New Page 1
اللغة الدرويشية في ( الجدارية )- إبراهيم جوهر
12/03/2010 12:12:00
اللغة الدرويشية في - الجدارية
لغة الجدار العالي الذي سيكون يوما
إبراهيم جوهر / القدس
عمل محمود درويش على الاستفادة من خصائص اللغة العربية في بناء هويته كشاعر ، وتسامي قامته كمجدّد في التعبير كاشف عن أسرار اللغة ومرونتها وقابليتها غير المحدودة على الاستيعاب والنهوض والتأثير والتوصيل والتصوير ونقل الأحاسيس والمشاعر والحوار بين العام والخاص ، والذات والآخر ، والذات وذاتها ، ضمن إطار من الفلسفة والتاريخ والموروث الثقافي العالمي والكتب السماوية ، والتراث الأدبي العربي الغني الذي أحياه وجدّد النظرة إليه والنظر فيه .
تشكّل اللغة عند محمود درويش جدارا يقيه ، ويساعده ، ويحميه . يتسلّقه ، ويخطّ عليه ما في نفسه موصلا رسالته إلى العالم بأسره ؛ اللغة هي الإنسان ، وهي السحر الآسر الذي يأسرك فتظل تسعى وراء فكّ رموزه ، وملاحقة دلالاته ، وتصيّد غزالاته الشاردة في براري الإبداع اللامحدودة .
اللغة عنده مساحة من البوح والتعبير والنفس والشعور . إنها كائن حيّ ينمو ويحسّ ويتنفس ويموت ويفسد ؛ يفسده الأعداء ، وينقّيه الأصدقاء . يقول مبررا سبب حقده على ( شارون – رئيس وزراء إسرائيل ) وعدم كتابته قصيدة عنه :( إنه لا يستحق قصيدة فهو يفسد اللغة) .
اللغة تفسد حين تضطر للهبوط في التعبير عن مستوى هابط ، متدنّ ، فتفسد وتتشوّه ، لذلك فإن الشاعر حريص على نقاء لغته ، وصونها من الفساد .
والقصيدة عنده تعني الحياة ، فشارون لا يستحق أن يحيى في القصيدة ، وبالقصيدة ، التي هي في أصلها نقية صافية ذات أسرار وجمال لا يقبل أن يشوّهه الفاسدون .
هذه لغة درويش التعبيرية في اللقاءات الصحفية ، هي لغة شعرية ، نقية ، جميلة ، ذات أبعاد ودلالات ورؤى . وذات ظلال وذاكرة وبيان آسر مدهش . إنه يطوّر اللغة ، ويعلي من شأنها ، ويلفت النظر للاهتمام بها .
اللغة تسفّ وهي تصف سفيها ، وتغوص في الوحل والدم وهي تصف قاتلا حاقدا . شارون رمز كل مغتصب حاقد إذن يفسد اللغة ؛ لغة القصيدة التي هي حياة توهب لمن يستحقها وهو جدير بها .
اللغة عند درويش مفهوم أعلى من كونها مجرد رموز يعبّر من خلالها كل قوم عن حاجاتهم . إنها أداة للمقاومة بفعل الكتابة . وهي سلاح ينفرد به الشاعر ويتفوق على الخصم الذي لا يمتلك لغته الخاصة به التي تستطيع المواجهة وتقدر على هزيمة لغة الشاعر العالية .
اللغة عند درويش ذات جذور عميقة في بطن التاريخ ، وذات آفاق واسعة المدى ، بعيدة الوقع . وهي وسيلة تحدّ وانتصار . يقول في توصيف لحظاته وقت الحصار في رام الله :( لم تكن لديّ طريقة مقاومة إلاّ أن أكتب ، وكلما كتبت أكثر كنت أشعر أن الحصار يبتعد ، وكانت اللغة ، وكأنها تبعد الجنود لأن قوتي الوحيدة هي قوة لغوية . )
لقد عمل محمود درويش على تطوير اللغة وتطويعها في خدمة مشروعه الشعري المتكامل ، ولفت النظر إلى أهميتها وقدرتها وقيمتها ، هذا المشروع المتكىء على اللغة العربية أداة توصيل وتحدّ وتعبير ، وجاءت لغته الشعرية ذات بنى مجازية بلاغية وكناية واستعارة ، فكان مجدّدا في اللغة وباللغة التي صارت على يديه سلاحا يشهر في وجه العدو الذي ناقش قصيدته ( عابرون في كلام عابر ) في برلمانه .
( الجدارية ) تلخيص إبداعي شامل محكم لمسيرة تاريخية عامة وخاصة ، حكى فيها الخاص العام وعبّر عنه ، وأعلى فيها العام الخاص واتكأ عليه في جدلية إبداعية يصعب الفصل بين مكوّناتها . وهي أيضا سيرة ذاتية ، وسيرة عامة . وسير نفسية إنسانية فلسفية كفاحية برزت فيها القدرة اللغوية العالية للشاعر ، وقدرة اللغة على النقل والتأثير والتعبير على أبلغ وجه .
أخذت ( الجدارية ) عنوانها ، وهندسة بنائها من لغة الفن التشكيلي ، ووجدت في امتداد الجدارية الفنية على الجدار ، ووقوفها ، معادلا موضوعيا لامتداد تاريخ الشاعر وقضية شعبه ، وسيرته الشخصية التي عبّر عنها بلغة الإيجاز والكناية والإشارة .وهي التي فجّرت فكرتها تجربة ذاتية بعد المرض القلبي للشاعر في سنوات حياته الأخيرة ، فتكوّنت فسيفساء جدارية عملاقة ذات أبعاد ورؤى وتوصيف للواقع واستشراف للمستقبل في مسيرة عذاب وكفاح وتحدّ متواصلة ، استطاعت اللغة حملها ونقلتها عن طريق التفصيل والتكرار ؛ تكرار اللفظة ، وتكرار المعنى ، والصورة ، والذاكرة بهدف التوكيد والإصرار ورسم المستقبل الذي سيصير حتما .
و ( الجدارية ) وإن كانت مدفوعة بتجربة ذاتية هي مرض القلب والممرضات في المستشفى الفرنسي ، فقد حملت تجربة المرض الإنساني وإشارات الموت المبكر بلغة تجاورت فيها الجمل الاسمية مع الفعلية ، وغموض الاسم النكرة مع غموض الصورة المتخيّلة للممر اللولبي ( هذا هو اسمك / قالت امرأة وغابت في الممر اللولبي ) – ص 441 –
الاسم لغة ، واللغة سلاح . وهذا هو اسمك ؛ هذا هو سلاحك ، رمزك ، هويتك ، وكل شيء هو لك . فهل يملك الآن بعد رحلة عمر ورحلة شعر اسمه ؟؟
( هذا هو اسمك ) هكذا تبدأ ( الجدارية ) لتكون نهايتها في ارتفاع نغمة التحدي والإصرار والثقة : ( هذا البحر لي / هذا الهواء الرطب لي / واسمي / وإن أخطأت لفظ اسمي على التابوت / لي ) – ص 536 – وهو الذي كان قد حلّل حروف اسمه في تجانس استدعى فيه معاني الوجود والديمومة والتحدي ، وذاكرة اللغة ( واسمي ، وإن أخطأت لفظ اسمي / لخمسة أحرف أفقية التكوين لي :
ميم : المتيّم والميتّم والمتمّم ما مضى /
حاء : الحديقة والحبيبة ، حيرتان وحسرتان /
ميم : المغامر والمعدّ المستعدّ لموته / الموعود منفيا ، مريض المشتهى /
واو : الوداع ، الوردة الوسطى ، ولاء للولادة أينما وجدت ، ووعد الوالدين /
دال : الدليل ، الدرب ، دمعة / دارة درست ، ودوريّ يدلّلني ويدميني /
وهذا الاسم لي ..... ولأصدقائي ، أينما كانوا ، ولي / جسدي المؤقت ، حاضرا أم غائبا ) – ص532 وما بعدها –
تبرز ياء الملكية في ألفاظ القصيدة بتكرار لافت قصده الشاعر ، ويتردد ( أنا ) الشاعر ( الفاعل ) حاضرا ظاهرا أو غائبا مستترا ليؤكّد حضوره ، واستمراره ، وتحدّيه لأعدائه ؛ أعداء اللغة ، وأعداء النفس لا الجسد الفاني ، وأعداء الحياة .
تكرّر الضمير الدّال على الذات عشر مرات في المقطع السابق وحده ، ويتكرّر في المقطع الآتي 13 مرة : ( أرى السماء هناك في متناول الأيدي
ويحملني جناح حمامة بيضاء صوب
طفولة أخرى . ولم أحلم بأنّي
كنت أحلم . كل شيء واقعي . كنت
أعلم أنني ألقي بنفسي جانبا ...
وأطير ، سوف أكون ما سأصير في
الفلك الأخير ....
أنا وحيد ) – ص441 –
ثم ينتقل الشاعر إلى محور آخر من محاور جداريته المتعددة ، فيكرر في تحدّ وثقة عالية ، أنه يعرف ما يريد ، وأنه سيصير يوما ما يريد ، ثماني مرات ، في مقطوعة عدد أسطرها 26 سطرا . والمقطوعة تنتهي بالاكتمال والانتقال من ضمير ( الأنا ) – سأصير – إلى ضمير الجمع ( النحن ) : ( سنكون ما نريد ) – ص 448 –
ويشكل المكان همّا مؤرقا للشاعر الذي يعاني من فقده ، وبسبب من فقده . وهو إذ يدرك أهمية المكان لتحقيق الحلم الذي سيصيره واقعا موثوقا منه وفيه ، فإنه مسكون بهذا المكان ( فالمكان خطيئتي وذريعتي ) –ص 446 – فالخطيئة تقابل الذريعة وتتضاد معها لتوضّحها وتبرّرها ( أنا من هناك . و "هنا "ي يقفر من خطاي إلى مخيلتي ) –ص 446- إنه يواصل المقابلة بين ضدين : هناك و "هنا "ي – والخطى التي تكون على الأرض إلى المخيلة الفوقية اللاأرضية من أجل الأرض ؛ المكان .
وحين يكرّر ما قالته تلك المرأة : ( هذا هو اسمك ) فإنه يعلي من شأن اسمه / رمزه وتاريخه الذي يسمو فوق مجرد كونه اسما للتمييز ( يا اسمي : سوف تكبر حين تكبر / سوف تحملني وأحملك / الغريب أخ الغريب ... ) – ص 448 –
الاسم والمسمّى ، أو المعنى والمادة ، الرمز والجسد هنا يتوحّدان ، ثم يتحاوران ويتساءلان . إنها معادلة الصراع من أجل الكينونة والبقاء والانتصار .
( فلنذهب إلى أعلى الجداريات :
أرض قصيدتي خضراء ، عالية ،
كلام الله عند الفجر أرض قصيدتي
وأنا البعيد / أنا البعيد ) –ص 449 –
أعلى الجداريات عنده هي أرض قصيدته الخضراء العالية ، الخصب والارتفاع والتسامي فيها . (أرض القصيدة ) لفظ دالّ يستوقف القارىء . ثم إنها ( كلام الله عند الفجر ) والفجر أول النهار ، الوقت الساحر الصافي النقيّ النشط المتوثّب الباسم . وكلام الله هو لغته الخالقة ، وحكمته ، وقدرته ، وأوامره العليّة في أرض القصيدة / الجدارية العالية .
محمود درويش شاعر ذو مشروع لغويّ إبداعي بيانيّ ، عمل فيه على تطويع اللغة وتطويرها وكشف أسرارها الكامنة وقدرتها اللامحدودة على التعبير عن قضايا كبيرة شائكة في تصوير بياني إيحائيّ ذي آفاق مفتوحة على الجمال والتأويل والسحر والموسيقى والرمز . وهو يأخذ بيديّ اللغة ليوقفها على مشارف المستقبل الأخضر الذي سيكون يوما ، وسيصير كما أراد .
لقد صدق وأجاد حين قال : إن قوتي الوحيدة قوة لغوية . ولغة درويش هنا لغة خاصة جدّد فيها وأجاد . وقد صار ما أراد في هذا الجانب .
- الإشارات والاقتباسات من قصيدة الجدارية المنشورة في ديوان الشاعر ( الأعمال الجديدة ) منشورات رياض الريس 2004 م .
---ورقة مقدمة إلى ندوة الخميس الثقافية ( اليوم السابع ) في مسرح الحكواتي بمناسبة يوم الثقافة الفلسطينية في الثالث عشر من آذار – الخميس 11/ 3 / 2010 م .
|