الجالية الافريقية في القدس
محمود جدّه
المؤسسات في البلدة القديمة :
الوجود الافريقي في فلسطين بشكل عام وفي القدس بشكل خاص ليس بالحديث. فالأفارقة متواجدون في هذه المنطقة على الأقل منذ الفتح العمري للقدس. ولكن ما يهمنا هنا هو الحديث عن الجالية الافريقية في القدس ، والتي تقيم على المدخل الرئيسي للمسجد الاقصى في باب الناظر.
يعود وجود الأفارقة في القدس والتي تعود جذورهم الى دول تشاد، نيجيريا، السودان والسنغال، الى اواخر القرن التاسع عشر. وأسباب وراء مجيئهم الى هذه المدينة المقدسة تنحصر في سببين جوهريين هما الاول: ديني حيث جاءوا لقضاء ما يوصف بالحجة المقدسية، وهم بهذه الحالة يكونون قد حجوا الى المواقع الثلاث الأساسية في العقدية الاسلامية ،ألا وهي الحرم المكي والحرم النبوي الشريف في المدينة المنورة والحرم القدسي الشريف. أمّا السبب الآخر فهو جهادي حيث قدموا للدفاع عن المقدسات الاسلامية ضد التواجد البريطاني ومن ثم الصهيوني. وقد شاركوا في المعارك المتعددة التي خاضها الفلسطينيون ضد الحركة الصهيونية والأبرز منها معركة جبل المكبر التي قادها محمد طارق الافريقي،واستطاع ومن معه من القوات الفلسطينية والاردنية انقاذ جبل المكبر ومحيطه من الاحتلال ا لصهيوني عام 1948.
مقر الجالية:
تستقر الجالية الافريقية في اثنين من المواقع التاريخية في البلدة القديمة تعود الى الفترة المملوكية. المكان الاول هو اول رباط يشيد في القدس، ألا وهو رباط علاء الدين البصير، ناظر الحرمين الشريفين، على الجهة اليمنى من الخارج من المسجد الاقصى، والرباط المنصوري المقابل له والذين لا يبعدان سوى عدة امتار عن مدخل الاقصى.
على مدخل الرباط مسطبتان حجريتان على الجهتين الشرقية والغربية ، يليهما بوابة في اعلاها نقش يبين باني الرباط وتاريخ بنائه، ومن ثم ندخل الى دركاة، عبارة عن ممر ضيق، على يمين الداخل توجد غرفة مخصصة للحرس، ومن ثم بوابة أخرى تطل على ساحة سماوية.
أحيل هذان الرباطان الى سجنين في الفترة العثمانية ، حيث خصص الرباط المنصوري للمحكوم عليهم بالسجن لمدد مختلفة، أمّا رباط علاء الدين فقد خصص للمحكوم عليهم بالاعدام، ومن هنا جاءت تسميتهم بحبس الرباط ، وحبس الدم على التوالي. ويعد الرباطان من أملاك الأوقاف الاسلامية.
والسبب في استقرار الأفارقة في هذا المكان، هو ان معظمهم في ذلك الوقت كانوا من سدنة المسجد الاقصى ، يقومون بحراسته والاعتناء بنظافته وخدمة زواره. وكانوا في ذلك الوقت منتشرين في عدة مواقع، وطالبوا بأن يتجمعوا في مكان واحد حتى يسهل عليهم خدمة الاقصى بشكل افضل. وبالفعل ا ستطاعوا الاستقرار في هذين المكانين بمساعدة فلسطين الحاج امين الحسيني.
يعود وجودهم في هذين المكانين حسب اعتقادي الى نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، أو بداية العقد الثالث. أستند في ذلك على اساس انه تم انشاء المتحف الاسلامي، وهو أول متحف في فلسطين، في سنة 1921 أو 22 19ثم انتقل هذا المتحف في عام 1929 الى داخل المسجد الاقصى بالقرب من باب المغاربة.
يبلغ تعداد الجالية الافريقية في القدس اليوم حوالي ثلاثة مائة شخص. الموجودون اليوم هم من ابناء الجيل الثاني والثالث بنسبة 52% اناث و48% ذكور، والجالية مجتمع فتي إذ تقل أعمار الغالبية الساحقة منها عن العشرين عاما. ومع الأسف الشديد لم يبق أحد من الجيل الاول. فجميعهم الآن في ملكوت السماء. وللحقيقة أقول أنني لم أشاهد أحدا أشد منهم ايمانا وحرصا على الاسلام والمسلمين في هذا البلد.
الظروف السكنية:
لا تختلف الظروف السكنية للجالية الافريقية عن بقية ابناء البلدة القديمةمن القدس الشريف، حيث تعاني منازلهم من الكثافة السكانية العالية، وانعدام الخصوصية الى حد كبير، وقلة التهوية والانارة الطبيعية وارتفاع نسبة الرطوبة ، فالغرف ضيقة جدا ، وملتصقة بعضها ببعض، فهي بالأساس لم تـُبن لسكن العائلات، بل لإيواء لافراد فيما كانت تسمى الغرفة الواحدة "خلوة". ونظرا للرغبة الشديدة بالبقاء الى جانب الأقصى، ولضعف الامكانيات المادية اضطر الأفارقة الى بناء غرف اضافية في الساحات المكشوفة ، بلغت في بعض الحالات الى ثلاث طوابق. وفي العامين الماضيين قامت مؤسسة التعاون مشكورة بتأهيل المباني في رباط علاء الدين لتكون ملائمة أكثر للسكن.
الجالية الافريقية والقضية الوطنية:
ليس بالغريب أن انخرط أبناء الجالية الافريقية في النضال الوطني الفلسطيني، مثلهم كمثل أبناء فلسطين الأصليين، فلقد كان سبب وجودهم بالأساس هو الدفاع عن الأقصى والمقدسات الاسلامية من رجس الاحتلالين البريطاني والصهيوني.
اول من نفذ عملية فدائية ضد الكيان الصهيوني بعد نكسة حزيران 1967، هي ابنة الجالية الافريقية فاطمة البرناوي وهي في نفس الوقت أول اسيرة فلسطينية، أمضت في الأسر عشر سنوات، وأفرج عنها في اطار عملية تبادل، ومن ثم عادت مع السلطة الفلسطينية الى ارض الوطن، وكان لها شرف قيادة الشرطة النسائية في اطار السلطة الوطنية الفلسطينية. وكذلك ساهم ابناء الجالية في مختلف اشكال النضال الوطني الفلسطيني وكان لهم أداور بارزة ، وأصابهم ما اصاب أبناء الشعب الفلسطيني من انتهاكات : الاستشهاد والأسر والاعتقال الاداري والنفي والابعاد وهدم المنازل والاقامات جبرية...الخ
وكأمثلة على غيرة أبناء الجالية الافريقية على فلسطين والفلسطينيين، أورد هنا بعض النماذج للدلالة على ذلك.
ويحضرني هنا منظر عمي محمد خالة قوس رحمه الله. فعندما سمع ان القوات الصهيونية دخلت البلدة القديمة ، استشاط غضبا وقام وحمل سيفا وخرج يود منازلتهم. فالتم عليه شباب الجالية وأخذوا السيف من يده حيث احتاج ذلك منا جهدا كبيرا، نظرا للعناد الذي تمتع به في تلك اللحظة وشدة غضبه.
وكذلك عمي الشيخ جبريل لم يستطع البقاء في المدينة المقدسة ، وهي تدنس من قبل قوات الاحتلال الصهيوني. فخرج سيرا على الأقدام الى عمان على الرغم انه تجاوز الثمانين من عمره يومئذ.
بشير ابراهيم جبريل: من كبار المناضلين الفلسطينين حيث كان ضليعا في العمليات الخارجية ضد الاهداف الاسرائيلية على مستوى العالم تحت شعار "وراء العدو في كل مكان". ومن أبرز العمليات التي شارك بها عملية خطف طائرة الى مطار القاهرة، ونسفها هناك بعد ان أخلاها من ركابها. ولكن للأسف استطاعت قوة من الموساد الاسرائيلي اغتياله في اثينا عام 1979.
أسامة محمد آدم جدة هو من بين الشهداء الأوائل ان لم يكن الأول في اتنفاضة الاقصى 2000.
وقد شارك اثنان من ابناء الجالية الافريقية في مجموعة فدائية تعد أول مجموعة فدائية تهاجم اسرائيل في تل ابيب في آب وايلول 1968، فيما عرف بليلة القنابل في القدس والمحطة المركزية في تل ابيب. ونتيجة لذلك امضوا قرابة السبعة عشر عاما في الأسر.
ومن الجدير بالذكر ان كل تيار وطني فلسطيني تجد له مؤيدين وانصارا بين ابناء الجالية الافريقية. وهذا ان دلّ على شيء فانما يدل على مدى اندماج أبناء الجالية الافريقية في النسيج الوطني الفلسطيني.
الجالية الافريقية والاندماج الاجتماعي:
بالنسبة الى الجالية الافريقية استطيع القول انها لم يكن لها مشكلة في يوم من الأيام في أن تكون جزءا لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني بعاداته وتقاليده. فلقد تربى أبناء الجالية الافريقية على الثقافة الاسلامية التي ترفض التمييز بين البشر وتقبل الآخر دون أيّ اشكال. ولكن للحقيقة أقول أن أبناء الجالية يشعرون ببعض التمييز من قبل ابناء الشعب الفلسطيني، وهذا ما يسبب لهم ألما شديدا. فالبعض من أبناء مجتمعنا الفلسطيني يطلقون علينا لفظ "العبيد" وعلى مكان سكنانا "حبس العبيد" على الرغم من أننا لم نكن في يوم من الأيام عبيدا. ويجهلون أو يتجاهلون أن البيض أيضا خضعوا لنظام العبودية ، وقد يكون آباؤهم ممن عانوا من هذا النظام. والبعض من أبناء المجتمع الفلسطيني وللأسف الشديد يرفضون التزاوج مع أبناء الجالية ، وهناك أمثلة عديدة على ذلك. وهذه التعامل أدى الى ردة فعل لدى بعض شباب الجالية الذي طالبوا بالانطواء، وعدم الاندماج في المجتمع الفلسطيني ، والذي حسب تعبيرهم تنكر لنضالاتهم ومحاولاتهم للاندماج في المجتمع اندماجا كاملا. الا أن هذه الاصوات لم تعد تسمع اليوم بتاتا.
الوضع الاجتماعي للجالية:
تتميز الجالية بروابط اجتماعية قوية ، ويتجلى ذلك في المشاركة الكاملة في الأفراح والأتراح ونوائب القدر. وكانت لدينا عادات خاصة بنا. فعلى سبيل المثال كنا نتناول طعام الغذاء كل يوم جمعة معا بعد صلاة الظهر. حيث كان الجميع يشارك بتكاليف الغذاء كل حسب امكانياته ، فلم يكن هناك مبلغ واحد مفروض على الجميع.
بعد انتهاء الصلاة نجتمع في الرباط المنصوري في مكان يعرف لنا باسم تحت التوتة (كانت وما زالت هذه التوتة قائمة) ونتناول وجبة العصيدة والطبق المرافق لها، وهو إمّا الملوخية الناشفة أو ما يعرف باسم الويكة (عبارة عن بامية مجففة ومجروشة) المزودة بالبهارات خاصة الفلفل الحراق. وبعد تناول الغذاء نلتفّ جميعا حول أحد الآباء، ونتحدث في شؤون الدين حتى صلاة العصر. وبعد صلاة العصر يستمر اللقاء ،وكنا نتناول الأوضاع الاجتماعية والسياسية العامة بالعرض والتحليل. ولكن مع الأسف الشديد هذه العادة لم تعد موجودة اليوم إلا في حالات نادرة جدا حيث تقتصر على المناسبات الاجتماعية وتناول العصيدة.
وما يميز الآباء شدة تمسكهم ببعضهم البعض، وتفقد أحوال أحدهم الآخر ويكاد يكون من المستحيل أن يهجع أحدهم الى النوم، أو يخلد الى الراحة قبل أن يتفقد الموجودين حوله. كما لم يبدأوا بتناول وجبة الطعام قبل أن يتأكدوا على الأقل من أن طبقا أرسل الى الجيران -على الرغم من قلة الحيلة كما يقال-. فكانوا دوما يقولون كيف لنا ان نأكل بينما جيراننا قد لا يكون لديهم شيئا يأكلونه، وكيف لنا أن نشعر بالشبع وجارنا قد يكون جائعا. وعلى الرغم من فقرهم وحاجتهم الى المساعدة فانهم لم يبخلوا قط بالصدقة على المحتاجين طالما كان في جعبتهم -إن صح التعبير- أكثر من حاجتهم في ذلك اليوم. أتذكر الآن كيف كانوا يوزعون الزكاة ، ولا أفهم كيف كانوا يفعلون ذلك؟ فانا متأكد من أنه لم يكن لديهم الحد الأدنى من المال الذي يوجب الزكاة.
واذا نظرنا الى زاوية أخرى وهي العلاقة بين الجنسين، فقد كانت قائمة على المساواة وعدم التمييز ، بل ان الفتاة تحظى باحترام ومعاملة أحيانا أفضل من الشاب. فلم تعانِ فتاة الجالية من التمييز ضدها ،بل على العكس تـُعامل بكامل الاحترام. ومع العلم أن الآباء متدينون الا انهم لم يفرضوا على بناتهم وزوجاتهم ارتداء الحجاب أو الزي الشرعي كما يعرف اليوم. بل كانوا على الدوام يقدمون النصيحة للجميع دون استثناء، النصيحة القائمة علىأسس الشريعة الاسلامية ويتركون المجال للشخص أن يختار. وكانوا يقولون دوما لا إكراه في الدين، الحلال بيّن والحرام بيّن.
فهذه القيم و الأخلاق أين نجدها اليوم؟ ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء الناس عاشوا ببساطة، على ما نعتقد لم يسمعوا قط بالشرعة الدولية لحقوق الانسان التي نتغنى بها صباح مساء، ولم يتلقوا دورات في حقوق الانسان والجندر ومكافحة الفقر والضغط والمناصرة ،وحقوق المرأة والطفل والحق في التعليم، وما الى ذلك من الأمور التي نعيشها اليوم ونصرف عليها مبالغ طائلة.
الوضع الاقتصادي لأبناء الجالية:
يعد أبناء الجالية الافريقية من الكادحين. وسبب ذلك يعود الى التسرب من المدارس للمساعدة في اعالة العائلات. فمعظم الشباب هم من العمال وقلة قليلة منهم موظفون.
أمّا آباؤنا فقد عملوا في سلك الشرطة والحراسة، وبيع الفستق أو ما يعرف بالفول السوداني، فلقد فقد كانوا يُحمصون الفستق يدويا بطريقة لا يعرفها أحد غيرهم،طريقة تعطي الفستق طعما ونكهة خاصنين. ولتمييزه عن باقي الفستق في الأسواق كانوا يطلقون عليه فستق عبيد. كان الفستق يضع في وعاء أطلقوا عليه اسم البابور ، له مدخنه يخرج منها دخان ابيض، يعطي المارة منظرا خلابا ويغريهم لشرائه. ولا بُدّ من ذكر السيدة أمّ كاتيكير وهي أشهر بائعة فستق في القدس في تلك الفترة ،حيث كانت تجلس امام بابورها على الجهة اليسرى من داخل باب العامود ،بحيث باتت جزءا من الصورة الطبيعية لباب العامود. فاذا غابت يوما كان الكل يفتقدها.
الوضع العلمي والثقافي:
لم يحظ ابناء الجالية بالتعليم العالي نظرا للظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشونها، فمعظم الشباب يتركون الدراسة من اجل العمل لاعالة عوائلهم ،ومعظمهم تركوا الدراسة قبل أن ينهوا المرحلة الثانوية، وقليلون منهم حازوا على شهادة البكالوريوس. أمّا من حيث الوضع الثقافي فهناك مثقفون على درجة عالية من الوعي السياسي والاجتماعي والاقتصادي على الصعيدين المحلي والعالمي.
أمّا على الصعيد الرياضي فكان لهم دور مميز أيضا، فالعديد من أبناء الجالية الافريقية كان لهم دور كبير في رياضة الملاكمة، وأخص بالذكر السيد محمد حمزة الزرقا الذي كان من أبرز الملاكمين في الوطن، وحاز على بطولة المملكة الأردنية الهاشمية في الوزن المتوسط عام 1966. ولا أعرف كيف أصفه ؟أهو ملاكم فنان أم فنان ملاكم، فهو ذو قوة بدنية ولياقة عالية وأخلاق رفيعة ، صاحب نكتة والابتسامة لا تفارقه ولا يمل. وكذلك احمد ابو السعود حيث كان لهم مساهمات على مستوى دولي ايضا. وكذلك برز عدد من ابناء الجالية الافريقية في العاب كرة القدم والسلة والطائرة.
|