العالم اليوم كله قلق مرتبك يترقب؛ فكيف فلسطين تكون؟! وهي تعاني صعوبات آنية لا ترحم، تنهشها أنياب الاستيطان، وأنياب المستوطنين، ويتوغل اليهود في المسجد الأقصى استفزازا واعتداء؟! والأدهى من هذا التآكل الذاتي، وجسور من الأحقاد تعوق الأمل.
لعل الهاجس الأخطر الذي يهدد الفلسطينيين الآن هو انطواؤهم على أسباب التفرق والتشرذم، وفي حال الوصول إلى الطريق المسدود السياسي- التفاوضي، أو الحواري الداخلي؛ فإن الخطر مرشح للتصاعد.
وهنا همسة/ دعوة إلى الجميع بالتفهم والتسامح وتجنب التعميم الظالم، ودعوة إلى توسيع النظر؛ فمن طبع الواقع في المشكلة أن يُؤخذ بها وبتداعياتها، ويُشغل بردود الأفعال المتولدة منها.
وحتى نحاول الإنصاف لا مجال للحكم الشمولي على حركة، أو تيار بانعدام الخير فيه، هذا الأمر على وضوحه، إلا أن استحضار ما يراه كل طرف جرائم لا تغتفر من شأنه أن يُعرِّض إلى استعداء الطرف الثاني، وأحيانا تفضيل العدو الصريح عليه، كما صرح قادة أمنيون فلسطينيون عن عدم وجود عدو لهم سوى "حماس".
في أسباب الكراهية والأحقاد لا نستطيع أن نغفل تلك الفئات المنتفعة المستفيدة من حالة الانقسام، وهي الراغبة في الانخراط في مشاريع استسلامية تصفوية، لكن في المقابل ثمة مجاميع عالية من حركة "فتح" مثلا أضحت تكن عداوة عميقة لـ"حماس"، وتراها إجرامية، وغير صادقة في تلبسها بشعار الإسلام.
وفي الجهة المقابلة يقف أبناء "فتح" الراهنة في مرآى "حماس" متواطئين مع السلطة، أو منتفعين بها، أو هامشيين غير مؤثرين، ويعزز ذلك عندهم تَدَرُّع السلطة بـ"فتح"، والزج بها في وجه أي انتقاد يوجه لها، وتصويره بأنه تخوين لـ"فتح" ولمسيرتها النضالية وتضحيات أبنائها.
لا نكون طوباويين، ولا مجددين، إذا قلنا- كما صرح بذلك فاروق القدومي مؤخرا، وتبعه مقاربا حسام خضر- أن الخلاف ليس بين "فتح" و"حماس"، ولكنه خلاف، بل معركة تشتد بيننا وبين هذا الكيان الغاصب المحتل، إذ بالرغم من المنطلقات الفكرية المتباينة بين الحركتين، إلا أن حلها، لا يكون عن طريق المواجهة العسكرية والاقتتال.
ولا نكون مبالغين، إذا قلنا إن القضية وتحدياتها أكبر من أن تنفرد حركة -مهما بلغت- بالقدرة على حلها، بل بالقدرة على الحد من الأخطار التي تتلاحق لتذويبها وطيها.
لقد تدرجت القضية الفلسطينية من مرحلة إلى أخرى، أتت تلك المراحل على كثير من القوة العسكرية الفلسطينية، من أنظمة عربية تارة، ومن اقتتال فصائلي تارة أخرى، ومن انكشاف عربي رسمي، وانشغال عربي وإسلامي شعبي، وانحياز دولي ظالم، كل ذلك وغيره أفضى إلى قبول القيادة الفلسطينية المتمثلة برئاسة ياسر عرفات باتفاق أوسلو الذي أوقع الفلسطينيين في هذه الحالة المربكة، وحوَّلهم إلى سلطة تعتمد كليا على الدعم الدولي المشروط، وجعلها على صعيد التقدم في المسار التفاوضي رهينة المزاجية الإسرائيلية وتركيبتها السياسية غير المستقرة، والمرهونة بدورها بعدم المساس بتلك الخطوط الحمر، ومنها القدس وحق العودة. فتبين حينها عجز السلطة، وقلة حيلتها، وهي تدور في حلقة تفاوضيةعبثية مغلقة، تفاوض على قضايا صعبة، بلا أوراق ضغط، فلا مقاومة من أي نوع، ولا تهديد بحل السلطة، ولا حتى تهديد جدي بوقف المفاوضات، كل ذلك بسبب الضغوط الدولية الأمريكية تحديدا، وبسبب الارتهان المالي.
وقد أوقع السلطة في هذا المأزق والمنحدر تعويلها شبه المطلق على الدعم الدولي، وما يسمى بالدعم العربي، وقد تكررت تصريحات عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية التي نعى فيها عملية السلام، ثم أعرب مؤخرا عن اعتقاده أنه من العبث والاستحالة انتظار دولة فلسطينية. فماذا تفعل السلطة، وهي ترى أمريكا تنهمك في هموم جدية اقتصادية، وهموم تتقاطع معها تتعلق بتوسعها وتمددها، وتورطها في أفغانستان والعراق؟! هل الرئيس الأمريكي القادم سيكون أكثر اهتماما بالقضية الفلسطسينية من سلفه بوش الذي سيخلف له تركة ثقيلة، ومشاكل عويصة، تهدد مكانة أمريكا الدولية؟!
إن المطلوب في هذه اللحظة الصعبة التي تزداد فيها إسرائيل عدوانا واستفزازا أن يقف الجميع وقفة مسؤولية يعترفون فيها أمام الشعب والأمة بخطورة الموقف، وأن يمتلكوا الجرأة ويقدروا عظم الأمانة التي تصدوا لها، أن تعترف السلطة بوصول طريق التفاوض إلى الإخفاق؛ فتسقطه، وأن تعلن مع حركات المقاومة أن فلسطين توشك أن تضيع تماما، إذا لم يرفد أهل فلسطين إخوانُهم من العرب والمسلمين بالدعم والالتحام في هذا الهم الذي يعكس حيوية الأمة، ويخرجها من هذا الجو الكئيب، ومن التراجعات المحلية التي لا يسلم منها قطر عربي ومسلم. وعلى الصعيد الفلسطيني الداخلي الصمود والتقارب على أسس تترفع على المكاسب الشخصية العرضية، وتنتمي إلى الحفاظ على فلسطين في وجه العدوان المتزايد.
وإلا يكن هذا ففلسطين بين خطر الإهمال الذي يعني استفحال الخطر الصهيوني وتماديه، أو خطر الاقتتال ليس فقط بين فصيلين كبيرين، بل ربما بين فئات متناحرة.