New Page 1
المركز القانوني لمدينة القدس
09/03/2010 16:32:00
المركز القانوني لمدينة القدس
بقلم: نزار أيوب
محام وباحث قانوني - مؤسسة "الحق"
في 24 تموز 1922 أوكلت عصبة الأمم للحكومة البريطانية القيام بمهمة الإنتداب على فلسطين. وتضمن صك الإنتداب البريطاني على فلسطين، المكون من 28 مادة، تعهداً يقضي بواجب الحكومة البريطانية العمل على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وذلك تحقيقاً لوعد بلفور الصادر في 2 تشرين الثاني 1917.
توخى صك الإنتداب البريطاني على فلسطين توطيد سلطة الإستعمار البريطاني على هذا الإقليم، وإيجاد الظروف الكفيلة بوفاء بريطانيا بوعد بلفور القاضي بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين من خلال الاعتراف بالوكالة اليهودية بصفتها هيئة عمومية لاسداء المشورة والتعاون، مع إدارة فلسطين في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك من الأمور التي قد تساعد في إقامة الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان اليهود. يذكر أن اليهود كانوا آنذاك أقلية ضئيلة جداً في فلسطين، وذلك قياساً بالفلسطينيين، الذين تعمد واضعو الصك التنكر لحقوقهم السياسية، وفي مقدمتها حق تقرير المصير والاستقلال، وقصروا ذلك على حماية الحقوق المدنية والدينية لهؤلاء، بما يولد الإنطباع بأنهم عبارة عن أقليات دينية تعيش في فلسطين.
إلا أن صك الانتداب تجاهل الجوانب السياسية لمدينة القدس، وحصر التعاطي معها على أساس أهميتها الدينية، وذلك كسائر الأماكن المقدسة في سائر أنحاء فلسطين، فتعمد تجاهلها، وعدم ذكر اسمها، واكتفى بالتأكيد على وجوب حماية جميع الأماكن المقدسة، وكيفية إدارتها وسبل ضمان حرية الوصول إليها في كامل أرجاء فلسطين. وقد ألحقت السياسات البريطانية والإجراءات الناجمة عنها خلال سنوات الانتداب أضراراً جسيمة بالفلسطينيين، وانتهكت حقوقهم على نحو سافر، وتنكرت لها، في حين عملت باستمرار على دعم وتشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين، وأصبحت نسبة اليهود قياساً بسكان البلاد العرب تعادل 1/3 بينما لم تكن هذه النسبة تتجاوز 1/12 قبل الإنتداب.
وبعد الانتهاء من قلب الميزان الديمغرافي في فلسطين لصالح المهاجرين اليهود، تخلت الحكومة البريطانية عن مسؤوليتها في فلسطين، وأحالت في نيسان 1947 القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة في وقت كان الصراع على أشده بين العرب واليهود، وخاصة في مدينة القدس، حيث تمكن معظم المهاجرين اليهود من الاستيطان في الشطر الغربي من المدينة، وبقي الجزء الشرقي منها بما في ذلك المدينة القديمة ذو أغلبية عربية.
تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 106 بتاريخ 15 أيار 1947، وشكلت بموجبه لجنة خاصة بفلسطين Unscop) )، أوكلت إليها مهمة إعداد تقرير يتعلق بالقضية الفلسطينية، ومنحت اللجنة صلاحيات واسعة للإطلاع على جميع الحقائق وتسجيلها، بما في ذلك صلاحية التحري عن الملابسات المتعلقة بقضية فلسطين، وحق القيام بما تراه مناسباً من تحقيقات، وتلقي الشهادات الشفوية والخطية من سلطة الإنتداب، ومن سكان فلسطين.
قدمت اللجنة الخاصة تقريرها الختامي للجمعية العامة، مرفقاً باقتراحين. نص الاقتراح الأول، والذي عرف آنذاك بمشروع الأكثرية، على لزوم تقسيم فلسطين إلى دولتين، دولة عربية وأخرى يهودية، وعلى أن تكون مدينة القدس كياناً منفصلاً (Corpus Separatum )، تدار بموجب نظام دولي خاص، تشرف عليه الأمم المتحدة. أما الاقتراح الثاني الذي عرف بمشروع الأقلية، فقد طالب بضرورة إنهاء الإنتداب البريطاني، وإقامة دولة موحدة في فلسطين لليهود والعرب، على أن تكون القدس عاصمة الدولة المقترحة. وبعد مناقشة المشروعين، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروع الأكثرية القاضي بإنشاء دولتين، وذلك بموجب توصيتها رقم 181 (د2) من تاريخ 29 تشرين الثاني 1947.
بموجب توصيات اللجنة الخاصة، نص القسم الثالث من التوصية على وضع القدس تحت نظام دولي خاص، يسري لعشرة أعوام، وتصبح بموجبه كياناً منفصلاً، وتوسع حدودها لتشمل إلى جانب المناطق المتعارف عليها العديد من القرى المجاورة، لتصل جنوباً حدود بيت لحم، وغرباً لغاية عين كارم، وشمالاً شعفاط، وشرقاً أبو ديس. وأوكلت الأمم المتحدة إدارة المدينة بحدودها الجديدة لمجلس وصاية تابع لها تم تكليفه آنذاك بوضع دستور مفصل للمدينة، يصون ويراعي حماية المصالح الروحية والدينية للعقائد التوحيدية الثلاث، ويدعم روح التعاون بين سكان المدينة جميعهم، ويسعى لتأمين الأمن والرفاهية لهم، وتعيين حاكم للمدينة، شريطة أن لا يحمل جنسية إحدى الدولتين المقترح إقامتهما في فلسطين، وأن تنحصر مهمته بتمثيل الأمم المتحدة في المدينة بالتعاون مع مجموعة من الموظفين الإداريين من سكان مدينة القدس، وسائر فلسطين دون أي تمييز عنصري.
وينص النظام الدولي الخاص على انتخاب مجلس تشريعي للمدينة بطريقة الإقتراع السري، يرتكز على مبدأ التمثيل النسبي لسكانها البالغين، وعلى إنشاء نظام قضائي مستقل، وأن تتبع المدينة من الناحية الإقتصادية للإتحاد الإقتصادي الفلسطيني، وأن تكون محايدة ومجردة من السلاح، ويحظر فيها أي نشاط عسكري أو قيام تشكيلات عسكرية، باستثناء وجود قوات من الشرطة توكل لها مهمة القيام بالمحافظة على الأمن والقانون وحماية الأماكن المقدسة. وتطرق القرار أيضاً لأنظمة التشريع والقضاء والإقتصاد.
ألحق قرار التقسيم ظلماً خطيراً بالفلسطينيين، ولم يكن تنفيذه ممكناً، فقد عارضه الفلسطينيون نظراً لأنه يتعارض مع القانون، ويخالف مبادئ العدل والديمقراطية. في مقابل ذلك، اغتنمت الحركة الصهيونية هذه الفرصة التاريخية، وقبلت القرار بشكل ملتو حتى تتمكن من تثبيت أقدامها في المنطقة بواسطة إقامة دولتها، ومن ثم تنفيذ مخططاتها المستقبلية المتمثلة باحتلال أراض الغير، والتوسع إنطلاقاً من حدود هذه الدولة.
أحدث قرار التقسيم خلافات حادة بين العرب والحركة الصهيونية، ونشبت على أثرها في عام 1948 حرب شاملة في فلسطين، نتج عنها تقسيم البلاد بما فيها القدس بواسطة إستخدام القوة المسلحة. وأفضت الحرب إلى تقويض الحدود التي رسمها قرار التقسيم جراء استيلاء القوات الصهيونية على أكثر من 22% من الأراضي التي خصصت للدولة العربية، وتم تقسيم مدينة القدس إلى شطرين، حيث فرضت الحركة الصهيونية سيطرتها على القسم الغربي، وقامت بتهجير معظم سكانه العرب، في حين سيطرت الأردن على الشطر الشرقي من المدينة.
وفور الإعلان رسمياً عن إنتهاء الإنتداب البريطاني على فلسطين في 14 ايار 1948، أصدر أعضاء مجلس الشعب الممثل للمجتمع اليهودي إعلان قيام إسرائيل، جاء فيه:"إستناداً إلى ما لنا من حق تاريخي وطبيعي وبناء على قرار الأمم المتحدة، نعلن قيام دولة إسرائيل في أرض إسرائيل، لتكون معروفة بإسم دولة إسرائيل". وفي اليوم التالي استغلت إسرائيل حالة الفراغ والفوضى الناشئة عن انسحاب القوات البريطانية من فلسطين، واستولت على كافة الاحياء العربية الواقعة في الجزء الغربي من مدينة القدس، والتي كان عددها انذاك 15 حيا.ً وفي المقابل تدخلت الجيوش العربية، وحاصرت مدينة القدس، وعزلتها عن سائر المستوطنات اليهودية، وأسفرت المعركة عن وقوع القسم الشرقي من المدينة بأيدي القوات الأردنية، والقسم الغربي بأيدي الإسرائيليين.
توجهت الأمم المتحدة على أثر ذلك لمجلس الوصاية التابع لها، وطلبت منه دراسة الإجراءات الكفيلة بحماية مدينة القدس ومواطنيها، وأن يرفع في أقرب وقت ممكن إقتراحات بهذا الشأن للجمعية العامة. وفي 17 أيار تم تعيين وسيط دولي لفلسطين (الكونت برنادوت) الذي أوصى بدوره بإقامة لجنة تحقيق خاصة بفلسطين، وأنشئت لجنة توفيق تابعة للأمم المتحدة لتتولى مهمة تثبيت وضع دولي دائم لمدينة القدس، وتقرير حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم. وفيما يخص القدس، نص القرار 194 على اتخاذ مجلس الأمن التدابير الكفيلة بنزع السلاح من المدينة، وإصدار تعليمات للجنة التوفيق بتقديم إقتراحات مفصلة بشأن نظام دولي دائم للمدينة، بما يضمن لكل من الفئتين المتنازعتين تأمين الحد الأقصى من الحكم الذاتي المحلي المتوافق مع النظام الدولي، وإدراج مقترحات وتوصيات بشأن الأماكن المقدسة، وتقديم هذه التوصيات والمقترحات للدورة الرابعة لهيئة الأمم.
أقامت لجنة التوفيق لجنة خاصة بالقدس، وأوكلت إليها مهمة التشاور مع ممثلي الحكومات العربية وممثلي مختلف الطوائف الدينية في المدينة، حيث أبدت الهيئات والوفود العربية استعدادها القبول بإقامة نظام دولي خاص لمدينة القدس، شريطة أن تقدم الأمم المتحدة ضمانات بشأن استقرار وديمومة هذا النظام. ولكي لا تنسحب من الأراضي التي سيطرت عليها على نحو غير مشروع، وبضمنها الشطر الغربي من القدس، رفضت إسرائيل القبول بإنشاء نظام دولي خاص للمدينة وفقاً لما هو منصوص عليه في القرارين 181 و 194، وأعلنت قبولها بسريان نظام دولي على الأماكن المقدسة فقط.
من جهتها، أعلنت السلطات الأردنية في 24 نيسان 1950 عن ضم الضفة الغربية، وبضمنها القدس الشرقية، واعترفت بريطانيا بهذا الإتحاد معلنة عن سريان إتفاقية الدفاع المشترك بين الأردن وبريطانيا على الضفة الغربية والقدس. وفي 1 نيسان.من نفس العام، نظمت أول إنتخابات نيابية شملت الضفتين، والتأم مجلس الأمة المؤلف من مجلس النواب ومجلس الأعيان، واتخذ قرارا بوحدة ضفتي نهر الأردن-فلسطين والأردن- ضمن المملكة الأردنية الهاشمية، وبقيت القدس الشرقية تحت السيطرة الأردنية لغاية السابع من حزيران 1967.
حاولت الأمم المتحدة طيلة عقدين تطبيق النظام الدولي الخاص على القدس، لكنها فشلت نتيجة الرفض الإسرائيلي، والعمل بشكل مواز على فرض سياسة الأمر الواقع تمهيداً لقبول الأمم المتحدة بالسيطرة الإسرائيلية على الشطر الغربي، مما أفضى لفشل جهود اللجنة. وعلى أثر إحتلال الضفة الغربية وبضمنها القدس الشرقية، إبان عدوان حزيران 1967، توجهت اللجنة إلى هيئة الأمم، ووضحت التعقيدات التي استجدت على قضية القدس، وأعلنت أنه لم يعد بإمكانها بذل أية جهود في هذا المجال.
وفور الاستيلاء في حرب حزيران 1967 العدوانية على الأرض الفلسطينية المحتلة، وبضمنها القدس الشرقية، وبسط السيطرة عليها، باشرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بانتهاج السياسات الكفيلة بتنفيذ المشاريع المعدة مسبقا، والمتمثلة بالاستيلاء على الأراضي ومصادرتها، وتشييد المستوطنات ونقل المستوطنين اليهود إليها وتوطينهم فيها. كانت القدس الشرقية الأكثر إستهدافاً، إذ شرعت سلطات الاحتلال بتطبيق السياسات الهادفة للنيل من طابعها العربي، والتطهير العرقي، وعزل المدينة عن باقي أرجاء الأرض الفلسطينية المحتلة، وتهجير مواطنيها الفلسطينيين، وتهويدها، وضمها. وذلك ما عبر عنه في السابع من حزيران 1967 الجنرال موشيه ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، والذي أعلن عن سياسة دولة الاحتلال الهادفة لإبقاء سيطرتها على الأراضي المحتلة، وتحديداً القدس، حين صرح بما يلي: (لقد حررت قوات جيش الدفاع الإسرائيلي القدس وأعدنا توحيد هذه المدينة - عاصمة إسرائيل - وعدنا إلى اقدس الأماكن ولن نرحل عنها مرة أخرى أبدا).
ولتحقيق ما أعلن عنه موشيه دايان، وضم المدينة بشكل فعلي، اجتمعت الحكومة الإسرائيلية بتاريخ 11/6/1967 لتحديد مستقبل القدس المحتلة، وكيفية التعاطي معها، فأجمعت على وجوب ضمها، وأوكلت مهمة وضع الخطوات اللازمة لتنفيذ ذلك إلى لجنة رقابة خاصة. قدمت اللجنة للحكومة الإسرائيلية ثلاثة اقتراحات لقوانين هي: قانون تعديل قانون أنظمة السلطة والقضاء (رقم 11) لسنة 1967، قانون تعديل قانون البلديات (رقم 6) لسنة 1967، قانون المحافظة على الأماكن المقدسة لسنة 1967.
عرضت مقترحات القوانين على الكنيست الإسرائيلي، وتمت المصادقة عليها في 25/6/1967. وفي اليوم التالي أصدرت الحكومة الإسرائيلية مرسوم أنظمة السلطة والقضاء (رقم1) 1967، والذي كرس الولاية القضائية والإدارية لدولة الاحتلال على مناطق القدس الشرقية. وصرح وزير العدل الإسرائيلي آنذاك في الكلمة التي ألقاها في الكنيست بأن الجيش الإسرائيلي قد حرر من نير الغرباء أجزاء كثيرة، وأن هنالك حاجة إلى القيام بإجراءات من أجل تثبيت السيادة عليها، وجعل القضاء الإسرائيلي يسري عليها.
ووفقاً لمرسوم أنظمة السلطة والقضاء، بسطت سلطات الإحتلال الإسرائيلي ولايتها القضائية والإدارية على مناطق البلدة القديمة، وصور باهر، والشيخ جراح، ومطار قلنديا، وجبل المكبر، وشعفاط، ووادي الجوز، والعيسوية، بيت حنينا ،سلوان ،الثوري،شرفات وبيت صفافا. بموازاة ذلك قام وزير الداخلية الإسرائيلي بإصدار مرسوم "إعلان القدس" الذي نص على توسيع نفوذ بلدية القدس ليشمل القدس الشرقية والقرى والبلدات المجاورة لها، بما فيها البلدة القديمة لتصبح القدس المحتلة ضمن سلطة بلدية "القدس الإسرائيلية".
لاقت القوانين الثلاثة والمراسيم المرتبطة معارضة من قبل الأمم المتحدة باعتبارها تستهدف القدس، وتمس بالوضع الذي كان قائماً فيها قبل الاحتلال، واتخذت جملة من القرارات، دعت بموجبها سلطات الإحتلال لعدم القيام بأي إجراء من شأنه تغيير وضع القدس. ومن أبرز هذه القرارات، قرار الجمعية العامة رقم (2253) (الدورة الإستثنائية الطارئة-5) الذي طالب إسرائيل بإلغاء التدابير المتخذة لتغيير وضع المدينة، والإمتناع عنها في المستقبل، معتبرة أن تلك التدابير غير صحيحة، وطالبت إسرائيل بإلغائها والإمتناع عن الإتيان بأي عمل من شأنه تغيير مركز المدينة.
وأعرب وزير الدولة للشؤون الخارجية بالمملكة المتحدة في خطابه أمام الدورة الإستثنائية للجمعية العامة والتي نتج عنها إتخاذ القرارين 2253-2254 عن موقف بلاده قائلاً: "أن الحرب ينبغي أن لا تؤدي إلى توسع اقليمي ... وأنا أهيب بدولة إسرائيل ألا تتخذ فيما يتصل بالقدس أية خطوات من شأنها أن تتعارض مع هذا المبدأ. وأقول بكل جدية لحكومة إسرائيل أنها لو تصرفت بشكل يفهم منه أنها ستقوم بضم المدينة القديمة، أو بإصدار تشريعات لضمها، فإنها تكون بذلك قد اتخذت خطوة تؤدي إلى عزلها عن الرأي العام العالمي فحسب، بل وكذلك الى فقدانها لما تحظى به من تأييد.
واقتصرت معارضة الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي للسياسات الإسرائيلية على الجانب الشكلي. ونتيجة الواقع الجديد الذي تمخض عن الإحتلال الإسرائيلي للشطر الشرقي من المدينة، أخذ الموقف الدولي والعربي الداعي لتطبيق نظام دول خاص على مدينة القدس طبقا لما جاء في القرار رقم (181) في الإنحسار، وبرزت مواقف مغايرة وغير متجانسة، وتنازلت الولايات المتحدة عن موقفها الداعي لإقامة نظام دولي خاص وتطبيقه، على القدس بأكملها، واتخذت موقفاً مغايراً، يقضي بأن وضع مدينة القدس يجب أن يبت فيه عن طريق المفاوضات بين اليهود والعرب.
واصلت السلطات الإسرائيلية رفضها الامتثال للقرارات الدولية، واستمرت بتهويد مدينة القدس، وبناء المستوطنات، واستقدام المستوطنين اليهود وتوطينهم فيها، في حين أنها تعمل جاهدة وبشتى الطرق لاستهداف التواجد الفلسطيني في المدينة. وبعد وضع الإطار القانوني الكفيل بضم المدينة، باشرت سلطات الإحتلال باتخاذ الإجراءات العملية لفرض السيطرة على المدينة ومواطنيها الفلسطينيين، فلجـأت للاستيلاء على الأرض ومصادرتها، وبناء المستوطنات، وعزل المدينة على باقي أرجاء الارض المحتلة، والتضييق على الفلسطينيين لإجبارهم على الهجرة منها.
ولعله من أخطر الإجراءات على هذا الصعيد، سن الكنيست القانون الأساسي "القدس عاصمة إسرائيل" وذلك بتاريخ 30/7/1980 لتتضح بذلك النوايا والتوجهات الإسرائيلية الهادفة إلى ضم وتهويد المدينة، وليتضح للعالم ولمنظمة الأمم المتحدة بأن جميع المخاوف والتساؤلات التي راودتها بخصوص الممارسات الإسرائيلية تجاه القدس المحتلة كان لها ما يبررها، وأن الإجراءات تأتي في سياق خطة متكاملة، هدفها النهائي تهيئة الأجواء لضم المدينة بشكل فعلي.
نص قانون الضم على إعتبار "القدس الكاملة والموحدة عاصمة إسرائيل"، وشدد على ضرورة تكثيف وتثبيت المؤسسات الرسمية للدولة في المدينة كمقر رئيس الدولة والكنيست، ومقر المحكمة العليا، والحكومة الإسرائيلية، كما نص على لزوم تخصيص منحة سنوية " لبلدية القدس الموحدة " من قبل الحكومة الإسرائيلية من أجل تطوير المدينة.
جوبه قرار ضم القدس الشرقية برفض شديد من قبل الأمم المتحدة، ومن المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية. واتخذ مجلس الأمن القرار 478، الذي عبرعن إستنكاره الشديد لضم القدس الشرقية، ولرفض السلطات الاسرائيلية احترام وتطبيق القرارات الدولية المتعلقة بالمدينة، وسائر الأراضي المحتلة، واعتبر ذلك الرفض بمثابة انتهاكا خطيرا للقانون الدولي، وأكد على عدم إعترافه بجميع الإجراءات والأعمال التي تقوم بها سلطات الإحتلال الإسرائيلي والتي من شأنها تغيير مركز القدس بما فيها "القانون الأساسي"، وناشد كافة الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة بمساندة القرار 478، وطالب الدول التي لها بعثات دبلوماسية في مدينة القدس بسحبها. وعلى أثر ذلك قامت جميع الدول التي لها بعثات دبلوماسية في المدينة بسحب هذه السفارات وعددها 13 سفارة.
خلاصة:
تدعى السلطات الإسرائيلية أن احتلالها للشطر الغربي من القدس كان بدافع حماية اليهود الذين تواجدوا فيه آنذاك، وملء الفراغ الحاصل في السيادة بعد أن تم جلاء القوات البريطانية عن فلسطين، في حين تعتبر سيطرة الأردن على الشطر الشرقي من القدس بمثابة احتلال غير مشروع، وأن احتلالها لهذا الشطر عام 1967 هو بمثابة إعادة توحيد إسرائيل للمدينة.
لكنه ليس لتلك الحجج التي تطرحها السلطات الاسرائيلية أي قيمة قانونية بصفتها تسعى لتبرير السيطرة على القدس الغربية واحتلال الأراضي العربية عام 1967، ورفضها الإلتزام بتطبيق الأحكام والقواعد التي تنظم حالة الإحتلال الحربي belligerent occupation)) في سبيل مواصلة التهويد والضم من خلال الاستيطان والتهجير القسري لفلسطيني القدس.
ومما يؤكد مخالفة الموقف الاسرائيلي للمبادئ والأسس التي يقوم عليها القانون الدولي المعاصر، فإن حق الدول في الدفاع عن النفس لا يجيز لها احتلال أراضي الغير وإبقاء السيطرة عليها. وانطلاقاً من ذلك باستطاعتنا التأكيد على عدم شرعية وبطلان الإدعاء الإسرائيلي القائل بأن سيطرة القوات اليهودية على مدينة القدس الجديدة (الغربية) أملته الضرورة في الدفاع عن النفس. وفي نفس السياق وفي إطار تفنيده للحجج الإسرائيلية، يشير البروفيسور (راي جينكز) في مؤلفه (اكتساب الأراضي في القانون الدولي) قائلا: "أن العلة في حق إسرائيل في امتلاك القدس الجديدة يكمن بعدم إعتراف الدول بذلك، وأن ظهور دولة إسرائيل والإعتراف بها قضية مختلفة عن حدودها الناجمة عن السيطرة على القدس الجديدة، لأن ذلك مسألة أخرى مختلفة عن الأولى، وأنه يجب التمييز بين القضيتين، مضيفاً: أن قبول إسرائيل بقرار التقسيم يعني وبدون أي مجال للشك اعترافها بجعل القدس كياناً منفصلاً حسبما جاء في هذا القرار وإن كانت إسرائيل قد رفضت ذلك لاحقاً، وأن استيلاء الأردن على المدينة القديمة لا يعطي إسرائيل أي سند تمليك للشطر الغربي من المدينة، مشدداً على وحدة المدينة وعدم الإعتراف الدولي بأي حق في المدينة بشطريها، لا للإسرائيليين ولا للأردنيين حتى وإن سيطرا عليها فعلياً".
|