من إرادة الشعب وتعبر عن المصلحة العامة نتيجة عملية تاريخية أسفرت عن ظهور مجال جديد هو مجال " السياسي" نجد استمرار دولة الطاغية ومصلحة القبيلة وجمود الحراك السياسي هو السائد في المجتمعات العربية
ولمزيد من الوضوح يشير الجابري إلى أن ما يميز النظام الرأسمالي أنه يجعل المجتمع الذي يقوم فيه ينقسم انقساما واضحا إلى بنيتين : بنية تحتية تمثل القاعدة الاقتصادية التي تشكل الصناعة عمودها الفقري، وبنية فوقية قوامها أجهزة الدولة ومؤسساتها والإيديولوجية المرتبطة بها .
أما المجتمعات التي لم تتطور الأوضاع فيها إلى مرحلة الرأسمالية، فهي لا تعرف التمايز بين البنيتين، بل الغالب فيها هو تداخل عناصرها بصورة تجعل المجتمع برمته عبارة عن بنية كلية واحدة، إنها السمة التي تميز " مجتمعات ما قبل الرأسمالية" ويرى الجابري أن هذا الفارق يستحق التوقف عنده وتوضيحه، ليس بسبب أن المجتمع العربي القديم والحديث ينتمي إلى هذا النوع من المجتمعات، بل أيضا لأن طرح العلاقة بين الفكر والواقع سيبقى طرحا غير مفيد إذا لم يكن قائما على تصور واضح لوضعية المجتمع .
لذلك نرى الجابري يعارض الاتجاهات الماركسية التقليدية، ماركسية ستالين التي حاولت طرح قوانين المادية التاريخية باعتبارها قوانين شمولية عامة قادرة على تفسير واقع كل المجتمعات في كل العصور، لتوضيح ذلك يعود الجابري إلى ما تنبه إليه الفليسوف المجري الماركسي " جورج لوكاتش " Lukacs الذي يرى يعترض على الطابع الإطلاقي للمادية التاريخية، حيث أن قوانينها وأحكامها كما صاغها ماركس تنطبق على نظام اجتماعي معين ونط إنتاجي محدد، أما بخصوص مجتمعات ما قبل الرأسمالية فإن الوضع فيها يختلف تماما، ومن ابرز ما يطرحه " لوكاتش" العلاقة بين البنية الفوقية والبنية التحتية في المجتمعات السابقة على الرأسمالية،
فإذا كان الانقسام الفعلي والواضح في المجتمع الرأسمالي إلى طبقات، فإن الأمر السائد في هذه المجتمعات هو الانقسام إلى جماعات، تتمايز عن بعضها بالحسب أو بالنسب والجاه والمال أو الحرفة أو المذهب الديني، فهي جماعات تحركها من وراء وفي الخفاء المصالح الاقتصادية . نعم، ولكن بما أن الاقتصاد لم يكن قد تطور إلى درجة تجعل منه المحدد للعلاقات، فإن الوعي الذي يحرك الصراع بين هذه الفئات والجماعات لم يكن الوعي الطبقي، بل "الوعي الفئوي" العصبية القبلية، التعصب الديني أو الطائفي .
ولمزيد من توضيح العلاقة بين الفكر والواقع في حضارات الشرق القديم؟ وكيفية ربط التراث الفكري بالواقع الاقتصادي والاجتماعي في هذه الحضارات يشير، الجابري إلى الرؤية التي طرحها " ايون بانو Ion Banu " الذي يؤكد على وحدة البنية التحتية والفوقية في هذه المجتمعات الخراجية، حيث تقوم فيه وحدة الدولة/ المجتمع، بسبب ما تقوم به الدولة من مهام اقتصادية، وأن الصراع فيه يتم بين الأرستقراطية والفلاحين، هذه الوحدة تشكل في ذهن إنسان الشرق القديم وحدة شاملة، وحدة البلد/ الكون، فالبلد يملكها الحاكم الفرد المستبد وهو أيضا الإله، وهكذا تتشكل ايدولوجيا قوامها منظومة من المفاهيم المركبة والمتداخلة توحد وتجمع بين (1)الألوهية (2) الطاغية المستبد (3) الوظائف السياسية المستمدة من القانون الأخلاقي الديني (4) نظام الكون من تجدد الخصب والنماء والمياه بإرادة الحاكم الإله .
ولاستكمال الصورة حول العلاقة بين الفكر والواقع يعرض الجابري إطلالة على نظرية " ميشيل فوكو Michel Foucault " حول مفهوم "الراعي والرعية"
فالراعي في الفكر الشرقي القديم يمارس سلطته على "قطيع" فلأله يملك العباد قد يعطيهم الأرض وقد يعدهم بها، أما الآلهة عن الإغريق فأنهم يملكون الأرض، والعلاقة بين البشر والآلهة تمر عبر الأرض، الآلهة يتصرفون في الناس بواسطة التحكم في الفصول والخصب . مهمة الراعي جمع شمل الرعية وقيادتها، أما مهمة الرئيس السياسي هو العمل على أن يسود الأمن داخل المدينة .
الفرق الجوهري الذي يلضم كل ذلك يظهر في كيفية ممارسة السلطة ودوافعها، فرئيس المدينة، يجب أن تكون قراراته لصالح الجميع، وبدافع الواجب، إذا حاد فهو رئيس سيء، وإذا قام بالواجب من أجل المصلحة العامة فثوابه يكون في تخليد الشعب له، أما الراعي فهو يسهر على قطيعه وضرورة تدبير طعامه وشرابه، بينما القطيع نائم، وهو يفعل ذلك بدافع الإخلاص وليس بسبب الواجب .
في النهاية يرى الجابري أن العودة لابن خلدون تفيدنا في فهم الواقع حيث أنه قدم ثلاثة مفاتيح هي السلوك العشائري، التطرف الديني، والاقتصاد الريعي، وظفها في قراءته للتجربة الحضارية العربية الإسلامية إلى عهده، فلنعمل بدورنا على توظيفها توظيفا جديدا يستجيب لمشاغلنا الفكرية المعاصرة، ويمكن صياغة هذه المفاتيح أو المحددات التي نقترح قراءة التاريخ السياسي العربي بواسطتها في ثلاثة نطلق عليها الأسماء التالية : القبيلة، الغنيمة، العقيدة .
فالقبيلة : طريقة في الحكم أو السلوك السياسي أو الاجتماعي يعتمد على "ذوى القربى" بدل الاعتماد على " ذوى الخبرة والمقدرة" ممن يتمتعون بثقة الناس أو يكون لهم تمثيل سياسي نتاج انتخابات ديمقراطية حرة، ليس المقصود مجرد قرابة الدم، بل القرابات ذات الشحنة العصبية مثل الانتماء لمدينة أو جهة أو طائفة أو حزب .
والغنيمة، التي تقوم بدور العامل الاقتصادي في المجتمعات التي تعتمد على " الخراج" و"الريع" وليس على العلاقات الإنتاجية، والمقصود هنا جميع ما كانت الدولة في الإسلام تأخذه من المسلمين وغيرهم كجباية، من فيء / غنائم الغزو والحروب، وجزية / ما يفرض على غير المسلمين من ضرائب، وخراج / الضرائب المفروضة على الأرض المفتوحة، فالغنيمة ما يفرضه الغالب على المغلوب من إتاوات وضرائب دائمة أو مؤقتة، سواء كان الغالب أميرا أم قبيلة أم دولة .
أما العقيدة فليس المقصود بها مضمونا معينا على شكل دين موحى أو أيديولوجيا، وإنما مفعول على صعيد الاعتقاد والتمذهب، أنه المنطق الذي يحرك الجماعة ليس على أسس معرفية، بل على رموز تؤسس الإيمان والاعتقاد، فالإنسان يؤمن بمعزل عن الاستدلال وعن اتخاذ القرار، وقد يتساهل فيما يخص المعرفة ولكنه لا يقبل أن تمس عقيدته، قد يضحى بحياته من أجل معتقده ولكنه لا يستشهد من أجل إقامة الدليل على صحة قضية معرفية .
المهم في كل عقيدة، ليس ما تقرره من حقائق ومعرف، بل المهم هو قوتها وقدرتها على تحريك الأفراد والجماعات وتأطيرهم داخل "القبيلة الروحية" من هنا الارتباط العضوي بين العقيدة وبين الفعل الاجتماعي والسياسي .
"القبيلة" و"الغنيمة" و"العقيدة" محددات حكمت العقل السياسي العربي في الماضي ومازالت تحكمه بصورة أو بأخرى في الحاضر، والنتيجة احباطات ونكسات فتحت الباب لعودة المكبوت، وهكذا عادت العشائرية والطائفية والتطرف الديني والعقائدي لتسود الساحة العربية، ليجعل حاضرنا مشابها لماضينا، فأصبحت "القبيلة" محركا للسياسة، و"الريع" جوهر الاقتصاد، و"العقيدة" دافعا للفعل وتبريرا للقمع .
ويخلص الجابري من هذا الاستعراض الذي يعتبر تتويجا لمشروعه النقدي للعقل العربي إلى تحديد المطلوب في الآتي :
أ . تحويل "القبيلة" في مجتمعنا إلى لا قبيلة : إلى تنظيم مدني سياسي اجتماعي، من خلال بناء مجتمع التمايز يكون فيه واضح .
ب . تحويل "الغنيمة" إلى اقتصاد "ضريبة" أي تحويل الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد إنتاجي .
ج . تحويل "العقيدة" إلى مجرد رأي، فبدلا من التفكير المذهبي الطائفي المتعصب الذي يدعي امتلاك الحقيقة، يجب فسح المجال لحرية التفكير والاختلاف والتحرر من سلطة الجماعة المغلقة، وبالتالي التعامل بعقل اجتهادي نقدي .
إن بقاء "الواقع السياسي العربي" على ما هو عليه من "التركيب" أو دخوله مرحلة الهرم ليس أمرا حتميا، فالإصلاح ممكن دوما، لأن الشؤون الإنسانية "إرادية" فالإصلاح مسألة أرادة، بل مسألة وجود أو عدم وجود قرار سياسي .
هكذا ينهي الفليسوف الجابري خلاصاته، وكائن الواقع تغيره الأمنيات والأفكار،
نظرة فاحصة في اشكاليات الفكر العربي
نقلة فكرية وجرأة نقدية، خاضها العرب بوقفة خطابية، قالها جعفر بن ابي طالب امام النجاشي رغم الرعب والقتل والخوف، لكن التصميم والارادة، وسمو الفكر النقدي وثبوته في تلك الوقفة موضحا تغيرا فكريا في المجالات الحياتية، والعقائدية، وثورة على المفاهيم السائدة في ذلك العصر وفق نموذج فكري جديد معاصر لوقته، ومراعيا الخصوصية العربية ومغايرا للنماذج الرومانية والفارسية، ليتبين مدى رصانة الفكر العربي انذاك، في مخاطبة ( الانا والاخر ). وبالانتقال من هناك الى هنا مترافقا مع مقولة نقدية قالها المفكر العربي محمد عابد الجابري* : " يشعر الواحد منا نحن المثقفون العرب ان التراث العربي بمضامينه ومشاكله الفكرية في واد، والعصر الحاضر وحاجاته في واد اخر " ، هذا يذكرنا بما قاله علي بن ابي طالب " لا تقسروا اولادكم على اخلاقكم فإنهم خلقوا لزمن غير زمنكم " ، الذي يعني ان القدماء طالبوا بالتغيير ولكننا نحن نقف امامه سدا منيعا، افلا تستدعي تلك المقولات الى تدوين ايبستمولوجي للتراث العربي لمحاكاة الواقع الراهن والى اعادة كتابة التاريخ، وتجاوز اشكالية الاصالة والمعاصرة في الفكر العربي الحديث، من اجل ربط هذا الفكر بالواقع، نعم، هذا ما جعل من محمد عابد الجابري يحمل نظرة نقدية متفحصة تجاه الفكر العربي مبينا الاشكاليات الظاهرية والجوهرية منها ،،، ولكن كيف كانت نظرته تجاه اشكاليات الفكر العربي، وما هي الحلول لحل تلك الاشكاليات ؟، الامر الذي دعى للخوض في كينونة كتابه" اشكاليات الفكر العربي المعاصر"، ومدى نظرته الى تلك الاشكاليات .
نعم، وكما قال الجابري، ان العرب يعيشون ماضيهم قبل حاضرهم، ويعيشون في ذاكرة الماضي اكثر من غرسهم لتطلعات بناء مستقبلهم وتقدم اجيالهم، لقد تصارعت الافكار العربية في مرحلة تاريخية صعبة، تبلورت في خضمها تناقضات خلفتها احداث تاريخية مهمة ومصيرية ساهم في صنعها.. التاريخ العربي الاسلامي، و العامل الاوروبي ( الاستعمار و التحديث ) واللذين شكلا الدور الحقيقي في خلق التأثيرات الفكرية والسياسية المحتدمة لدى العرب منذ مطلع القرن العشرين . الذي ادى الى ظهور مواقف سلفية لاستعادة الماضي، وعصرانية وفق النموذج الغربي، مما ادى الى خروج موقف انتقائي للموافقة بينهما ولكن حتى الانتقائيون اختلفوا فيما بينهم فمنهم السلفي ذو الميول الليبرالي، والليبرالي ذو الميول السلفية، ومنهم الماركسي الاممي ، والماركسي العربي، والقومي الليبرالي، والاشتراكي القومي، والسلفي العروبي، والعروبي العلماني ذوالميول السلفية، والعلماني العروبي ذو الميول الليبرالية، او الماركسية الى غير ذلك من التركيبات " المزجية " المعقدة .
ان الفكر حينما يتم تناوله يجب ان يتناول من الناحية العصرية ( التخطيط المنطقي العقلاني) وليس من الناحية العاطفية (الحلم الهيامي اللاعقلاني)، نعم هذا هو وضع الفكر العربي الحالم بفكره الهيامي اللانقدي ذو الازدواجية الفكرية في بناء مشروعه النهضوي، والذي أدى الى خروج نوعين من المثقفين، مثقف يحلم بتغيير متمدن يساير التطور والتقدم، والاخر صقل نفسه بثقافة مقاومة التدخل الاجنبي المستعمر. فاختزل مشروع النهضة بزوجين من الثقافة طارحا مسألة الهوية حتى يومنا هذا وفق سؤال... ما هويتنا ؟ . والذي طرح عدة اسألة واشكاليات متزاوجة، مثل الاسلام/ والعروبة، الدين / الدولة، الاصالة / المعاصر، الوحدة / التجزئة ، الذي يحتم نقد تلك الاجزاء من خلال ضبط العاطفة وجعلها عقلانية .
ان الفكر العربي والمتصف في تعميم الاشكاليات من الخاص الى العام جعل من هذا الفكر يعيش في ازمة دائمه مزمنة وجعلها مشاكل تاريخية ملازمة لتاريخ الامة العربية، والغاء تحديد مشاكل الحاضر المحدود ضمن حدود مكانية وزمانية. فالاسلام والعروبة، والدين والدولة، والاصالة والمعاصرة، انما تعني اشكاليات وقعت في المشرق العربي وليس في مغربه ، مما يعني انها اشكاليات محلية وخصوصية، وخصوصا في سوريا الكبرى، حيث تشكلت تلك الازواج ( في المشرق ) كردة فعل ضد الحكم العثماني وسياسة التتريك للحفاظ على الكيان العربي لغة وتراثا، وكردة فعل على الاضهاد الديني للاقليات الغير مسلمة باسم الاسلام فيما تشكلت الاخيرة للدعوى الى الاصلاح من خلال محاربة الطرقية والصوفية والشعوذة .
من خلال تلك الازواج المعقدة ظهرت شعارات كثيرة كالمناداة بالقومية العربية، وفصل الدين عن الدولة وشعار العودة الى الاسلام وغيرها، فالدولة القطرية والتي طبقت تلك الشعارات سواء لبست لباسا دينيا او لباسا قوميا فهي دول علمانية في قوانينها وسلوكها وسياستها الداخلية، متناسين ان انبثاق الحكم من ارادة الشعب واختيارهم، مما يعني زيف تلك الشعارات. ولكن فيما يخص "الوحدة / التجزئة"، فانها تشكل ازمة التناقضات العربية في خضم واقع عربي مهترئ، وقعت بها جميع الايديولوجيات العربية في خطأ جسيم عندما اعتبرت " التجزئة " من فعل الاستعمار الاوروبي او الغربي لوحده بسبب نفيها العوامل التاريخية لما كان عليه العرب في اواخر الخلافة العباسية الى قدوم السلطنة العثمانية المبنية على التعدد والمؤسسة عليه، يعني ان الدولة العربية المستقلة هي دولة قديمة وليست وليدة الاستعمار وانما مصلحته تتطلب ذلك لان الوحدة العربية تؤثر على مصالحه، من هنا ارتبطت العقلية العربية بمعادلة الاعجاب والكراهية بالغرب( التقانة والاستعمار) ... ولكن يجب التخلص من هذا التعميم ، لانه لا يخدم الفكر القومي ولا القضية القومية، بل على العكس يضع هذه القضية في ازمة دائمه مزمنة وجعلها مشاكل تاريخية ملازمة لتاريخ الامة العربية والغاء تحديد مشاكل الحاضر المحدود ضمن حدود مكانية وزمانية، تجعل من بناء المشروع الحضاري العربي مشروعا لا يخضع للواقع المعاصر.
ان المشروع الحضاري العربي ، الذي لم يتحول الى واقع ملموس، يجب ان يخرج من دائرة العبارات الحالمة ذات المعنى الفارغ متوجها الى دائرة اللغة العلمية، والتي تحتم اعادة بناء التاريخ بصورة فلسفية وليس اعادة بناء الوعي بصورة تاريخية،... ولكن يجب بناء الوعي الذاتي النقدي ذو الخصوصية العربية ، ويجب ان تكون فلسفة التاريخ نابعة من الحاضر ومن حاجة هذا العصر ومدعم من الخلف من اجل تأسيس وتدعيم الوعي المؤدي الى طريق المستقبل، وهذا واضح من خلال الفلسفة التاريخية الخلدونية، فلسفة لـ " التراجع " في التاريخ ، بينما كانت فلسفة التاريخ عند مفكري اوروبا للقرنين الثامن عشر والتارسع عشر، فلسفة لـ " التقدم "، فالجوهر في فلسفة التاريخ انها تقوم على اكتشاف العقل في التاريخ . ومن اجل تدعيم المشروع الحضاري العربي يجب ان نجعل من صورة المستقبل الاتي متممة لصورة المستقبل الماضي، وبالتالي تحويل الحاضر الى جسر يصل بين المستقبلين، يدمج الماضي في الحاضر ويجعل المستقبل ميدانا لتحقيق الماضي، وفق علم مستقبلات خاص بنا.
اذا فالمشروع، مشروع الماضي ومشروع الحاضر، لتحقيق اهداف اساسية وهي الوحدة، والتمدن، والعقلنة، وان التاريخ الاسلامي وعلم المستقبلات ستبقى مجردة ان لم تقوم على تلك الخيارات الاستراتيجية الثلاث وفق استقلال الذات والديمقراطية والتنظيم من اجل بناء المجالات الحياتية للمجتمع العربي وفق روحانية عقلانية وليس روحانية غنوصة مضادة للعقلانية، لكي لا يكون هنالك عجزا للعقل و قفزا على مملكة العقل، والخوض في مجالات اللاعقل.
ان التناقض الوجداني العربي الذي اتخذه العرب من الغرب ما بين ( الانا والاخر ) ، بين الواقع العربي النائم، والمتأخر، المعتدى عليه، المهدد في وجوده المادي وكيانه الروحي، وبين الغرب في موقع المناهض المتقدم، الغازي التوسعي المستعمر، جعل من العرب يعانون من عقبات مادية لانشاء مشروعهم الحضاري مجسدا اشكاليات نقل التقانة اليه من المركز الغربي الذي بدأ يدخل وبسرعة فائقه في عصر الثورة التقانية، جاعلا من المائة سنة التي مضت تنتهي الى ازمة في التطور ما بين الاعجاب والكراهية للغرب، ما يعني ان هنالك عوامل داخلية وخارجية ادت الى زيادة المسافة بين التأخر العربي والتقدم الغربي الصناعي، وليس نقصانها. وهكذا انشغل التقنويون العرب بسد الفجوة الثقافية، التي تفصل حاضر العرب عن حاضر الغرب ومستقبله ليجدوا ان هنالك هوة تقانية، وازمة في نقل التقانة والتقانة الملائمة، وان التنمية العربية لن تتم الا بالوحدة العربية. فاخذ العرب يواجهون حضارة الغرب، القائمة على العلم والتقانة بمعطيات الحضارة الزراعية وقيم البداوة وثقافتها، مبتعدين عن البحث العلمي المؤدي الى التقانة. فالتقاء الحضارة الزراعية في مواجهة الحضارة التقانية( المركز) اصبح الغرب يعطي للعرب ثلاثة اشياء، التقانة المنتهية ( الاستهلاكية)، التخصصات العلمية الهامشية، وهجرة الادمغة اليها، لكي يجعلها تابعة مرتبطة بها، ولكن هنالك تناقض بين مظاهر الحضارة الحديثة كما يعيشونها العرب على مستوى الاستهلاك، وبين مظاهر التخلف كما يعانونها على مستوى الانتاج والسلوك والفكر، والتناقض بين ضرورة الوحدة او على الاقل التكامل والتنسيق على مستوى استرتيجية التنمية والابقاء بشروطها، ومواجهة عراقيلها الداخلية وبين انقسام الوطن العربي الى دول قطرية متنافسة متصادمة تابعة، مما يعني انه لا يجوز ولا يصح وضع قضية النهضة العربية، في هذا الوقت الذي يوجد فيه العالم على عتبة عصر التقانة، على كاهل الغرب وحده واعفاء العرب من كل مسؤولية، كما انه لا يجوز ولا يصح ارجاع المشكل كله الى وضعية العرب وتناقضهم، وبالتالي اعفاء الغرب من كل مسؤولية، ليتضح ان العلاقة بين العرب والغرب حقيقة واقعية لا يجوز اغفالها، او التقليل من شأنها.
ان مواجهة تحديات المستقبل تحتاج الى مواجهة حقيقية واقعية، وشعارات واقعية تراعي فية الواقع العربي في الواقع العالمي من اجل انجاح المشروع العربي النهضوي، كي لا يكون الشعار المرفوع متناقضا مع ارض الواقع، وبعيدا عن الخصوصية العربية ، .... الامر الذي جعل من المشروع القومي العربي ناقصا، لانه يفتقد الى عنصر اساسي، الديمقراطية، لان من دون الديمقراطية، ومن دون التغيير الديمقراطي الحر، لا يمكن احتواء المشاكل التي تهدد هذا المشروع كاشكالية الطائفية، والتعصب الديني، والاقليات، احتواء سليما وصحيحا.... لان الدولة القطرية التي تعتبر امرا واقعيا، اصبحت عبئا على نفسها، لانها اصبحت مهددة في وجودها ليس من الخارج فحسب، وانما من الداخل ايضا، بتفاقم مسألة الامن الغذائي والذي يستدعي الى التكامل والتعاون بين البلدان العربية.... فبدلا من الهروب اللاشعوري من المسؤولية، وانتظار البطل التاريخي او المهدي المنتظر يجب العمل على بلورة نخبة وطنية مثقفة وواعية، تبشر بالتغيير والتخطيط له، وتعمل على استعجال حركته وصيرورته.
ان الفكر العربي الذي بنى على المطلقات، وما تبعها من فكر مأزوم، ولد حالة من الاحباط، جعلته مستسلما للنماذج الغربية، من غير ادارك ان النموذج الغربي قائم على كونه وسيلة للايضاح، وسيلة لاكتشاف الذات وترسيخ الوعي وليس تطبيقه مباشرة في البيئة العربية، لان بذورها لا تلائم التربة العربية وخصوصيتها، ليتبين ان اشكاليات الفكر العربي اشكاليات تحمل رواسب فكرية عميقة ما بين الماضي والحاضر دون النظر الى المستقبل، ليتضح ان تلك الاشكاليات برزت بعودة الثالوث الفكري ( القبيلة، الغنيمة، والعقيدة)، ليجعل حاضرنا مشابها لماضينا، ويجعل عصرنا الايديولوجي النهضوي والقومي وكأنه فترة استثنائية، فاصبحت " القبيلة" محركا علنيا للسياسة، واصبح الاقتصاد ريعيا او شبه ريعي مطبوعا بطابع " الغنيمة"، واصبح الفكر والايديولوجيا " عقيدة " طائفية او شبه طائفية والذي يحتم على نقد هذا الثالوث ( الماضي في الحاضر ) بتحويل القبيلة في مجتمعنا لتنظيم مدني سياسي اجتماعي حديث، وتحويل الغنيمة الى ضريبة، والاقتصاد الاستهلاكي الى اقتصاد انتاجي، وتحويل " العقيدة " الى رأي بدلا من الفكر المذهبي الطائفي و المتعصب الذي يدعي امتلاك الحقيقة .
ومما سبق نستنتج ان الفكر العربي فكرا يواجه الحاضر بالماضي، ليتبين ان العلاقة التي تبلورت بين المجتمع العربي وبين خصائص المجتمعات الغربية في المجالات الحياتية المختلفة هي علاقة تناقض وتبعية، وعدم تكافؤ فيما بينهما تسودها الفوقية و الاستعلائية، مما اوجد "المخيال الثقافي" فيما بينهما جاعلا من عملية التثاقف غير متبادلة، بل من جانب واحد(الاستشراق) حيث ادخل المجتمع العربي في حالة دفاع عن النفس، ولكن عن طريق الفكر الهيامي (بدون الغربنة), وان المجتمع العربي الذي لم يستطع دخول الحداثة زمنيا، والمتناقض مع خصائص المجالات الحياتية للغرب فكيف به يستطيع دخول مرحلة ما بعد الحداثة في ظل حداثته العكسية في الوقت الذي تبحث فيه المجتمعات الغربية عن مجالات اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية جديدة، لان تلك المجالات المتقولبة لم تعد تناسبهم في عصر ما بعد الحداثة، ذلك لانه وكما وصفها الطيب تزيني " ما بعد الحداثة تبشر بعصر او بعصور متغيرة او مختلفة اختلافا كليا عن العصور السابقة.... وظهور مجتمعات ما بعد الصناعية " بعكس المجتمع العربي، الذي يتمسك بمجالات ما قبل الحداثة . ومهما تكن خصائص ما بعد الحداثة من "تفكك وتشظي وانشطار وابتلاع" للمجالات الحياتية المتقولبة، فان المجتمع العربي لن يستطيع الدخول فيها الا بطريقة القفز اليها، فيكون بذلك متضاعفا بالتشوه في حين انه لم يستطع ازالة حالة الحداثة المشوهة من قبل, ليتضح انه يجب اعادة هيكلة الفكر العربي ما بين الماضي والحاضر بنظرة واقعية الى واقع المجتمع العربي، ومراعيا خصوصيته العربية من اجل بناء مشروعه الحضاري .
الهوامش :
*محمد عابد الجابري، مفكر وناقد مغربي، من احد كبار فلاسفة الفكر العربي