New Page 1
زمن الخيول البيضاء / لابراهيم نصر الله في ندوة مقدسية
16/02/2010 17:23:00
الملهاة الفلسطينية " زمن الخيول البيضاء "
ملحمة النكبة
ناقشت ندوة اليوم السابع الدورية الاسبوعية في المسرح الوطني الفلسطيني _الحكواتي – سابقا في القدس الشريف رواية :"زمن الخيول البيضاء" للاديب ابراهيم نصر الله الصادرة في آواخر العام 2007 عن= عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت ، تقع الرواية التي صمم غلافها ورسوماتها الداخلية الفنان التشكيلي البحريني احمد باقر في 510 صفحات من الحجم المتوسط .
بدأ النقاش مشرف الندوة جميل السلحوت فقال:
بداية لا بد من التذكير بأن المؤلف مبدع متميز متعدد المواهب ، له باع طويل اثرى المكتبة العربية بأعماله الشعرية والروائية والنقدية ، فهو شاعر مطبوع صدر له اكثر من خمسة عشر ديوانا شعريا حتى الآن، وروايته – زمن الخيول البيضاء – هي روايته الثامنة ، كما ان له عدة كتب في النقد ، وترجمت اعماله الروائية الى الانجليزية ، الايطالية ، الدنماركية ، والالمانية ، كما ترجمت بعض قصائده للغات اخرى منها البولندية ، التركية ، الفرنسية ، الالمانية ، الاسبانية ، والايطالية .
وقد حصل على عدة جوائز مرموقة عن اعماله الشعرية والروائية .
ومن الواضح لمن قرأ وتابع الأعمال الأدبية للمبدع ابراهيم نصر الله انه دائم التجديد في هذه الأعمال . وقد بلغ من الشهرة ما بلغ قبل هذه الرواية التي نحن بصددها ، فجاءت هذه الرواية الملحمية لتجعل منه نجم نجوم من كتب عن نكبة الشعبة الفلسطيني ، وحسب معلوماتي المتواضعة فإن روايته المحلمية لم تكن مسبوقة بأي عمل روائي يضاهيها ، كما انها غير متبوعة بما يضاهيها حتى الآن على الأقل ، فلقد قرأنا قبلها رواية "بير الشوم" لفيصل حوراني ورواية " باب الشمس " للروائي اللبناني الشهير الياس خوري ، وقرأنا بعدها – بعد زمن الخيول البيضاء – رواية " الصعود الى المئذنة " للروائي المبدع احمد حرب التي هي عن فترة ما بين 1948 و 1967 ورواية " ماء السماء " للروائي المبدع يحيى يخلف ، ومع كل الابداع الذي جاء في الروايات الثلاث الا ان " زمن الخيول البيضاء " جاءت ملحمة روائية بكل المقاييس ، غطت مراحل ما قبل النكبة ، بفنية عالية ، وهذا بالطبع لا ينتقص من القيمة الابداعية للروايات التي ذكرناها .
الملهاة الفلسطينية :
يطرح الكاتب عدة ملاحظات بما يشبه المقدمة لروايته ، يذكر فيها انه بدأ مشروعه الروائي هذا في العام 1985 " بدأت العمل عليها اعدادا وتسجيل شهادات وتكوين مكتبة خاصة بها ، ولكن افضل ما يحدث ان الامور لا تسير حسب رغباتنا ، اذ اصبح العمل الطويل عليها هو الباب الذي سندخل منه خمس روايات ضمن هذا المشروع ، وبهذا فإن الرواية التي كان من المتوقع ان تكون الأولى اصبحت الاخيرة " ص5
ورواياته الخمس التي سبقت " زمن الخيول البيضاء "هي : " طفل الممحاة " و " طيور الحذر " و " زيتون الشوراع " و " أعراس آمنة " و " تحت شمس الضحى" : .
واديبنا الذي لم يعش فترة النكبة ، فهو من مواليد عام 1954في مخيم الوحدات في الاردن ، استمع الى شهادات بعض من عاشوا النكبة " شهود من اربع قرى فلسطينية حملوا الحلم ذاته ، وماتوا الميتة ذاتها غرباء ، هذه الرواية أهديها الى أرواحهم "
عمي – جمعة خليل ، جمعة صلاح ، مرثا خضر ، كوكب ياسين طوطح . هذه الرواية تحية اليهم، وتحية لعشرات الشهود الذين لم يتوانوا عن تقديم خلاصات ذكرياتهم ، أو استمعت الى بعض حكاياتهم ، مصادفة على مدى عشرين عاما " ص 5
وهو يهديها ايضا " للكتاب الفلسطينيين والعرب الذين ساهمت مذكراتهم وكتبهم في اضاءة الطريق لي ، وقد جرى تثبيت اسماء اعمالهم في نهاية الرواية " ص 5
وهكذا فإن اديبنا مهد الطريق للرواية من خلال ما دونه من أفواه من عاشوا المرحلة ، ومن خلال عشرات الكتب التاريخية والادبية التي كتبت عن تلك المرحلة .
والسؤال يعود مرة اخرى حول الملهاة ، فالقول المأثور بأن" التاريخ يعيد نفسه مرتين ، مرة على شكل مأساة ومرة على شكل ملهاة" . فلماذا أسقط الكاتب المأساة ، وقبض على جمرة الملهاة ؟ وقد اثبت لنا الكاتب في ص509 في آخر الرواية " الملهاة وجذورها " كما جاءت في معجم لسان العرب ، وكأني به يهرب من المأساة بما تحمله من تراجيديا تنتهي بموت البطل ، الى الملهاة التي يريد ان لا تنتهي قبل ان يعود الحق الى اصحابه ، فمما جاء في لسان العرب ان " الانسان اللاهي الى الشيء : الذي لا يفارقه وقال : لاهى الشيء أي داناه وقاربه . ولاهى الغلام الفطام اذا دنا منه . قال تعالى : " لاهية قلوبهم " اي متشاغلة عما يدعون اليه . وقال " فانت تلهى " أي تتشاغل.
وواضح هنا ان الكاتب يريد تكريس " الملهاة " ويريد ان يبقى الفلسطينيون والعرب متمسكين بالملهاة الفلسطينية الى ان يعود الحق الفلسطيني ، وقد تكرر في الرواية اكثر من مرة ما جاء على لسان خالد الحاج محمود " انا لا اقاتل كي انتصر بل كي لا يضيع حقي "
وعودة مرة اخرى الى " زمن الخيول البيضاء " فالأديب المؤلف يقسم روايته الى ثلاثة ابواب أسمى كل باب منها كتابا وهي : الكتاب الاول : الريح ، الكتاب الثاني : التراب ،والكتاب الثالث البشر. والكتاب الأول يتحدث عن احوال البشر في اواخر العهد العثماني ، ويتحدث الثاني عن فترة الانتداب البريطاني ، والثالث عن الغزو الصهيوني لفلسطين ،وهكذا فإن زمن الرواية يمتد لأكثر من سبعة عقود .
ويلاحظ ان عودة اديبنا الى زمن أواخر العهد العثماني لم يكن عبثا ، ولم يكن من باب إطالة الرواية ، بل هو ضرورة تمليها ضرورة فهم النتائج المأساوية التي اوصلت الى النكبة ، فالنتائج دائما هي محصلة المقدمات والأسباب .
فالمظالم التي عاشتها فلسطين ، وعاشها شعبها العربي الفلسطين على ايدي الاتراك العثمانيين ، مثلهم مثل بقية اجزاء العالم العربي والاسلامي الذي كانت تتشكل منه الولايات العثمانية ،أهلكت البلاد والعباد ، فقد انتشر الفساد ، وسادت المظالم ، ولم يكن يهم الامبراطورية المريضة سوى جمع الضرائب بشتى السبل، لتمويل حروبها في مناطق مختلفة ، غير عابئة بأوضاع السكان وسبل معيشتهم ، وأوكلت الى بعض أعوانها المحليين هذه المهمة ،وهؤلاء تعدوا الحدود بشكل لا يقبله منطق ولا عقل ، لا يشغلهم سوى خدمة أسيادهم ، والإثراء الفاحش على حساب قوت الناس ، كما كانت تفرض التجنيد الاجباري على الشباب ، وتقودهم الى حروب خاسرة غالبيتهم لم يعودوا منها ،اضافة الى إعدام كل من كان يُشك في ولائه، وكل هذه الأمور هي التي مهدت الطريق امام الجيش الانجليزي، كي يدخل فلسطين بسهولة في اعقاب الحرب الكونية الأولى ليمهد لاقامة " وطن قومي لليهود " بعد ان تخلت بريطانيا عن وعودها للعرب الذين ثاروا على المظالم التركية ، فوأدت حلمهم في الاستقلال والتحرر القومي .
ان القارئ للفصل الاول يخرج بنتيجة مفادها ان الخروج على الأتراك كان مبررا ، فهم المسؤولون بأعمالهم السيئة عن هدم دولة الخلافة ، وهم المسؤولون عن دفع سكان ولايات دولة الخلافة للتحالف مع البريطانيين ضدهم ، أو على الأقل عدم الدفاع عن ولاياتهم أمام الغزاة الجدد .
أمّا الباب الثاني في الرواية فقد تحدث عن اوضاع البلاد في بداية عهد الانتداب البريطاني ، هذا الانتداب الذي سهل الهجرة اليهودية الى فلسطين، تمهيدا لاقامة دولة اسرائيل تنفيذا لوعد بلفور المشؤوم ، ولم يكتف البريطانيون بذلك ، بل إنهم سمحوا للعصابات الصهيونية بالتدرب على السلاح وحمله ، في حين كانوا يعدمون الفلسطيني على رصاصة فارغة أو على سكين ،كما ان البريطانيين سلموا كافة معسكراتهم وأسلحتهم للعصابات الصهيونية- بما فيها من اسلحة ثقيلة كالدبابات ومدافع الميدان وحتى الطائرات الحربية - ليلة انسحابهم من فلسطين، ويلاحظ القارئ لهذا الباب ان البريطانيين اعتمدوا في بسط سيطرتهم على بعض المتنفذين وجُلّهم من الذين كانوا متعاونين مع الأتراك لتنفيذ الاعتداءات والمظالم التي وقعت على الشعب الفلسطيني ، كما ان بعضهم كان من الاقطاعيين واصحاب المصالح المالية .
كما ان الكاتب طرح بطريقة ذكية وبفنية عالية ،دون مباشرة ودون خطابية، ان الكفاح الفلسطيني تركز في هذه المرحلة على مقاومة وطرد المستعمرين البريطانيين ، مع انه كان هناك الوعي الكافي لمخاطر الهجرة اليهودية ، وللأهداف الصهيوينة في فلسطين والمنطقة ، وقد رأينا في اكثر من مشهد كيف ان المقاومين الفلسطينيين لم يقتلوا أسراهم من اليهود الأصليين في هذه البلاد ، والذين كانت علاقاتهم أخوية مع الفلسطينيين العرب المسلمين والمسيحيين ، ففلسطين مهد الديانات السماوية ، وبلد التعدديات الثقافية ، وقد استشعر الفلسطينيون كما اليهود من اصل فلسطيني ان الشرور مصدرها اليهود المهاجرون من اوروبا ، كما تطرق الكاتب الى ان المستوطنيين اليهود قد استولوا على أراض فلسطينية شاسعة بالخداع ، وبدعم وحماية من المستعمرين البريطانيين.
ويتداخل الباب الثاني " التراب " مع الباب الثالث " البشر " ففي هذه المرحلة بنى اليهود المستعمرات الاستيطانية ، واقاموا الكيبوتسات الزراعية ، وبنوا مؤسسات الدولة حتى قبل قيامها .
وعندما ثبتت اقدامهم على الارض ، بدأوا اعتداءاتهم على القرى والمدن العربية المجاورة ، فقتلوا من قتلوا ، ودمروا ما دمروا ، واستولوا على مساحات جديدة من الاراضي ، ونشروا الرعب في البلدات العربية في محاولة منهم لاجبار الفلسطينيين على ترك ارضهم لكي ينجوا بأرواحهم، وكل ذلك بدعم ومشاركة من قوات الانتداب ، وبتحالف مع بعض العملاء ورجال الاقطاع .
ومن اللافت في ابواب الرواية الثلاثة ان أحد القواسم المشتركة فيها ان الفلسطينيين قاوموا الاحتلالات الثلاثة ، الأتراك والبريطانيين ، والمستوطنين الصهاينة ، وانهم – اي الفلسطينيين – تعرضوا لشتى انواع الاضطهاد والقمع من هذه الاحتلالات .
دور القيادات الروحية الأجنبية لبعض الأديرة :
على مدار " الكتابين " الثاني والثالث يُلاحظ كيف ان بعض " الرهبان " الاجانب خصوصا اليونانيين منهم ، الذين كانوا يرأسون - ولا يزالون مفروضين - على ابناء الطائفة الارثوذكسية ، قد استولوا على بعض الأراضي مستغلين جهل وبساطة الأهالي ، وقاموا بتسريبها للمهاجرين اليهود الجدد ، والكاتب في روايته لا ينطلق من منطلقات طائفية ، بل على العكس من ذلك ، طرح مواقف نضالية للمسيحيين من ابناء الشعب الفلسطيني الذين شاركوا في العملية الكفاحية المناهضة للمستعمرين البريطانيين وللمستوطنين اليهود ، وسقط بعضهم في معارك الكفاح ، كما ابرز المواقف الايجابية والمكافحة لبعض الرهبان العرب،وهو بهذا يؤكد على وحدة الشعب الفلسطيني بمختلف دياناته وطوائفه،ويطالب بطريقة غير مباشرة بتعريب الكنيسة .
ويبدو ان دور رجال الدين الأوروبيين الذين يسيطرون على بعض الكنائس في بلادنا مستمر حتى ايامنا هذه ، فكلنا عشنا وشاهدنا كيف ان بطريركا يونانيا وآخر ارمينيا قد سربا بعض العقارات المهمة في مدينة القدس للمحتلين الاسرائيليين ، وهربوا من هذه البلاد التي احتضنتهم ، وقد واجهوا معارضة شديدة من اتباع كنائسهم العرب ، ومن رجال الدين المسيحيين العرب الذين يناضلون من اجل استعادة هذه العقارات بالطرق القانونية .
المكان :
تدور غالبية احداث الرواية في قرية " الهادية " التي تخيلها الكاتب ، وان كانت هذه الاحداث تمتد في طول فلسطين وعرضها ، مع ان الكاتب ذكر اسماء مدن وقرى عديدة حقيقية ، بعضها دمره اليهود بعد اقامة دولة اسرائيل ، وبعضها لا يزال قائما ويبدو ان "الهادية " هي مركز فلسطين ، بل هي قلب فلسطين ،وما لجوء الكاتب الى "تـَخَيـُّل " الهادية الا محاولة هروب ذكية منه ، كي لا يحصر النضال الفلسطيني في مكان صغير بعينه ، فكل قرية وكل مدينة في فلسطين هي الهادية ، والعكس صحيح .
شخصيات الرواية :
يؤكد الكاتب في ملاحظاته في مقدمة الرواية الملحمية ان " اسماء الشخصيات والعائلات غير حقيقية ، واذا ورد تشابه بينها وبين شخصيات حقيقية ، فذلك بمحض الصدفة " ص5 وهذا صحيح كما ورد في الرواية ، مع ان بعض الشخصيات المناضلة ، أو " القيادات " المناضلة أو المتعاونة مع المحتل ، كانت اسماؤها حقيقية ، وهي مدونة في كتب التاريخ ، كما هي مخزونة في الذاكرة الشعبية .
الخيول البيضاء :
الخيول البيضاء هي احد ابطال الرواية ، وقد شغلت مساحات واسعة من هذه الرواية ، كما كان لها اكثر من دلالة ، بحيث انها تضع القارئ امام عدة تساؤلات عن دورها ، وعن دلالاتها . ولكل قارئ حقه في فهمها كيفما يشاء ، حسب خلفيته الثقافية والاجتماعية وبيئته المحلية .
وفي تقديري ان لجوء الكاتب الى الخيول الأصيلة ، البيضاء الجميلة ، ليكون لها دور كبير في روايته ، انما جاء من باب تأكيده المتكرر على " الأصالة " فالخيول الأصيلة عدا عن جمالها الساحر ، هي خيول وفيّة لفارسها ، لا تتزاوج إلا مع الأحصنة – جمع حصان – الأصيلة من بنات جنسها ، فمثلما لا تنقاد لغريب ولا تسمح له بامتطاء ظهرها ، فإنها لا تسمح لحصان غريب عن جنسها ان يتزاوج معها حتى ولو كان أصيلا هو ايضا .
وقد شاهدنا كيف أن العربي لا يفرط بفرسه الأصيلة ، وهو يعمل لها شهادة ميلاد متسلسلة من جهتي الأمّ والأب ، ونادرا ما يقدم على بيعها مهما دفعته الحاجة الى ذلك ، وكأنها فرد من أفراد الأسرة أو العائلة ، واذا ما اضطر الى اهدائها الى عزيز عليه فإن العرف والعادة ان يعيد المُهدى اليه أوّل مهرة تنجبها الى من أهداه إياها . وقد شاهدنا الخيول البيضاء " الريحانية " كيف شاركت في الأفراح والأتراح وفي الكفاح ،حتى انها سقطت قتيلة في نفس المعركة التي سقط فيها فارسها شهيدا .
فهل اراد اديبنا ان يسحب ذلك على البشر ؟؟
وأنا اقول ....... ربما .وأؤكد على هذه الـ " ربما " حيث شاهدنا ولا نزال نشاهد كيف ان بعض الأبناء توارثوا الكفاح والجهاد والأصالة عن آبائهم وأجدادهم والعكس صحيح ايضا.
وتشبيه الانسان الجيّد والخيّر بالفرس الأصيلة ليس جديدا في هذه الرواية ، بل هو أصيل في ثقافتنا الموروثة سواء منها الرسمي أو الشعبي .
فنحن نشبه المرأة المحصنة الوفيّة بالفرس الأصيلة ، ونشبه الرجل الرجل بالحصان الأصيل ، وكثيرا ما نسمع مخاطبة النساء بـ :"أمك أصيلة خلّفت أصيلة " ومخاطبة الرجال " بيّك أصيل خلّف اصيل "
وفي تقديري ان بطولة الخيول الأصايل في الرواية الملحمية ، واختيار الكاتب اسم روايته – زمن الخيول البيضاء – هي نقطة ذكية تسجل لصالح الكاتب
التراث الشعبي :
واضح ان اديبنا لديه مخزون ثقافي شعبي كبير ، فقد استعمل المثل الشعبي ، واستعمل الأغنية الشعبية ، والزغرودة الشعبية والعادات الشعبية في اكثر من موضع ، دون اقحام ، بل جاءت في مكانها الصحيح مما أسبغ على الرواية صفة الملحمية متعددة الجوانب والاهداف .
لغة الرواية :
لو لم نكن نعرف مسبقا ان أديبنا ابراهيم نصر الله شاعر مبدع ، لما احتجنا الى كثير من الذكاء كي نعرف ذلك من خلال لغة الرواية الشاعرية ، كما ان بلاغة اللغة وما ورد فيها من صور وتشبيهات اعطتها جمالية مدهشة ، فلغة الرواية سلسلة منسابة كمياه جدول عذب ، تشد القارئ اليها ، تدمجه فيها ، دون اثقال عليه . وعنصر التشويق جارف كسيل عرمرم ، فمع طول الرواية التي تزيد على الخمسمائة صفحة الا ان جماليات اللغة وسلاسة الأسلوب تأسر القارئ، وتجبره على قراءتها مرة واحدة ، واذا ما تركها في مرحلة معينة لسبب ما .... فإنها تلاحقه وتشده اليها من جديد .
وقد لاحظت ان الكاتب كرر عبارتين أكثر من مرة ، ولم أعلم ان كان ذلك مقصودا من الكاتب ، أم كانت تأتي معه عفو الخاطر ، وهما عندما كان يقف صاحب الأصيلة امامها " ينزل على ركبتيه ، يرفع قائمتها اليمنى ويقبل حافرها ، ثم يعيدها ويرفع اليسرى ويقبلها ويعيدها مكانها "
ومع تعلق العربي بفرسه الأصيلة إلا انني لم أسمع ، ولم أقرأ ، أن عربيا فعل ذلك إلا في هذه الرواية ، مع انني شاهدت وسمعت وقرأت عن تقبيل الخيول الأصايل على جبينها .
أما العبارة الثانية المتكررة فهي وصف الجوّ الماطر بـ :" تلبدت الغيوم وقذفت ما في جوفها من ماء دفعة واحدة" .
الاسلوب مرة اخرى :
يلاحظ ان الكاتب قد قسم ملحمته الروائية الى ثلاثة كتب ، وقسم كل كتاب الى قصص أو ما يشبه القصص ، كل قصة لها عنوان منفصل ، وكل قصة مرتبطة مع الأخرى بخيط حريري ، انها مشاهد تصويرية مدهشة ، فالكاتب كان يرسم لوحات متداخلة ومتشابكة ، فقدم لنا مشهدا روائيا اجبرنا على الانخراط فيه ومعايشته من جديد ، والرواية اشبه ما تكون بفلم سينمائي .
وفي تقديري ان تقسيم الملحمة الروائية بهذه الطريقة ، جاء لخدمة العمل وادخال كافة الروايات والحكايات الشفهية والمقروءة التي عاشها ابناء الشعب الفلسطيني في تلك المرحلة الممتدة من الربع الاخير للقرن التاسع عشر، الى نكبة الشعب الفلسطيني في العام 1948والتى سمعها الكاتب من رواتها أو قرأها.
وفي النهاية : ان هذه الرواية الملحمية تشكل اضافة نوعية ، وعلامة بارزة في تاريخ الأدب الفلسطيني والعربي ، وترجمتها الى لغات اخرى ، يغني عن كثير من المناظرات السياسية والكتب التاريخية التي أرّخت للنكبة الفلسطينية . وهذه الرؤية الانطباعية لهذه الرواية لا تغني بأي شكل من الاشكال عن الدراسات النقدية المنهجية التي ستثريها .
وقالت نسب أديب حسين:
رواية ٌ رائعة ٌ تقعُ في 505 صفحات، مقسمة ٌ الىثلاثة أجزاءٍ أو كتبٍ تحملُ عناوين (الريح، التراب، البشر) وكلُ كتابٍ مقسمٌ الى عدةِ فصولٍ.
الرواية والتي هي جزءٌ من الملهاةِ الفلسطينيةِ التي كتبها الأديب ابراهيم نصر الله، تنقلُ صورة واقعية وتأريخية لحقبة من الـزمن مرت فيها البلاد من أواخر القرن التاسع عشر وحتى النكبةِ. تجري أحداثُ الروايةِ في قريةِ الهادية التي هي من خيال الكاتب، وينقلُ الكاتب صورة تجسيدية عن القرية، سكانها، عاداتها وتاريخها..
ليعيشَ القارئُ بين منازل ِ القـرية ويمضي في السهول التي تحيطها، ويطّلع على العديد من القرى والمدن الفلسطينية "زكريا، المنشية، المسمية الكبيرة، عروج،القدس، يافا.."، وليمضي في 505 صفحة مرافقًا بطلها خالد من ايام ِ شبابه وحتى لحظةِ موتِه، ليشهدَ موت بطلٍ من الثوار. ويبقى القارئُ مقيمًا مطلعًا على ما يحصل في بيتِ الحاج محمود "والد خالد" حتى يُنسف البيت، ومعظم بيوت القرية ويضطـرُ سكانها وكتيبة من قوات الجيوش العربية الخروج منها، بعد أن تتالت خسائرهم، ونفذت المؤونة في حرب الـ 1948، ليقيموا مدة في مكان ٍ مشرف على القرية ويرونها تُدمر أمام عيونهم.
تشدُ الرواية ُ قارئها من الصفحةِ الاولى بدءًا من وصف الحياة الاجتماعية وتقديمها بحقائقها وبساطتها الى القارئ، الى مكافحة الاتراك والاستعمار البريطاني، ثم الاحتلال ِ الصهيوني. والرواية غنية بكلِ ما جاءت به، في كل المجالات التي طرحتها من وصف الثورة والعادات والتقاليد "حوت الكثير من الاغاني التي كان يرددها سكان القرية في مناسبات مختلفة". وتظهـر أهمية الخيل في حياة الانسان العربي وارتباطها الوثيق بحياتِه، ليلتمع نجم الفرس "الحمامة" والتي يمكن اعتبارها إحدى ابطال الرواية لما كان لها من تأثيرٍ على حياة البطل خالد، والذي يصعب على القارئ حتى مع ادراكه أن ما بين يديه رواية شخوصها من خيال الكاتب أن يصدق أن بطلها خالد لم يكن موجودًا، وأنه استشهد وتوقف عن مرافقته حتى آخر الرواية ولـن يعثـر عليه في قريةٍ غير موجودة.
وقال موسى أبو دويح:
كتب الأديب الشاعر إبراهيم نصر الله روايته (زمن الخيول البيضاء) وجعلها من (الملهاة الفلسطينية). وقسمها إلى أبواب ثلاثة أطلق عليها اسم: الريح والتراب والبشر. وجاء كل باب منها في أقل بقليل من مئتي صفحة من القطع المتوسط.
واختيار إبراهيم اسم (الريح والتراب والبشر) أسماء لأبواب روايته الثلاثة، دل عليه ما كتبه تحت اسم الرواية في الصفحة الثالثة: "لقد خلق الله الحصان من الريح والإنسان من التراب" (قول عربي). والبيوت من البشر (إضافة).
ولقد كان للخيول العربية الأصيلة في الرواية، وعلى الأخص في الكتاب الأول، الحظ الأوفر؛ حيث أسرف الكاتب في الكتابة عن الفرس المسماة بالحمامة لبياضها، والحصان الأدهم. وتطرق فيه إلى كل ما يتعلق بالخيل من صفات، وذكرتني كتابته عن الخيول العربية الأصيلة بقول القائل عن فرسه المسماة (سكاب):
أبيت اللعن إن "سكاب" علق نفيس لا تعار ولا تباع
مفادة مكرمة علينا يجاع لها العيال ولا تجاع
والخيل عند العرب معقود بنواصيها الخير، وكانت في الجاهلية هي أداة القتال والغزو والذود عن المال والأهل والولد والعشيرة. وفي الإسلام عمود الجهاد بعد الإيمان بالله وجنته التي عرضها السماوات والأرض؛ ولذلك جعل لها الرسول صلى الله عليه وسلم نصيبا في الغنائم مثل نصيب المحارب، فجعل نصيب الفارس من الغنيمة ضعف نصيب الراجل.
ويحسن في هذا المقام أن نذكر شيئا مما جاء في لسان العرب عن الخيل: (والخيل الفرسان، وفي المحكم جماعة الأفراس، لا واحد له من لفظه، قال أبو عبيدة: واحدها خائل لأنه يختال في مشيته. وفي التنزيل العزيز: "وأجلب عليهم بخيلك ورجلك" أي بفرسانك ورجالتك (جمع الراجل). والخيل الخيول، وفي التنزيل العزيز: "والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة، ويخلق ما لا تعلمون" وفي الحديث: "يا خيل الله اركبي" قال ابن الأثير: هذا على حذف المضاف، أراد يا فرسان خيل الله اركبي، وهذا من أحسن المجازات وألطفها. والجمع أخيال وخيول، الأول عن ابن الأعرابي والثاني أشهر وأعرف. وقالوا: الخيل أعلم من فرسانها).
وبينت الرواية أن الفارس الكريم لا بد له من فرس كريم. وأن الفرس الأصيلة لا بد لها من فارس مغوار. فالفرس والفارس متلازمان، فعنترة حصانه "الأدهم" وخلده بقوله:
يدعون عنتر والرماح كأنها أشطان بئر في لبان الأدهم
وابن عباد فرسه "النعامة"، و"داحس" اسم فرس معروف مشهور وهو لقيس بن زهير العبسي، و"الغبراء" فرس لحمل بن بدر، فرد بنو فزارة الغبراء ولطموها، وكانت سابقة؛ فهاجت الحرب بين عبس وذبيان أربعين سنة.
واختيار الكاتب اسم "الهادية" اسما لبلدته أو قريته اختيار له دلالته، فكأني به يريد أن يقول إن هذه القرية بأهلها وعاداتها وجرأة رجالها وصمودها وتحديها لأعدائها من الإنجليز وغيرهم بثوارها، تصلح أن تكون نموذجا وهاديا لكل فلسطيني ولكل مدينة وبلدة وقرية وخربة من مدن وبلدات وقرى وخرب فلسطين، فليحذوا حذوها، وليسيروا على دربها في الجهاد والكفاح والنضال.
وركز الكاتب في روايته على وصف الحياة الفلسطينية بأدق تفاصيلها، فوصف لنا حياة القرية، رجالا ونساء وأطفالا، وأنعاما كالإبل والبقر والغنم، ودواب كالخيل والبغال والحمير، ودواجن كالدجاج والحمام والحبش. وطعاما وشرابا، وعادات في الخطبة والزواج، والولادة والختان، والموت والعزاء، والقيام بواجب الضيف لمدة ثلاثة أيام. والزراعة والفلاحة، والسهول والجبال والوديان، والصخور والحجارة، والبيوت وأحواشها، وأماكن حفظ الحبوب للناس، وحفظ الأعلاف للحيوانات الأليفة.
وكرر عادة تكسير الصحون، وهي عادة كانت موجودة في بعض قرى فلسطين، يقوم بها الشاب ليشعر أهله أنه يريد الزواج، وأنه لا يصبر على حياة العزاب. ووصف هذه الحياة الفلسطينية وصفا دقيقا؛ ليثبت للعالم أن فلسطين بلاد لها أهلها الذين سكنوها وعمروها، وعاشوا فيها عيشا مميزا خاصا بهم، لهم تراثهم وعاداتهم وتقاليدهم وحضارتهم وثقافتهم، وهذا أبلغ رد على من أطلق أعظم فرية في التاريخ (إن فلسطين أرض بلا شعب).
وذكرني الكاتب في أسلوبه في هذه الرواية بأسلوب الجاحظ، الذي أهم سماته الاستطراد لدفع السأم والملل عن القارئ. وكاتبنا أبدع هنا في الاستطراد وهو الانتقال من موضوع إلى موضوع، وهذه سمة ظاهرة في عناوين الرواية الداخلية مثل: (وصول الحمامة، الهباب، انكسر الشر، المحترمون السبعة، عسل للبيع، نظرة مختلفة، قرآن كريم، عودة الهباب، رجال بعباءات مقصبة، على عتبة الدير، المحرمات) وهكذا؛ ولا رابط يربط هذه المواضيع ببعضها سوى أنها جميعا من فلسطين.
ولغة الكاتب في روايته لغة شاعرية راقصة، تنساب كانسياب الرقطاء فوق الرغام، فهو يقدم ويؤخر كثيرا، وهذا يضفي روعة وجمالا على الرواية، اسمعه يقول في "دلال امرأة" الذي قصد منه حمل الحمامة:
طيلة شهور حملها، تعامل معها أهل الهادية كأغلى بناتهم.
طويلا ترقبوا بروز بطنها.
أخيرا قالوا.
لثلاثة أيام ظلت الذبائح تذبح.
في اليوم الثاني من وصولهم، بدأت طقوس الزواج.
ثلاث مرات سمحوا له بالشباية عليها.
بارتباك نهض.
بخفة قفز على ظهرها.
ثلاثة أختام لثلاثة شيوخ أكدت لقاء الحمامة بفحلها.
حين انتهوا منها نهضوا.
فكأنك تقرأ شعرا لا نثرا، وهذا هو الإبداع، وهذا هو الجمال.
ولقد حفظت لنا هذه الرواية الكثير الكثير من الأغاني الشعبية والأهازيج والتراويد في الأعراس والأفراح وفي كثير من المناسبات.
والرواية على طولها تكاد تخلو من الأخطاء اللغوية، ولا شك أن هذه ميزة في هذه الأيام العجاف، والتي لا تكاد ترى فيها كتيبا يخلو من عشرات بل مئات الأخطاء اللغوية، وهذه الميزة تضاف إلى ميزات الرواية المتعددة.
وقال سمير الجندي:
لأول مرة أدرك الأهمية العظمى لهذه القضية - القضية الفلسطينية - ولأبنائها الذين عانوا منذ بداية القرن الماضي ولا يزالون، ذلك لأننا في تجولنا، وتحليقنا بين ثنايا وخفايا قضيتنا عبر هذه الرواية ذات المستوى الفني الرائع، الذي لا أعتقد بأن هناك من سبق الأستاذ "إبراهيم نصر الله"، أو اقترب منه في التعبير عن آلام شعبنا في مسيرة المعاناة الطويلة بهذا الفن الراقي، وبأسلوب، لا يخلو من التشويق، والإثارة والتصوير الرائع، لدرجة أنه نقلنا روحا، وجسدا، ووجدانا، لنحلق ونعيش أحداث الرواية التي بين أيدينا بدءاً من عنوانها " زمن الخيول البيضاء" الذي يعبر عن الحنين لذلك الزمن الجميل الواسع الرحب، المعبق بأصالة عاداتنا وتقاليدنا الراسخة رسوخ زيتونه، ورمانه، وكرومه؛ وعراقة ووفاء رجاله أصحاب الهمم العالية والشموخ المتميز، مرورا بكل تفاصيل أحداثها مهما صغرت.
لقد جعلنا نعيش تلك الأحداث من الداخل؛ وهذا الأمر بحد ذاته تفوق لا مثيل له في رأيي المتواضع، وبلغة شفافة ، شاعرية، لا تخلو من الموسيقى ، سهلة ومكثفة بنفس الوقت، تتلاءم مع المعنى وتوافقه بامتياز، ليس فيها حشو ولا إسهاب، الأمر الذي جعلني أتخلى عن كل اهتماماتي، وأعمالي الخاصة، وأن أنسى كل التزاماتي حتى أتيت على قراءة الرواية ألتهمها التهاما، لقد أسرني الكاتب بأسلوبه السهل الممتنع، جعلنا نقف له احتراما وتقديرا شاكرين له هذا العمل المتميز، مقدرين طاقاته الإبداعية، التي جعلت منه رائدا سبق من سبقوه في الإبداع، والتألق، لقد استمتعت بقراءة الرواية لدرجة البهجة، حتى بدأت بإعادة قراءتها مرة ثانية وفيما بعد، ثالثة ورابعة، لكي أكرر لحظات السعادة التي غمرتني ،وأنا أمر على كلماتها الحلوة التي كنت أرتشفها حبا وعشقا وتجليا، غائب في نشوة الاستمتاع .
إنني لن أكتب الأمثلة التي تدل على ما أقول؛ لأن كل جملة من جمل الرواية هي لوحة فنية بحد ذاتها ، فحديث العيون بين خالد والغزالة "ص 102-103" كان رائعا في حوار غير عادي، بين الإنسان والحيوان، انتهى بتوافق الطرفين، والهمة العالية والإصرار غير العادي الذي جسده لنا الكاتب في شخصية "خالد" ، التي هي ربما شخصية تمثل شباب فلسطين الذين لا يتخلون عن حقوقهم المغتصبة ، ولا عن إيمانهم العميق ، " كانت المرة الأولى التي يقبل فيها قوائم مهرة، لكنه أحس كم أصبح عاليا حين انحنى، وكم أصبحت فرسا أكثر" (اقتباس من الرواية) . فهو إنسان يقدر ويحب ويعشق ويقاتل بشجاعة ، والأصيل لا يقبل بأقل منه أصالة، لقد عبر لنا عن الإنسان المجاهد الذي لا يقاتل من أجل القتال، إنما يقاتل من أجل إنهاء الظلم وإرجاع الحق المسلوب، فهو مثل الخيول الأصيلة ؛ هامته مرفوعة تصل عنان السماء، ودماؤه مجبولة بتراب الأرض التي أخذت معالمها تصغر شيئا فشيئا وهويتها تطمس يوما بعد يوم ، حتى أدركوا أن المغتصب يريد مسح قريتهم عن الوجود لكي تكون مرتعا للغرباء. " بدأت الهادية تصغر يوما بعد يوم ، تتلاشى أمام عيونهم وهم ينظرون إليها... وعندها أدركوا أنهم يريدون محو" الهادية"من الوجود" ص 504". وهذا ما نراه على أرض الواقع في فلسطين اليوم.
لقد لفت انتباهي تعبير الكاتب عن " الآخر " في الرواية بأنه إنسان يخاف عندما يداهمه الخطر مثل " مُحصّل الضرائب " وبأنه إنسان يحترم عدوه مثل الضابط الإنجليزي " باترسون" حينما قال " من العيب أن نتلقى التهاني بمناسبة موته" "ص374" وكيف اصطف الجنود الإنجليز لإطلاق الرصاص في الهواء بينما كبار الضباط يؤدون التحية أمام جثمان "الشهيد خالد" . لكن المستعمر الصهيوني لا يحفظ العهود ولا يصونها.
وقال محمد موسى سويلم:
دارت أحداث الرواية على مدار ثلاثة أجيال في فلسطين، وأيضا عاصـرت هذه الأحداث ثلاث دول، وقد روت هذه الرواية الأحداث الفلسطينية الصعبة للحياة في جميع القرى و المضارب والمدن من شغف العيش وقلة الحيلة، وحب الأرض والصمود عليها والتضحية بالغالي والنفيس والمهج والأرواح في سبيلها.
روت كيف كان رجال الدرك يغيرون على الفلاحين لأخذ الأعشار، تلك الطريقة التي دمرت الأرض والإنسان، وأجبـرت الفلاحين الجاهلين بالقوانين والأنظمة بأن يعطوا المختار أو أصحاب النفوذ كواشين أرضهم، وبذا أصبحوا عرضة للابتزاز والسرقة والنهب، وضياع الأرض أخيرا.
الرواية تعتبر عملا تراجيديا مؤلما لزمن كان الرجال فيه رجالا، ولكن ظلم المتنفذين وعدم وجود الناصحين جعل من هذا الهناء وهذه السعادة شقاء حقيقيا. الماضي التليد لرجال فلسطين من كرم الضيافة ومسامحة بعضهم بعضا، وتماسك العائلة والقرية في الكثير من أمور الحياة سمة يعتز بها القاصي والداني، وقد شهد لهم بذلك البعيد قبل القريب.
اعتز الفلسطيني بالأرض واعتبرها أعـز ما يملك، دافع عنها بكل قوة، كما اعتز بالمرأة وحافظ عليها ،وعلى رأي المثل "الأرض والعرض تـُحمي بالسيف".كما اعتز بالخيل واعتبر الاعتداء عليها كالاعتداء على شرفه وعرضه، وقد شبه الفـرس الأصيلة (المهرة)بالبنت، وفي كثير من الأحيان كانت تذهب الجاهة لطلب بنت للزواج، فيقال: جئنا نطلب يد ابنتكم الأصيلة بنت الأصول أو يد الشريفة .....وهكذا .
نبشت الرواية رائعة من روائع النضال الوطني ضد مغتصبي الأرض، وضد مقتلعي الإنسان من أرضة ووطنه، نبشت مدى التآلف والتخالف والتداخل بين كل المخلوقات على الأرض الفلسطينية، من الخيل والحمام والإنسان، وبين الأرض التي احتضنت واحتملت كل هذا العناء.
تحدثت الرواية عن التعليم ومشاقة وعنائه في زمن عز فيه العلم عن الكثير، وعن المواصلات من القطار و السيارة والخيل و العربات المجرورة،تحدثت عن الزواج و الأفراح في فلسطين، والتي لا يوجد اي فروق تذكر بين منطقة وأخرى .تحدثت عن طمع وجشع وكرم و ضيافة وإغاثة و ترابط اسري وعشائري وقروي، زمن الخيول البيضاء كانت بطلة هذه الرواية عن فرس عربي أصيلة اسمها (فضة) سُرقت ولكنها صهلت مستغيثة، لينقذها بطل الرواية، وهي (عائلة الحاج محمود وابنة خالد) وتدور الأحداث ونرى طمع الطامعين بها وبالأرض والإنسان وتدفع الأجيال ثمنا لهذا الصراع أرواحا كثيرة، روت الأرض الفلسطينية دمعا ودما، ويتطور هذا الصراع الذي زرع شرارته الأولي بلفور بوعده المشئوم، من صراع على الأرض إلى صراع معتقدات، ونصبح بحاجة إلى بلفور جديد ليعطي وعدا جديدا لحل خلاف لن يزول لا بحل عسكري، ولا بحل تفاوضي، فالقضية الفلسطينية حسب ما يعتقد البعض طـُبخت في لندن، وأكلت في واشنطن، ودُفع الثمن في فلسطين، فالصراع سياسي عسكري عقائدي وديني تاريخي.
لنعد إلى الرواية بشخوصها ، ولنحدد هذه الشخوص، فعـن الخيل العربي الأصيل التي لا تقبل إلا خيلا عربيا أصيلا، ولا تتزاوج بغير أصيل، لتنجب خيلا أصيلا من ظهر أصيل، فهل توقف هذا الشرط ؟ وهل أصبحت الخيل الأصيلة تتزاوج بغيـر أصيل وبذا تنجب هجينا لا سمح الله ،وتصبح هذه الأصيلة داعرة أو عاهرة، وتعمل في الخفاء وتتزاوج بأيّ ذكر من الحيوانات .
لا والمرأة الفلسطينية أيضا ستبقي تنجب أبناءا من أصول حرة كريمة عزيزة، إلى أن يأتي أصيل يمتطي صهوة أصيل، ويسير نحو تغيير وعد بلفور ،وتعود الأرض لأصحابها الشرعيين وتعود الخيل الأصيلة وعلى ظهورها فرسان رضعوا من صدور أمهاتهم، بعيدا عن الحليب الصناعي، و يعيدون الحق إلى نصابه وإلى أصحابه، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
الرواية رائعة من روائع التاريخ والتأريخ الفلسطيني للأحداث التي وقعت في زمان وتاريخ و مكان محدد في الأرض الفلسطينية، ومؤامرات تحاك في السرّ والعلن لهذا الشعب المرابط و الذي يتعرض لهجمة همجية من القريب والبعيد اللهم ارحم واغفر .
وبعده جرى نقاش مطول شارك فيه اضافة الى من سبق كل من : ابراهيم جوهر ،ايهاب الجلاد ،سوسن ادكيدك وسامي الجندي.
القدس : 13-11-2008
|